خطبة (المشتاقون للعبادة)

1436/12/04 - 2015/09/17 19:20PM
خطبة (المشتاقون للعبادة) 27-11-1436ه
الجامع القديم بمحافظة البدائع الخطيب /سليمان السلامة

الحمدلله الذي سهل لعباده إلى مرضاته سبيلا و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبد الله و رسوله اللهم صل و سلم عليه و على آله و أصحابه و أتباعه
أما بعد فاتقوا الله عباد الله فالمتقون لهم حسن العاقبة و المآب ،و لهم فقط تفتح أبواب الجنان .
أيها الناس :
من المتقرر لدينا جميعا أننا خلقنا للعبادة , لكننا في عباداتنا ما بين سابق و نشط , وبين مقصر و ضعيف , أفلا نتساءل كيف نجدد همتنا في العبادة ؟ كيف ننشط في الإقبال على ما خلقنا له ؟ كيف نشتاق للعبادة ؟
أقوى سبب و باعث على الشوق للعبادة محبة الله فخذوها قاعدة : [ بقدر محبتك لله يكون اشتياقك للعبادة ] قال ابن القيم : (( و هذا الباعث أكمل بواعث العبودية و أقواها )) .
هذا الحب و الشوق هو ما جعل نبي الله موسى عليه السلام يقول : و عجلت إليك ربي لترضى.
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : و عجلت إليك ربي لترضى قال : شوقا .
يا مؤمنون : القلوب المحبة لله , تشتاق و تبذل كل سبب في ابتغاء رضى الرحمن , لا يمنعها فقر و لا جوع و لا قلة معين .
و إليكم نبأ من الأنباء عجيب , و خبر من الأخبار غريب , و قصة من قصص المشتاقين للعبادة و رواية مدهشة من روايات المشتاقين للطاعة حدثني من أثق به من المشايخ الفضلاء أنه زار بلاد السودان بداية هذا الأسبوع و رأى امرأة عجوزا كبيرة في السن عمرها سبعون عاما جالسة على شاطئ البحر ليس معها إلا حمارها , فما قصتها و ما شأنها ؟
لقد خرجت من بلادها( تشاد) قبل عشرة أشهر , تمشي نهارا و لا يحبسها عن المشي إلا ظلام الليل , قطعت أربعة آلاف كيلومتر .
كانت ترفض أي هبة من الناس , و بعد إلحاح المحسنين توافق على تقديم العلف لحمارها , وتمتنع أن تنزل في بيت أي أحد من الناس .
وصل بها المسير إلى ساحل البحر , حاولت عبور البحر على حمارها فقيل لا يمكن ذلك , فجلست تبحث عن منفذ إلى البحر حتى أيست , فمكثت على الشاطئ قرابة الشهرين و هي تحاول خوض مياه البحر , أتدرون لماذا كل هذا الإصرار ؟ تقول : أريد الحج , و كانت تقول : إذا مت هل ستصلون علي ؟ و كانت تقول : من أراد مساعدتي فليطعم الحمار , و ليسهل لي أوراق الحج !!
سعى المحسنون لتسهيل حجها و البحث لها عن رفقة و نفقة للحج وقد تيسر ذلك , فلكم أن تستشعروا مشاعر تلك المشتاقة للحج التي جلست تنتظر قافلة الحج التي ستنطلق بعد أيام , أي مشاعر و قد وعدت بتحقيق أمنيتها و تلبية ما اشتاقت إليه؟ , لكن حال بينها وبين الحج الموت فقد ماتت على ساحل البحر رحمها الله و تركت حمارها و تركت لنا العبرة من بعدها .
أترانا نعجب من قلبها المشتاق , أم نعجب من تحملها للمشاق ؟ الله أكبر , لم يمنعها كبر سنها و لا فقرها من بذل ما تطفئ به شوقها بالإتيان للبيت العتيق
إنه الحب لله....
