خطبة العيد (الحجُّ وصناعة التفاؤل)
إبراهيم بن صالح العجلان
(خطبة العيد / الحج وصناعة التفاؤل 1440هـ )
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ، مُكَوِّرِ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، وَمُكَوِّرِ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى سَابِغِ نِعَمِهِ وَخَيْرِهِ الْمِدْرَارِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَصَفِيُّهُ الْمُخْتَارُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقَرَارِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ (تِسْعًا).
اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَدْفِعُوا النِّقَمَ وَالْبَلَاءَ، بِالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ وَالدُّعَاءِ، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: الْإِنْسَانُ ابْنُ بِيئَتِهِ، تُؤَثِّرُ فِيهِ أَحْدَاثُ عَصْرِهِ، وَيَهُزُّ مَشَاعِرَهُ مِحَنُ زَمَانِهِ، يُنَغِّصُهُ مَا يَرَاهُ مِنْ قَتْلٍ مُبَاحٍ، وَعِرْضٍ مُسْتَبَاحٍ، وَانْتِهَاكٍ لِلْحُقُوقِ كُلَّ صَبَاحٍ.
يُحْزِنُهُ مَا يُشَاهِدُهُ مِنَ اسْتِرْخَاصٍ لِدَمِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُقَدَّسَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
تُزْعِجُهُ الْكَرَاهِيَةُ الطَّائِفِيَّةُ، الَّتِي تَتَنَفَّسُ بِهَا الْفِرَقُ الْبِدْعِيَّةُ، وَخِطَابُهَا الَّذِي يَنْضَحُ بِالْحِقْدِ وَالْعُدْوَانِيَّةِ.
يُؤْلِمُهُ تَغَنِّي الدُّوَلِ الْغَرْبِيَّةِ، بِالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي الْوَاقِعِ لا تَتَحَرَّكُ إلا وَفْقَ الْأَطْمَاعِ وَالْمَصَالِحِ السِّيَاسِيَّةِ.
يُحْزِنُهُ هَذَا كُلُّهُ، وَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَأْسَى لِهَذَا الْوَاقِعِ الْمُرِّ وَيُنْكِرُهُ فَلْيَتَحَسَّسْ إِيمَانَهُ وَانْتِمَاءَهُ... وَرَغْمَ ذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَعَبَّدُ اللَّهَ بِهَذِهِ الْأَحْزَانِ، فَرُبَّمَا كَانَ دَوَامُ الْحُزْنِ سَبَبًا لِلْقُنُوطِ وَالْقُعُودِ، فَهَذَا الدِّينُ شَرَعَهُ اللَّهُ لِيُهَيْمِنَ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِتَبْقَى، وَلِذَا كَانَتْ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ تُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى التَّفَاؤُلِ.
فَكَمْ هُوَ جَمِيلٌ أَنْ نَتَعَبَّدَ اللَّهَ بِإِحْسَانِ الظَّنِّ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ التَّفَاؤُلِ الْحَسَنِ.
فَ: (الْيَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ*** لَا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الْفَارِجَ اللهُ
وَلَوِ اسْتَجْلَبْنَا الْعَمَلَ لِلدِّينِ، وَاسْتَنْهَضْنَا الْهِمَمَ فَلَنْ نَجِدَ مُحَفِّزًا كَمِثْلِ التَّفَاؤُلِ، فَبِهِ يَصْبِرُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى مُرِّ الْقَضَاءِ، وَيَتَعَبَّدُ لِلَّهِ بِانْتِظَارِ الْفَرَجِ وَالرَّجَاءِ.
فَلَقَدْ كَانَ حَبِيبُنَا وَقُدْوَتُنَا-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرًا مَا تَتَحَرَّكُ بَيْنَ جَوَانِحِهِ خَلَجَاتُ الْفَأْلِ، فَكَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ، وَكَانَ يَتَفَاءَلُ فِي شِدَّةِ الْأَزَمَاتِ، وَسَوْدَاوِيَّةِ الْوَاقِعِ.
وَلَوْ تَأَمَّلْنَا فِي شَعِيرَةِ الْحَجِّ الَّتِي يَعِيشُهَا الْمُسْلِمُونَ الْآنَ لَوَجَدْنَاهَا مَزْبُورَةً بِصُوَرٍ مِنَ التَّفَاؤُلِ، مَا يَجْعَلُ الْقَلْبَ يَنْبِضُ فَأْلًا وَأَمَلًا.
