خطبة العيد (الثبات حتى الممات)

إبراهيم بن صالح العجلان
1440/09/26 - 2019/05/31 14:07PM
(الثبات حتى الممات) 1/10/1440هـ
الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ وَأَسْدَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نَبِيُّهُ الْمُصْطَفَى، وَخَلِيلُهُ الْمُجْتَبَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى.

اللَّهُ أَكْبَرُ (تِسْعًا)، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.

مَا أَجْمَلَ صَبَاحَكَ يَا عِيدُ، وَمَا أَسْعَدَ أَهْلَكَ الَّذِينَ أَتَمُّوا الْعِدَّةَ، وَأَخْرَجُوا الْفِطْرَةَ، وَخَتَمُوا مَوْسِمَ التَّقْوَى، وَقَدْ أَوْدَعُوهُ بِحُلَلِ الطَّاعَاتِ، وَنَفَائِسِ الْقُرُبَاتِ، وَبُشْرَاهُمُ الْفَوْزُ مِنَ اللَّهِ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) [النَّبَإِ: 31].

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: هُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَهُوَ حَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَعَ هَذَا الِاجْتِبَاءِ وَالِاصْطِفَاءِ فَقَدْ كَانَ كَثِيرًا مَا يَبْتَهِلُ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ».

سَمِعَتْ أُمُّنَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عِليه وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَتْ: وَإِنَّ الْقُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ». رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نُورِدَ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِشَرِيعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَالْحَدِيثُ عَنِ الثَّبَاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ نَافِلَةِ الْقَوْلِ، وَلَا مِنْ تَرَفِ الْكَلَامِ، هُوَ فَرِيضَةُ الْعَصْرِ، وَمَوْعِظَةُ السَّاعَةِ.

الْحَدِيثُ عَنِ الثَّبَاتِ يَتَأَكَّدُ فِي زَمَنِ جُنُونِ الْأَفْكَارِ، وَتَزْوِيرِ الْهُوِيَّاتِ.

فِتَنٌ خَطَّافَةٌ تَمُوجُ بِأَهْلِهَا مَوْجًا، وَتَرْمِيهِمْ فِي دَرَكَاتِ التَّقَلُّبَاتِ فَوْجًا فَوْجًا.

لَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ وَهُوَ يَرَى مَا يَرَى إِلَّا أَنْ يَضَعَ كَفَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَيُنَاجِيَ خَالِقَهُ وَرَبَّهُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقَلْبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».

فَلَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنَ اسْتِشْعَارِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَنَفَّسُ الْإِسْلَامَ، وَيَحْيَا عَلَى السُّنَّةِ، وَيَعِيشُ رَاضِيًا مُطْمَئِنًّا، لَا تَثُورُ فِي دَاخِلِهِ الشُّكُوكُ، وَلَا تَعْتَرِيهِ الْحَيْرَةُ.

الثَّبَاتُ عَلَى الدِّينِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ هُوَ دَعْوَةً عَابِرَةً، لَهَا زَمَنٌ وَمُنَاسَبَةٌ.

وَلَيْسَ الثَّبَاتُ نَثْرًا يُنَمَّقُ، وَلَا أَبْيَاتٍ تُدَبَّجُ، بَلِ الثَّبَاتُ مَشْرُوعُ حَيَاةٍ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الْحِجْرِ: 99].

كَلِماتُ الثَّباتِ تُخاطَبُ بِهَا أَنتَ يَا عَبْدَ الله، فإيمَانُكَ وَمُعْتقَدُكَ وَأَخْلاقُكَ وَتَرْبِيتُكَ هِيَ أَعْظَمُ جَوْهَرَةٍ تَحُوْزُها، وَتَنْعَمُ بِهَا، فلَا أَمَانَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِلَّا بِتَثْبِيتِ اللَّهِ لَكَ، فَالثَّبَاتُ وَالتَّثْبِيتُ لَا يَحُوزُهُ الْمَرْءُ بِمَالِهِ وَذَكَائِهِ، وَلَا بِجَاهِهِ وَدَهَائِهِ، بَلْ هِيَ عَطِيَّةٌ وَمِنْحَةٌ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ.

لِأَجْلِ الثَّبَاتِ دَعَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَقَالُوا: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آلِ عِمْرَانَ: 8].

نَتَحَدَّثُ عَنِ الثَّبَاتِ؛ لِأَنَّنَا نَعِيشُ فِي وَاقِعٍ مُنْفَتِحٍ وَمَفْتُوحٍ، أَصْبَحَتِ الِانْحِرَافَاتُ الْبِدْعِيَّةُ، وَالْأَفْكَارُ الْإِلْحَادِيَّةُ تَعْبُرُ الْحُدُودَ، وَتَتَجَاوَزُ كُلَّ السُّدُودِ، وَتَغْزُو الْبُيُوتَ عَبْرَ الشَّاشَاتِ وَالْهَوَاتِفِ، فَمَا كَانَ مَدْفُونًا بِالْأَمْسِ أَضْحَى الْيَوْمَ يُتَنَفَّسُ فِي الْهَوَاءِ لِيَتَلَقَّفَهُ غَيْرُ الْمُخْتَصِّ، وَغَيْرُ الْمُتَعَلِّمِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ.

