خطبة العشر الأواخر من رمضان ١٤٤٤

محمد بن عبدالله التميمي
1444/09/21 - 2023/04/12 04:21AM

 

الحمد لله، تابع على عباد مواسم الخير ومضاعفة الأجور، فاختصَّ رمضان على سائر الشهور، كما اختص آخره بليلة القدر خيرٌ من ألفٍ من الشهور، ووفق من شاء من عباده للتوبة الصالحة فالذنبُ مغفور، أحمده سبحانه وأشكره وهو الحميد الشكور، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يُدبِّرُ الأمور، وأشهد ان محمدا عبدُ الله وخليله وأفضل رسول، جعل لأمته من مضاعفة الأجر ما يُدركون به من عمل الأمم طويلي الأعمار والدهور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المسارعين في الخير والعمل الصالح المبرور، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا فسحة أعماركم وقوة أبدانكم في الإقبال على الخيرات، وهذا أكثر شهركم قد مضى، فمن أحسن فيه فليزدد، ومن أساء فليُمسك، وليبتغِ الخير، فإنَّ أيَّامكم خزائن أعمالكم، وما أُودع فيها أُخرج للجزاء في الآخرة؛ فانظروا ما تُوْدِعون؛ فإنَّكم لدنياكم موَدِّعون.

عباد الله.. إن مما خص الله عز وجل من الأوقات بمزيد تفضيله ووافر تكريمه: شهرَ رمضان، وخصَّ العشرَ الأواخرَ مِن لياليه ففضَّلَها على سائر الليالي، إذْ فيها ليلةُ القدر التي لمزيد فضلها عند الله وعظيم مكانتها: فخَّم أمرها وأعلى شأنها، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. فَلِلَّه ما أعظمَها من ليلة، وما أجلَّها وأكرمَها، وما أوفرَ بركتَها، في هذه الليلة الكريمة المباركة يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الملائكة لكثرة بركتها، وهي سلامٌ وخيرٌ كلُّها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة الكريمة المباركة يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم -أي: يُقدَّرُ فيها ما يكون في تلك السنة بإذن الله العزيز الحكيم-، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ليلة القدر أنه قال: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

.- ليلةٌ واحدة خير من ألف شهر!! ومعنى ذلك أنها خير من ثلاثين ألفَ ليلةٍ، وألفُ شهرٍ تزيد على ثلاثة وثمانين عاماً فهو عمر طويل لو قضاه المسلم كلَّه في طاعة الله عز وجل، فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه وهذا فضل عظيم، تدبَّر عبدَ الله إنه ليس ثواب ليلة، ولا عشرة أضعاف، ولا مئة ضِعف، ولا ألف ضعف، بل نحو ثلاثين ألف، فهل بعد هذا يتخير المسلم ليلة من الليالي المعدودات، فيكون في احتمالٍ كبيرٍ من الفوات؟! لو وُعِد موظف بعشرة أضعاف الراتب في يوم غير مسمى من الشهر، لم يغب الشهر  كله، وهذه نحو ثلاثين ألف ضعف في عشرٍ أو تسع، فالتمسوها في العشر الأواخر كلها، وهي متنقِّلة، فقد وافقت مرةً ليلة إحدى وعشرين -كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد-، ووافقت ليلة ثلاثٍ وعشرين -كما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أُنيس-، وجاء عن جماعة تَأكُّدِها في ليلة سبع وعشرين، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه ليلة خمسٍ وعشرين، وإن كانت الأوتار أحرى، إلا أنها قد تكون في الأشفاع، وذلك بحسب نقصان الشهر وتمامه، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «التَمِسُوها فِي العَشْرِ الأواخِرِ، فِي تاسِعَةٍ تَبْقى، أوْ خامِسَةٍ تَبْقى، أوْ سابِعَةٍ تَبْقى»، سئل أبوسعيد الخدري  رضي الله عنه: ما التّاسِعَةُ والسّابِعَةُ والخامِسَةُ؟ قالَ: «إذا مَضَتْ واحِدَةٌ وعِشْرُونَ، فالَّتِي تَلِيها ثِنْتَيْنِ وعِشْرِينَ وهِيَ التّاسِعَةُ، فَإذا مَضَتْ ثَلاثٌ وعِشْرُونَ، فالَّتِي تَلِيها السّابِعَةُ، فَإذا مَضى خَمْسٌ وعِشْرُونَ فالَّتِي تَلِيها الخامِسَةُ». وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه.