فَكَمْ فِي مَشْهَدِ الْحَجِّ مِنْ إِيحَاءٍ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ بَاقٍ مَا بَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
وَهَلْ بَقَاءُ الدِّينِ إِلَّا بِبَقَاءِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ، فَشَعِيرَةُ الْحَجِّ فَرِيضَةٌ ضَارِبَةٌ فِي أَعْمَاقِ الزَّمَانِ، أَذَّنَ الْخَلِيلُ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَاسْتُجِيبَ لِنِدَائِهِ، فَحَجَّ الْأَنْبِيَاءُ مَعَ أُمَمِهِمْ وَثَجُّوا، وَلَبَّوْا وَعَجُّوا.
وَلَا زَالَتْ تِلْكَ الْفَرِيضَةُ تَهْفُو الْقُلُوبُ لَهَا، وَتَسِيرُ الرَّوَاحِلُ إِلَيْهَا، مُؤْذِنَةً بِبَقَاءِ هَذَا الدِّينِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
يَقُولُ أَحَدُ الْمُنَصِّرِينَ مُتَحَدِّثًا عَنْ تَجْرِبَتِهِ مَعَ التَّنْصِيرِ فِي الْبُلْدَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ: (سَيَظَلُّ الْإِسْلَامُ صَخْرَةً عَاتِيَةً تَتَحَطَّمُ عَلَيْهَا سُفُنُ التَّبْشِيرِ الْمَسِيحِيِّ مَا دَامَ لِلْإِسْلَامِ هَذِهِ الدَّعَائِمُ: الْقُرْآنُ، وَاجْتِمَاعُ الْجُمْعَةِ الْأُسْبُوعِيُّ، وَمُؤْتَمَرُ الْحَجِّ السَّنَوِيُّ).
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ: حَدِّثُونَا عَنْ قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ- مَهْمَا بَلَغَتْ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالدِّقَّةِ- تَقْدِرُ أَنْ تُحَرِّكَ مَلَايِينَ الْبَشَرِ، فِي بُقْعَةٍ صَغِيرَةٍ، وَتُنَظِّمُهُمْ فِي مَسِيرِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، وَحَالِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ.
فَيَا لَعَظَمَةِ هَذَا الْإِسْلَامِ الَّذِي يَصْنَعُ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَيَجْمَعُ النَّاسَ مِنْ شَتَاتِ الْأَرْضِ إِلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْحَارَّةِ الْقَارَّةِ، فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، لَا لِحَاجَةٍ يَتَعَيَّشُونَ بِهَا، وَلَا لِنَوَالٍ يَتَبَلَّغُونَ بِهِ، قَدْ فَارَقُوا الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَالْمَالَ وَالْأَعْمَالَ، يَتَلَذَّذُونَ بِهَذَا الِاغْتِرَابِ، أَعْظَمَ مِنْ تَلَذُّذِ الْعَطْشَى بِبَارِدِ الشَّرَابِ، حَتَّى لَكَأَنَّ أَيَّامَهُمْ تِلْكَ هِيَ أَغْلَى أَيَّامِ الْأَعْمَارِ.
فَهَلْ عَرَفَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ فِي هَذَا الْعَصْرِ، أَوْ فِي تَارِيخِ مَنْ غَبَرَ، قُوَّةً أَرْضِيَّةً، أَوْ جُهْدًا بَشَرِيًّا يَصِلُ لِمِعْشَارِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ، إِنَّهَا عَظَمَةٌ خَالِدَةٌ ومُعْجِزَةٌ خَارِقَةٌ، عَظَمَةُ مَنْ قَالَ لِخَلِيلِهِ: عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا الْجَوَابُ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الْحَجِّ: 27].