نَتَحَدَّثُ عَنِ الثَّبَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَكِسِينَ الزَّائِغِينَ يُصَدَّرُونَ، وَبِالْفِكْرِ النَّيِّرِ وَالرُّؤَى الْجَدِيدَةِ يُعَرَّفُونَ.

نَتَواصَى بالثَّبَاتِ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَبْنَاءِ الْيَوْمِ غَشِيَهَا الْمَلَلُ، فَهِيَ تَبْحَثُ عَنِ التَّغْيِيرِ أَيًّا كَانَ هَذَا التَّغْيِيرُ، وَاللَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

كَمْ سَمِعْنَا وَرَأَيْنَا وَقَرَأْنَا مِنْ تَجَاوُزَاتٍ وَانْحِرَافَاتٍ، تَضْرِبُ النُّصُوصَ، وَتَمَسُّ الْعَقِيدَةَ، تُعْرَضُ ثُمَّ يَثُورُ حَوْلَهَا الْجَدَلُ، فَمَا تَلْبَثُ مَعَ كَثْرَةِ الطَّرْقِ وَالطَّرْحِ حَتَّى يَكُونَ لَهَا مُؤَيِّدُونَ وَمُدَافِعُونَ وَمُبَرِّرُونَ، يَسُوقُونَ لَهَا مِنْ زُخْرُفِ الْقَوْلِ وَيُزَيِّنُونَ، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) [التَّوْبَةِ: 47].

نَعَمْ... مُؤْلِمٌ أَنْ نَرَى مَنْ يَتَأَثَّرُ بِهَا وَيَتَغَيَّرُ، وَلَكِنَّ الْخَشْيَةَ الْأَكْبَرَ مِنْ تَأْنِيسِ الْقُلُوبِ عَلَى هَذَا، وَأَنْ يَهُونَ اسْتِنْكَارُهَا بَعْدَ تَلَقِّي صَدَمَاتِهَا.

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

عِبَادَ اللَّهِ: الْحَقُّ لَا يَضْعُفُ، وَلَا يَنْتَصِرُ الْبَاطِلُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا رَقَّ الثَّبَاتُ، وَاهْتَزَّتْ مَعَانِي التَّدَيُّنِ فِي الْقُلُوبِ.

فهم هذا الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ ابْنُ حَنْبَلٍ، الَّذِي عَاشَ زَمَنًا اسْتِثْنَائِيًّا، وَبَلَاءَ كَارِثِيًّا، انْتَفَشَ فِيهِ الْمُبْتَدِعَةُ، وَاسْتَقْوَوْا بِالسُّلْطَةِ، فَقِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ حِينَهَا: أَلَا تَرَى الْحَقَّ كَيْفَ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ؟ فَقَالَ: "كَلَّا، إِنَّ ظُهُورَ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ أَنْ تَنْتَقِلَ الْقُلُوبُ مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَقُلُوبُنَا بَعْدُ لَازِمَةٌ عَلَى الْحَقِّ".

فَثَبَاتُ الْقُدْوَاتِ هُوَ تَثْبِيتٌ لِغَيْرِهِمْ، وَالتَّارِيخُ يَشْهَدُ أَنَّ ثَبَاتَ قُدْوَةٍ عَلَى الْحَقِّ، نَتِيجَتُهُ جِيلٌ صَالِحٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ.

وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ اهْتَزَّ تَدَيُّنُهُ لِاهْتِزَازِ ثِقَتِهِ فِي قُدْوَةٍ كَانَ يَرَاهَا.

وَبِالتَّالِي، وَحِفْظًا عَلَى الثَّبَاتِ وَالِاعْتِدَالِ، فَالْوَاجِبُ الِاعْتِدَالُ فِي النَّظَرِ إِلَى الرِّجَالِ، فَمَهْمَا عَلَتْ مَنْزِلَتُهُمْ تَبْقَى أَقْوَالُهُمْ مَرْهُونَةً بِمُوَافَقَتِهَ لِلْحَقِّ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَلَا يَأْمَنُ أَحَدٌ الْبَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي خَافَ فَقَالَ: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إِبْرَاهِيمَ: 35]، وَمَا أَجْمَلَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ الَّتِي قَالَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ".

الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ لَا يَعْنِي الْعِصْمَةَ وَالْكَمَالَ، فَالثَّابِتُونَ لَهُمْ نَوَازِعُ وَأَهْوَاءٌ، رُبَّمَا كَسِلُوا أَوْ فَتَرُوا، رُبَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْإِغْوَاءِ، وَرُبَّمَا مَالُوا مَعَ الْإِغْرَاءِ، فَكُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ.

لَكِنْ لَدَيْهِمْ مُضَغٌ، تَنْبِضُ حُبًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَقَامُ اللَّهِ حَاضِرٌ لَدَيْهِمْ لَا يَغِيبُ، فَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.

لَدَيْهِمْ مُضَغٌ حَيَّةٌ، تَشْتَعِلُ كَالْأَفْرَانِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَغَيْرَةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ.

الثَّابِتُونَ.. جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ، وَصَبَرُوا وَصَابَرُوا، فَهُمْ أَسْعَدُ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ لَهَا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [الْعَنْكَبُوتِ: 69].

الثَّابِتُونَ.. هُمُ الْجَادُّونَ الصَّابِرُونَ، وَهُمُ الرِّجَالُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

الثَّابِتُونَ.. لَا يَغْتَرُّونَ، وَلَا بِأَعْمَالِهِمْ يُعْجَبُونَ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ وَيَسْتَزِيدُونَ، ثُمَّ لِلْقَبُولِ يَسْأَلُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ.

الثَّابِتُونَ.. هُمْ أَشْرَحُ النَّاسِ صُدُورًا، وَأَيْسَرُهُمْ أُمُورًا؛ لِأَنَّهُمْ حَجَبُوا عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الشَّكِّ، وَنَزَغَاتِ الْحَيْرَةِ.

الثَّابِتُونَ.. لَا تُغَيِّرُهُمُ الْأَحْدَاثُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُمُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ؛ لِأَنَّهُمْ بِوَعْدِ اللَّهِ مُوقِنُونَ.

الثَّابِتُونَ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ.. هُمْ رَأْسُ الْحَرْبَةِ وَالْحُمَاةُ، وَهُمُ الْبَاقُونَ عَلَى جَبَلِ الرُّمَاةِ، فَوُجُودُهُمْ بَرَكَةٌ وخَيْرٌ، وَلَا يَأْتِي مِنْهُمْ إِلَّا كُلُّ خَيْرٍ.

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

هَاجِسُ الثَّبَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَعِيشَهُ الْمُسْلِمُ فِي صُبْحِهِ وَمَسَائِهِ، فِي فَرَائِضِهِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ، حَتَّى يَبْقَى الثَّبَاتُ هَمًّا يَخْفُقُ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَتَلَجْلَجُ فِي الْوِجْدَانِ.

«فَيَا يَا عِبَادَ اللَّهِ اثْبُتُوا»، قَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُوَاجَهَةِ أَعْظَمِ الْفِتَنِ.

فَثَبَاتًا ثَبَاتًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ.

ثَبَاتًا عَلَى نَقَاءِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَتَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا.

ثَبَاتًا عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِشَرْعِ اللَّهِ، فَلَا تَضِيعُ الْأَوَامِرُ، وَلَا تُنْتَهَكُ الزَّوَاجِرُ، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.

اسْتَجْلِبُوا الثَّبَاتَ بِتَعْظِيمِ نُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ، فَلَا يُلْتَفُّ عَلَيْهَا بِتَأْوِيلَاتٍ مُنْحَرِفَةٍ شَاذَّةٍ، أَوْ تَفْسِيرَاتٍ ضَعِيفَةٍ نَادَّةٍ.

ابْحَثُوا عَنْ جَوْهَرَةِ الثَّبَاتِ بَيْنَ ثَنَايَا الْقُرْآنِ، تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا، فَفِي زُبُرِ الْقُرْآنِ قِصَصٌ لِلثَّابِتِينَ وَالثَّابِتَاتِ، (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) [الْفُرْقَانِ: 32].

اطْلُبُوا الثَّبَاتَ بِصِدْقِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَسَيِّدُ الثَّابِتِينَ قَالَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الْإِسْرَاءِ: 74].

وَاسْتَمْطِرُوا الثَّبَاتَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَالِاطِّرَاحِ وَالتَّوَجُّعِ، فَقَدْ فَزِعَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى الْفِتْنَةَ وَالْبَلَاءَ فَقَالَ: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) [يُوسُفَ: 33-34].

وَخِتَامُ الذِّكْرَى يَا عَبْدَ اللَّهِ: لَا تَنْظُرْ إِلَى الْهَالِكِ كَيْفَ هَلَكَ، بَلِ انْظُرْ إِلَى النَّاجِي كَيْفَ نَجَا، فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ سَيَأْتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا وَفَرْدًا.

وَتَيَقَّنْ يَقِينًا أَنَّ فَلَاحَكَ وَسَعَادَتَكَ، وَمُسْتَقْبَلَكَ وَنَجَاتَكَ هُوَ فِي ثَبَاتِكَ.