كل محبوب سوى الله سرف و هموم و غموم و أسف
كل محبوب فمنه خلف ما خلا الرحمن ما منه خلف
قال يحيى بن كثير : (( نظرنا فلم نجد شيئا يتلذذ به المتلذذون أفضل من حب الله تعالى و طلب مرضاته ))
يا مؤمنون : لا نتعجب حينما نرى دموع و بكاء المشتاقين للعبادة حينما تفوتهم طاعة أو فريضة فما أشد ألم المشتاق !! أخبرنا ربنا عن شأن بعض الصحابة المشتاقين للجهاد في سبيل الله عندما جاؤوا للنبي يريدون الخروج معه إلى غزوة تبوك فقال لهم :( لا أجد ما أحملكم عليه) فهل فرحوا بالقعود ؟ كلا , خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم و هم يبكون قال الله تعالى : (( تولوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )) تفيض من الدمع ، بكاء شديد و دموع تتدفق تدفقا، أين دموعنا و حزننا عندما تفوتنا صلاة الفجر ؟ أين حزننا حينما تفوتنا صلاة تلو صلاة ؟
عبادالله:
أتريدون أن تستمعوا إلى هموم المشتاقين إلى العبادة ؟ ما يدور في مجالسهم من حديث ؟ إليكم هذا الموقف لثلة من المشتاقين , عن أنس رضي الله عنه قال : اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم حذيفة , قال رجل منهم : ما يسرني أني فاتتني التكبيرة الأولى مع الإمام و أن لي خمسين من الغنم , و قال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام و أن لي مئة من الغنم , قال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام و أن لي ما طلعت عليه الشمس , و قال الآخر : ما يسرني أنها فاتتني مع الإمام و أني صليت من العشاء الآخرة إلى الفجر )) إنه الشوق للعبادة إنها القلوب حينما يقوى حبها لله جل جلاله.
يا مؤمنون : المشتاقون للطاعات حركهم حب الله , فتحركت ركائب الحجاج إلى مكة (( و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق)) قال السعدي : رجالا: أي مشاة على أرجلهم من الشوق .
قال تعالى : (( و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا)) قال ابن عباس رضي الله عنهما واصفا حال المشتاقين للحج و مكة : (( لا يقضون منه و طرا , يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه )) .
أيها الناس : المشتاقون للطاعة إذا سمعوا حي على الصلاة حي على الفلاح بادروا إلى الصلاة فرحين لأن الصلاة قرة عيونهم و راحتهم , يقطعهم الشوق إليها عن كل أشغالهم و الأنس بأحبابهم روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله ( يعني خدمة أهله ) فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )) .
المشتاقون إلى الطاعة يدفعهم شوقهم إلى قيام الليل و الخلوة بربهم و التلذذ بمناجاته , يحدوهم ما رواه مسلم من قول رسول الله الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع ؟ حتى ينفجر الفجر)).
المشتاقون دفعهم حبهم لله و شوقهم للطاعة إلى ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله , و من شوق المجاهدين ما حدث به ذلكم المجاهد الذي لم يعرف الهزيمة في كفر ولا إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه حينما قال : (( ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب , أو أبشّر فيها بغلام , أحبّ إليّ من ليلة شديدة البرد , كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو )) .
المشتاقون للطاعات و العبادات ألسنتهم رطبة من ذكر الله , صحبوا القرآن فلهم حزب من قراءته لا يتركونه , لا يطيب يومهم إلا بتلاوة القرآن .
المشتاقون للطاعات إذا علموا عن سنة من السنن النبوية فرحوا بها و اشتاقوا للعمل بها . فالعبادة عندهم ليست تعبا ولا عناء ولا مشقة بل هي محبة وتعظيم لله , يهيج عليها عظيم الشوق إليه سبحانه . اللهم اجعلنا من عبادك الأخيار و توفنا مع الأبرار و قنا عذاب النار.
2 الخطبة الثانية....
الحمد لله معزمن أطاعه .....
فمن علامة المشتاقين للطاعة الصادقين في محبتهم لله , من علامتهم الفرح بمواسم الطاعة .
ومن ذلك الفرح بموسم عشر ذي الحجة التي هي أعظم الأيام و أقسم الله بها و هو العظيم و لا يقسم إلا بعظيم : (( و الفجر و ليال عشر ))
أيام معلومات عظيمات يشرع فيها الإكثار من الذكر و الطاعات المتنوعات، فللعمل الصالح فيهن مزيات , روى البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر- قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه و ماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء )) .
فيا مؤمنون : عظموا ما عظم الله , و افرحوا بهذا الموسم و أقبلوا على الطاعة إقبال المشتاقين و أكثروا من العمل الصالح , و أكثروا من ذكر الله , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من أيام أعظم عند الله و لا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل و التكبير و التحميد)) رواه أحمد .
و أروا الله من أنفسكم خيرا , فالسعيد من اغتنم تلك المواسم و لم يجعلها تمر عليه مرورا عابرا.
اللهم وفقنا لهداك
اللهم نسألك حبك ..
المشاهدات 2130 | التعليقات 0