خطبة الرقية الشرعية

خطبة الرقية الشرعية

ماجد بلال / جامع الرحمن بتبوك 4/6/1443هـ

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَا أَنْزَلَ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ, ثُمَّ إِنَّ الْمَرَضَ فِيهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ فَيُكَفِّرُ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ وَقَدْ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ دَرَجَاتِهِ,

وإذا مرض كثير من الناس فإنه مباشرة يفكر بالدواء، ولا يفكر بالرقية أبداً، وينسى قول الله عز وجل في القرآن إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وينسى التوجه إلى الله سبحانه وتعالى وسؤاله الشفاء، وهذا لا يعني ترك العلاج والدواء، بل يكون أول توجهه إلى الله سبحانه وتعالى بسؤاله الشفاء والرقية للنفس بقراءة القرآن والأدعية الشرعية، ثم يطلب العلاج والدواء، ويعتقد أن العلاج إنما هو مجرد سبب، وإلا فإن الشفاء من عند الله سبحانه وتعالى.

 

 

 وَيَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ العِلَاجِ وَقَدْ يُجِبُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ, وَهَذَا لا يُعَارِضُ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ بَلْ هُوَ مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الرُّقْيَةَ الشَّرْعِيَّةَ تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ (الْأَوَّلُ) أَنْ تَكُونَ بِكَلَامِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، (الثَّانِي) أَنْ تَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ، (الثَّالِثُ) أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَلِ الشَّافِي هُوَ اللهُ تَعَالَى إِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ, كَمَا أَنَّ عِلَاجَ الْأَطِبَّاءِ سَبَبٌ.

ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّ الرقية إنما تكون بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ النبوية قَالَ اللهُ تَعَالَى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82]، ومنها سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وهي أعظم سورة في كتاب الله وأم الكتاب والسبع المثاني والشافية، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَتَتْنَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ لُدِغَ، فَهَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنَّا، مَا كُنَّا نَظُنُّهُ يُحْسِنُ رُقْيَةً، فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ، فَأَعْطَوْهُ غَنَمًا، وَسَقَوْنَا لَبَنًا، فَقُلْنَا: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً؟ فَقَالَ: مَا رَقَيْتُهُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ فَقُلْتُ: لَا تُحَرِّكُوهَا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "مَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

ومن الرقية سورة الإخلاص والمعوذات، فقد نزل بها جبريل ورقى بها النبي e لما سحر، وَمِنْهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ, ومن قرأها قبل أن ينام لم يقربه شيطان ولم يزل عليه من الله حافظ حتى يصبح، وَآخِرُ آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ, فهما كنز من تحت العرش، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَأَ الآيَاتِ التِي جَاءَ فِيهَا ذِكْرُ السِّحْرِ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَسْحُوراً وَهِيَ فِي سُوَرِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَطَهَ, فَهِيَ مُنَاسَبِةَ لِلْمَرَضِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَنْ يَرْقِيهِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الرُّقْيَةَ، وَلَكِنْه يكره، وأَنْفَعُ الرُّقْيَةِ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَرْقِي نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَرْقِي أَهْلَهُ, وَذَلِكَ لِعِدَّةِ أُمُورٍ:

(الْأَوَّلُ) أَنَّ هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَرْقِي نَفْسَهُ وَيَرْقِي أَهْلَهُ.

(الثَّانِي) أَنَّهُ أَعْظَمُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ, لِأَنَّ طَلَبَ الرُّقْيَةِ مِنَ الْغَيْرِ فِيه قُصُورٌ فِي جَانِبِ التَّوَكُّلِ, وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَاتِ السبعين ألفاً الذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلا عَذَابٍ أَنَّهُمْ (لا يسترقون ولا يكتوون).

 (الثَّالِثُ) أَنَّهُ أكثر كرامة للمؤمن وأَيْسَرُ للمسلم، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْتَطِيعُ رُقْيَةَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَبُدُونِ قُيُودٍ, وَأَمَّا الذِّهَابُ لِلرُّقَاةِ فَإِنَّ فيه نوع من الطلب والسؤال والمذلة، فإنه يَحْتَاجُ إِلَى وَقْتٍ لِلوُصُولِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ زِحَامٌ فَيَتَأَخَّرُ الدَّوْرُ وبعدها يقرأ عليه قراءة سريعة مستعجلة لِوُجُودِ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ.

السبب (الرابعُ) أَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْفِتْنَةِ وَخَاصَّةً فِي جَانِبِ النِّسَاءِ, فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَرِيبٌ وَمُخَادِعٌ, وَلاسِيَّمَا أَنَّ بَعْضَ الرُّقَاةِ يَكُونُ شَابَّاً وَرُبَّمَا يَكُونُ وَسِيمَاً فَيَفْتِنُ الْمَرْأَةَ, أَوْ يَفْتَتِنُ بِهَا, وَالشَّيْطَانُ لَهُ مَدَاخِلُ وَطُرُقٌ خَفِيَّةٌ, قَالَ اللهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور: 21], وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْصَحُ الرقاة للنِّسَاءَ بِالْحَذَرِ مِنَ الْفِتْنَةِ، ولا يجوز لولي المرأة أن يُمكِّن الراقي من أن يمس جسد محارمه أو أن يخلوا بهن بأي حجة كانت ولا بأي شكل من الأشكال، فإن حصل ذلك من الراقي، فإنه علامة على فسقه، ولا يصلح للرقية أبداً، ويجب تبليغ الجهات المختصة عليه.

 

وَمِنَ الرُّقْيَةِ: أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَتَنْفُثَ فِي يَدَيْكَ وَتَمْسَحَهُ عَلَى مَكَانِ الْأَلَمِ, فَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

ومِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَى مَكَانِ الْأَلَمِ مِنْ جَسَدِكِ وَتَقُولَ "بِاسْمِ اللهِ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتقَولَ سَبْعَ مَرَّاتٍ "أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ

 

ومنه ما ورد في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ e  كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ: النَّبِيُّ e بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا "بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا".

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، واشف جميع مرضى المسلمين، يا رب العلمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَإِنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ: أَنَّ مُدَّةَ الشفاء قد تتأخر بقضاء الله وقدره ابتلاء للمسلم ورفعة لدرجاته، وتكفيراً لسيئاته، وحباً للمؤمن عن  أنس بن مالك عن النبي e قال: (إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ ؛ و إنَّ اللهَ تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم ، فمن رضيَ فله الرِّضَى ، و من سخِط فله السُّخطُ)|  : الألباني | المصدر : صحيح الجامع |: 2110

 

لا تقنط من رحمة ولا تسخط على الله فيسخط الله عليك، لا تجزع، ولا تيأس وتذهب إلى السحرة والعرافين، الذين قد يبتليك الله عز وجل ويشفيك عند الذهاب إليهم زيادة لك في الفتنة والبلاء،

روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال: من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما.

وعن أبي هريرة t عن النبي ﷺ قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ. رواه أبو داود.

اصبر ثم اصبر ثم اصبر

وقد يكون هذا الابتلاء سبب لدخولك الجنة

عن عطاء بن أبي رباح قالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قالَ: هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النبيَّ e  ، قالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وإنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ قالَتْ: أَصْبِرُ، قالَتْ: فإنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا) صحيح مسلم 2576

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 - 157]

صلو وسلموا ....