اخْتَلَفَتْ فِجَاجُهُمْ، وَتَبَاعَدَتْ دِيَارُهُمْ، وَتَنَوَّعَتْ لُغَاتُهُمْ، وَتَعَدَّدَتْ أَجْنَاسُهُمْ، وَرَغْمَ هَذَا التَّبَايُنِ إِلَّا أَنَّ الْحَجَّ جَمَعَهُمْ لِيُوَحِّدَ مَشَاعِرَهُمْ وَشِعَارَهُمْ، وَيُوَحِّدَ مَقْصِدَهُمْ وَهُتَافَهُمْ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
عِزُّ الْأُمَّةِ وَرِفْعَتُهَا وَفَلَاحُهَا هُوَ بِقَدْرِ تَحْقيقِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، فَيَأْتِي الْحَجُّ مُؤَكِّدًا وَمُعَمِّقًا هَذِهِ الْغَايَةَ، وَكَأَنَّمَا هُوَ دَوْرَةٌ تَدْرِيبِيَّةٌ عَمَلِيَّةٌ فِي غَرْسِ التَّوْحِيدِ فِي الْوِجْدَانِ.
وَتَأَمَّلْ مَعِي مَنْسَكَ الْحَجِّ تَجِدِ التَّوْحِيدَ مَرْكُوزًا فِي شَعَائِرِهِ؛ وَهَلْ جُعِلَ قَصْدُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ إِلَّا مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ؟! {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}[الْحَجِّ: 26].
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَجِّ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ فِي الْبِقَاعِ الَّتِي أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فِيهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحَجُّ شِعَارَالْحَنِيفِيَّةِ، حَتَّى قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}؛ أَيْ: حُجَّاجًا). أ . هـ
وقَلِّبُوا النَّظَرَ في مَسَاربِ التَّاريخِ لِتَرَوْا أنَّ عِزَّ هذهِ الأُمَّةِ وانْتَصَارَها ودفاعَها عن مقدَّساتِها لمْ يَقُمْ بيدِ أَهْلِ الطُرُقِ الصُّوفِيَّة، ولمْ يَكُنْ على يَدِ أَصْحَابِ الفِرَقِ البَاطِنِيَّة، وإنَّما قامَ بِهِ رِجَالاتٌ حَقَّقُوا التَّوْحِيْدَ في الضَّمَائِرِ، وانْعَكَسَ أَثَرُ هذا في واقِعِهِم بالدَّعْوةِ إِليه، والتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدِّهِ.
وَمِنْ مَعَالِمَ التَّفَاؤُلِ فِي شَعِيرَةِ الْحَجِّ: أَنَّ الْحَجَّ يُبَشِّرُنَا بِالتَّغْيِيرِ.
نُفُوسُ الْبَشَرِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ بَشَرِيَّتِهَا، فَالْخَطَأُ وَالتَّقْصِيرُ لَازِمٌ عَلَيْهَا، وَالْغَفْلَةُ وَالْهَوَى يَتَعَاقَبَانِ فِيهَا {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، فَتَأْتِي مَنَاسِكُ الْحَجِّ فَتُغَيِّرُ أَهْلَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، مِنَ الْإِعْرَاضِ إِلَى الْإِقْبَالِ، مِنَ التَّثَاقُلِ عَنِ الطَّاعَاتِ إِلَى النَّشَاطِ فِي طَلَبِ الْمَرْضَاةِ، مِنْ فُتُورِ اللِّسَانِ إِلَى الْعَجِّ بِالذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ.
وَلِذَا نَرَى الْحَاجَّ يَعُودُ بَعْدَ رِحْلَتِهِ الْإِيمَانِيَّةِ بِنَفْسٍ غَيْرِ الَّتِي ذَهَبَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ تَلَقَّى دُرُوسًا عَمَلِيَّةً مُرَكَّزَةً فِي التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَالِانْقِيَادِ لِشَرْعِهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِذِكْرِهِ عَمَّا سِوَاهُ، فَانْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى إِيمَانِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَمَظْهَرِهِ، وَمَخْبَرِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ عَوْدَةَ هَذِهِ الْمَلَايِينِ مُتَغَيِّرَةً أَحْوَالُهُمْ، زَاكِيَةً نُفُوسُهُمْ هِيَ حَالٌ تَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْظَرٌ يَبْعَثُ عَلَى الْفَرَحِ وَالتَّفَاؤُلِ، فَلَمْ وَلَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْأُمَّةِ إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ أَفْرَادِهِمْ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرَّعْدِ: 11].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ.