عبادَ الله.. إن الواجب علينا جميعًا أن نحرِصَ على طلب هذه الليلة المباركة لنفوز بثوابها، ولِنَغْنَمَ خيرها، ولنُحَصِّل أجورها؛ فإن المحرومَ من حُرِمَ الثواب، ومن تَـمُرُّ عليه مواسم المغفرة ويبقى محملاً بالذنوب مُعرِّضًا نفسه الضعيفةَ لأليم العقاب، فويلٌ لمن طُرِدَ في هذه الليلة عن الأبواب، وأغلق دونه الحجاب، وطوبى لمن نال فيها سَبْقَ الفائزين، وسلك فيها بالقيام وحُسن العمل سبيلَ الصالحين، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ))، ركِابُ السابقين إلى الله في رمضان يحدوها قوله عليه الصلاة والسلام: ((رغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ عليه رمضان ثم انسلَخَ قبل أنْ يُغفَرَ له)).

اغتنموا عشركم بصالح أعمالكم، وادعوا ربَّكم أن يعينكم؛ فلا حول لأحدنا ولا قوَّة له على حسن العمل؛ إلا بتوفيق الله، اللَّهمَّ أعنَّا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك.

المنادي ينادي: رمضان يمضي، فأدركوا ما بقي من التِّجارة مع الله: حسناتٌ متقبَّلة، وسيئاتٌ مكفَّرة، ورحمةٌ من الله ومغفرة، فجِدُّوا قبل ارتحاله، وأصيبوا من البركات قبل انتقاله.

ليس بينكم وبين الفلاح سوى العزيمة والصَّبر والشَّجاعة والثَّبات، قال ابن القيم: "فبين العبد وبين السَّعادة والفلاح قوَّة عزيمةٍ، وصبرُ ساعةٍ، وشجاعةُ نفسٍ، وثباتُ قلبٍ، والفضلُ بيد اللّه يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم".

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين برحمته وهو أرحم الراحمين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأقبلوا عليه، وتضرعوا له، وانكسروا بين يدي مناجاته، طمعًا في مرضاته، وخوفا من الطرد من رحمته وقطع الطريق دون جنته {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (٥٥) ولا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ}. إن دعاءَ الموقنين وأنينَ التَّائبين وبكاءَ المنكسرين أصواتٌ تطرق أبواب السَّماء، وتَستجلب رحمة أرحم الرَّاحمين، فلا تضعفوا عن الدُّعاء؛ فإنَّ أعجز النَّاسِ من عجز عنه، كم مِن دعوةٍ فَرَّجت همًّا، وكَشفت غمًّا، وجَلَتْ أحزانًا، وهَدَتْ إنسانًا، وحَفِظَتْ موجودًا، وردَّت مفقودًا، فضلًا من الله ونعمةً.

‏(الله) أمانُ الخائفين، ومَعاذُ العائذين، وغِياثُ المستغيثين، مَن التجأ إليه اطمأن، ومن عاذ به سكن، لا حصنَ أعظمَ من حِصنِه، ولا جُندَ أقوى من جُندِه، غالبٌ لا يُغلب، وعزيزٌ لا يُطلب، فيا فوزَ الواقفين ببابه، اللَّائذين بجنابه.

إنه يستحب للمسلم أن يكثر في هذه الليالي من الدعاء؛ فإنه مستجاب، وليتخير من الدعاء أجمعه، ومن تحري الدعاء به ما كان من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، ثم ذكر أحد جوامع الدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ((يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو ؟ قَالَ : تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))،

اللهم وفِّقْنَا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، واعف عنا إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ.

‏دنا ختامُ رمضان؛ فلا تُقصِّروا في البرِّ والإحسان، فأسبقُ الخيلِ في مضمار المنافسة أصبرُها في آخر جولاتِ السِّباق، وهذا سوق الآخرة قائم، ومَن هُيِّئ له أن يدخل السوق ليربح ثم ٱنصرف عنه فهو من أعظم الخاسرين، وإن الخسارة التي لا ربحَ بعدها خسارةُ العبدِ مغفرةَ الله ورحمتَه، يا أهل الحسنات أحسنوا؛ فإنَّ الله يحبُّ المحسنين، ويا أهل السَّيئات توبوا؛ فإنَّ الله يحبُّ التَّوَّابين.

اغتنموا فُرصةَ رمضانَ واستبقوا الخيراتِ، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنات، فمَن يدري هل يُدرِك رمضانَ آخر أو لا؟

عبدَ الله.. لا تمنعك إساءتك فيما سبق من رمضان أن تُحسن فيما بقي، فإنَّ الإحسان يمحو الإساءة، والتَّوبة تدفع الحَوبة، والرَّبُّ كريمٌ.

اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والعتقِ من نيرانك، واجعلنا فيه من الفائزين.

عبادَ الله.. صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم في محكمِ تنزيلِه، فقال وهو الصادقُ في قِيلِه: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .

المرفقات

1681331472_خطبة ٢٣ رمضان ١٤٤٤.docx

المشاهدات 583 | التعليقات 0