فَثَبَاتُكَ هُنَا، سَبَبٌ لِتَثْبِيتِكَ هُنَاكَ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إِبْرَاهِيمَ: 27].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ...

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَمَعَ زَوْجِهِ، إِذْ سَمِعَ جَلَبَةً، فَإِذَا هُمُ الْأَحْبَاشُ قَدْ دَخَلُوا نَاحِيَةَ الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُمْ حِرَابُهُمْ يَرْقُصُونَ وَبِلُغَتِهِمْ يَهْزِجُونَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَائِشَةَ لِتَرَى هَذَا الْمَنْظَرَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَفِّزُهُمْ وَيَقُولُ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ»، (وَهُوَ لَقَبٌ لِلْحَبَشَةِ)، ثُمَّ قَالَ: «لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً».

فَمَا أَعْظَمَ جَمَالَ هَذَا الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ مِسَاحَاتٍ مِنَ التَّرْوِيحِ، فَسَاعَةً وَسَاعَةً.

 هَذِهِ الْفُسْحَةُ هِيَ جُزْءٌ مِنْ شَرِيعَتِنَا، وَصُورَةٌ مِنْ جَمَالِهَا وَكَمَالِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وَاقِعِيَّةِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ جَاءَ مُلَبِّيًا لِحَاجَاتِ النَّفْسِ.

فَفُسْحَةُ دِينِنَا هِيَ رِسَالَةُ دَعْوَةٍ وَتَيْسِيرٍ، وَتَرْغِيبٍ وَتَبْشِيرٍ.

هَذِهِ الْفُسْحَةُ تَخْلُقُ التَّوَازُنَ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، وَتُنَمِّي عِنْدَهُ قَضِيَّةَ الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ.

فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَادَرَ هَذِهِ الرُّخْصَةُ بِحُجَّةِ كَثْرَةِ الْجِرَاحِ وَالْآلَامِ هُنَا وَهُنَاكَ.

أَظْهِرُوا سَمَاحَةَ الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْفُسَحِ، حَتَّى لَا يَتَحَوَّلَ التَّدَيُّنُ إِلَى فَهْمٍ خَاطِئٍ، وَوَجْهٍ عَابِسٍ، وَتَجَهُّمٍ دَائِمَ.

وَفِي الْمُقَابِلِ لَيْسَ مِنَ الْفُسْحَةِ فِي الدِّينِ التَّفَلُّتُ مِنْ تَعَالِيمِ الدِّينِ.

لَيْسَ مِنَ الْفُسْحَةِ فِي الدِّينِ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَشَرْعَنَةُ الْمُنْكَرَاتِ تَحْتَ أَيِّ اسْمٍ كَانَ.

لَيْسَتِ الْفُسْحَةُ الدَّعْوَةَ لِانْفِلَاتِ الْحُرِّيَّاتِ، لِيُعَاقِرَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَلِسَانُ الْحَالِ، اجْتَمِعُوا وَاخْتَلِطُوا، ثُمَّ اقْتَرِفُوا مَا أَنْتُمْ مُقْتَرِفُونَ.

الْفُسْحَةُ الْمُبَاحَةُ لَيْسَتْ كما يَظُنُّ الْبَعْضُ أنَّها دَعْوَةً لِلْمُنْكَرِ وَمُفَاخَرَةً، وَمَنْ لَا يُرِيدُ الْمُجَاهَرَةَ فَلْيَلْزَمْ بَيْتَهُ وَدَارَهُ.

فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَحَافِظُوا عَلَى مَغَانِمِ رَمَضَانَ، وَتَذَكَّرُوا عُهُودًا أَبْرَمْتُمُوهَا مَعَ الْمَلِكِ الرَّحْمَنِ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النَّحْلِ: 92].

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

أَسْبَغَ اللَّهُ عَلَيْنَا نِعَمَ الْخَيْرَاتِ، وَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمْ صَالِحَ الطَّاعَاتِ، وَأَعَادَ عَلَيْنَا شَهْرَنَا الْغَالِيَ وَنَحْنُ نَرْفُلُ بِالْعَافِيَةِ وَالْمَسَرَّاتِ.

صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ.

المرفقات

حتى-الممات-مشكولة

حتى-الممات-مشكولة

المشاهدات 2872 | التعليقات 2

السلام عليكم يا شيخ إبراهيم .. خطبة موفقه ومسددة اسأل الله أن يجزيك خير الجزاء ويبارك لك في علمك وفهمك وينفع بها قائلها وسامعها 


وعليكم السلام .. مرحبا بالشيخ عبدالله ،،

شاكر لكم تشجيعكم ودعواتكم، سددنا الله وإياكم ، وبارك في الجهود.

تحياتي لك ،،،