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ، وَفِي الْحَجِّ رِسَالَةٌ عُنْوَانُهَا: وَسِّعْ مِسَاحَاتِ الْآمَالِ، فَلِلْبَيْتِ رَبٌّ سَيَحْمِيهِ، وَلِلدِّينِ خَالِقٌ سَيُمْضِيهِ، قال الملكُ الجليل، لعبدِه الخليل: أذِّن، وتَكَفَّلَ سُبحانه بِتَبْلِيغِ صَوْتِهِ والاسْتِجَابَةِ لِنِدَائِهِ، فما عَلى البَشَرِ إلا الأخذُ بالأَسْبَابِ، والعملُ لدينهم وِفْقَ الطَّاقاتِ.
لَقَدْ حَدَّثَنَا التَّارِيخُ أَنَّ أَعْدَاءَ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَعْدَ أَنْ شَرِقُوا بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هَدَمَتْ وَثَارَتْ عَلَى الْمَفَاهِيمِ الْجَاهِلِيَّةِ اجْتَمَعُوا فِي خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ بِالْمُحَصِّبِ، وَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى مُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ مُحَمَّدًا.
إِنَّهَا تَآمُرَاتٌ أَرْضِيَّةٌ لِإِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يَكَدِ الزَّمَانُ يَدُورُ دَوْرَةً لَمْ تَطُلْ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَعْوَامٌ مَعْدُودَاتٌ، إِلَّا وَهَذَا الْمَكَانُ الَّذِي تَحَالَفَ فِيهِ الْكُفْرُ يَشْهَدُ مُنْصَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِيَقِفَ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَالْأُلُوفُ تَرْمُقُهُ، وَالْمُهَجُ تَفْدِيهِ، فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، لِتَعْلَمَ الْبَشَرِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
فَسُنَّةُ اللَّهِ مَاضِيَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنْ يَظْهَرَ الِانْحِرَافُ، وَيَبْقَى الْعَدَاءُ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَتْقِيَاءُ، لَكِنِ امْلَؤُوا الْجَوَانِحَ يَقِينًا أَنَّ الدِّينَ بَاقٍ وَمَنْصُورٌ، وَأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعَهُ هُمُ الْأَكْرَمُ وَالْأَعْلَى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وَقَلِّبُوا النَّظَرَ فِي وَاقِعِكُمْ وَتَارِيخِكُمْ، تَرَوْنَ انْتِشَارًا لِلْإِسْلَامِ مُبْهِجًا، وَعَوْدَةً لِلدِّينِ تَبْرُقُ وَتُشْرِقُ، وَإِنْ تَزَنْدَقَ مُتَزَنْدِقٌ، أَوِ ارْتَدَّ مُنَافِقٌ، فَتَيَقَّنُوا أَنَّ مَكَانَهُ سَيَأْتِي مِئَاتٌ بَلْ أُلُوفٌ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَقَدَرُ أُمَّتِكُمْ أَنْ تَبْقَى، وَيَبْقَى دِينُهَا وَقُرْآنُهَا إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التَّوْبَةِ: 33].
فَيا عبْدَ اللهِ، هذا دِينُكَ يَدْعُوكَ لِلتَّفَاؤُلِ، وَشَعَائِرُهُ تُغَذِّي فِيكَ هَذَا الْمَعْنَى، فَعِشْ هَذِهِ الرُّوحَ الْإِيجَابِيَّةَ وَالنَّظْرَةَ التَّفَاؤُلِيَّةَ فِي تَفْكِيرِكَ وَبَيْتِكَ، وَعَمَلِكَ وَمُجْتَمَعِكَ، عِشْ ذَلِكَ بِحَالِكَ وَمَنْطِقِكَ، وَبِمَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ قُدُرَاتٍ وَإِمْكَانِيَّاتٍ، أصْلِحِ الخَلَلَ، وقوِّمِ الزَّللََ، بالحِكْمَةِ والْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَمَنْ قَالَ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ.
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
عِبَادَ اللَّهِ: ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، وَكُلُوا مِنْهَا، وَتَصَدَّقُوا، وَتَهَادَوْا، وَأَحْيُوا سُنَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْأُضْحِيَّةِ، وَالْحِرْصَ عَلَى تَطْبِيقِ السُّنَّةِ فِيهَا لَهُوَ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَهُوَ عَمَلٌ صَالِحٌ مُوصِلٌ لِلتَّقْوَى، (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الْحَجِّ: 37].
المرفقات
وصناعة-التفاؤل-مشكولة
وصناعة-التفاؤل-مشكولة
وصناعة-التفاؤل-مشكولة