(خطبة) الحرص على العمل الصالح وجمع الحسنات قبل الممات
خالد الشايع
الخطبة الأولى (الحرص على العمل الصالح وجمع الحسنات قبل الممات) 23/1/1442
أما بعد فيا أيها الناس : اتقوا الله ربكم ، وجاهدوا أنفسكم والهوى ، فنحن في دار عمل وجمع للحسنات ، ينتهي موسم الجمع بيوم الممات الذي يفجأ الجميع ، فلنستعد لذلك اليوم ، ولا نضيع الوقت ، فما الدنيا إلا يوم أو بعض يوم في الآخرة .
معاشر المؤمنين : في كل يوم نسمع بموت ومرض ، وبلاء نازل على بعض الخلق ، وقد انتشر الموت بين الناس بشكل سريع ، بأسباب مختلفة ، وهذا من علامات الساعة ، وهو كثرة الهرج ، والموتان الذي يصيب الناس في آخر الزمان ، وكل هذا صحت به السنة أنه واقع .
إن هذا الأمر يدعونا للتفكر في أمرنا ، وأن العمر مرةٌ واحدة فقط لا يتكرر ، وأنا محاسبون على أعمارنا وأوقاتنا ، فإذا تفكرنا عرفنا قيمة الزمن الذي نعيشه الآن ، بل قيمةَ الثانيةِ واللحظةِ التي تمر ، فلا نمررها إلا بعمل صالح ، والأعمال ولله الحمد متنوعة ، وسهلة وميسرة ، فقط استحضر النية واعمل .
معاشر المسلمين : إن المتأمل لحال نبينا صلى الله عليه وسلم يعلم كيف كان يستغل لحظات حياته في الخير ، ومن بعد الصحابة رضوان الله عليهم ثم سلف الأمة الأطهار ، يجد العجب في ذلك ، ولسوف يشحذ همتك هذا التأمل إلى العمل الصالح والتجافي عن السيئات ، وملء الصحائف بالخيرات .
ولقد صد كثير من الناس عن الطاعة ذلك العائق الوحيد المتكرر في حياتنا ، وهو إذا حصل كذا سأفعل كذا ، كمن يقول بعد التقاعد سأتفرغ للعبادة ، وتمضي السنون ، ولربما مات قبل التفرغ ، فالعبادة في كل وقت ، واحذر من التسويف .
إن التسويف سم زعاف، يسري في سجلِّ حياة المسلم، وفي أقوال أهل العلم قَبَسٌ مضيءٌ للتوعية والتنبيه بخطر التسويف؛ قال ابن الجوزيِّ - رحمه الله تعالى -: "التسويفُ هو آفة تدمِّر الوقت، وتقتل العمر، وللأسف فقد أصبحت كلمة "سوف" شعارًا لكثير من المسلمين، وطابعًا لهم".
قال الحسَن البصري - رحمه الله تعالى -: "الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهَب بما فيه، وأما غدًا فلعلَّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمَلْ فيه".
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: "كم مِن إنسان خرج يقود سيارته ورجع به محمولًا على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول: هيِّئوا لي طعام الغداء أو العشاء، ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبِس قيمصه وزر أزرته، ولم يفكَّها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة، فانظر الآن وفكِّر على أي حال تموت!".
قال شيخنا ابن باز – قدس الله روحه -: "التسويف سيفٌ يقطع المرءَ عن استغلال أنفاسه في طاعة ربِّه؛ فاحذَرْ أن تكون مِن قتلاه وضحاياه".
و قال "ينبغي للإنسانِ أن يعرف شرفَ زمانه، وقدرَ وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدِّم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكُنْ نيتُه في الخير قائمةً من غير فتور بما لا يعجِزُ عنه البدن من العمل".
إن البحثَ عن سبل الطاعة والمسارعة لفعلها هو شُغل المسلم في هذه الدنيا، ويجب أن يكون البحثُ عن القربات والحسنات الهاجس اليومي لك ؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]،
وفي السنَّة النبوية مثالٌ ومنهاج لكل مسلم؛ حتى يقتدي به ويسيرَ على أثره؛ أخرج (مسلم: 1028) في صحيحه من حديث أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ((فمَن تبِع منكم اليومَ جِنازةً؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ((فمَن أطعَم منكم اليوم مسكينًا؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ((فمَن عاد منكم اليومَ مريضًا؟))، قال أبو بكرٍ: أنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما اجتمَعْنَ في امرئٍ إلا دخل الجنَّةَ))؛
وفي الحديث النبوي إشارةٌ إلى المسارعة بفعل العمل الصالح؛ فهذا أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - دائم البحث بصفة يومية عن أفعال الخير والقربات لله تعالى، واغتنام الوقت هو الآليَّة للمسارعة بالعمل الصالح، وهذه المنهجية بالمسارعة لفعل العبادات كانت دأبَ الصحابة جميعِهم - رضي الله تعالى عنهم.
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات وتدارك ما فات أقول قولي هذا ....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : لعظيم فضل المسارعة بفعل الطاعات قبل الممات ، بيَّن أهلُ العلم فضيلة تكريس الوقت والمسارعة بالخير، ومنها ما يلي:
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "مَن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرةِ مِن السابقين إلى الكرامة؛ فإن الجزاء مِن جنس العمل، وكما تَدين تُدان"؛ (تفسير ابن كثير).
قال الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "الجنَّة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات: بحسَب إيمانهم، وتقواهم" .
ومن الأمثلة التي تدل على حرص الصحابة على فعل الخير وجمع الحسنات ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم . قال : ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون ؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة ) ، قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ ، قال : ( أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر )
لقد كان هذا هو همّ الصحابة الأول ، وتطلعهم الأسمى ، فشمّروا عن سواعد الجد ، وانطلقوا مسارعين إلى ربهم ، بقلوب قد طال شوقها إلى الجنة ، ونفوس قد تاقت إلى نعيمها الدائم ، فكان الواحد منهم إذا سمع عن عمل يقرّبه إلى الله ويدنيه من رحمته كان أول الممتثلين له ، عملا بقوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ( آل عمران : 133 ) .
ولئن كانت ميادين الصلاة والصيام ونحوها مقدورة من أغلب الناس ، إلا أن الصدقة بالمال مقصورة على أغنياء المسلمين القادرين على بذله والجود به ، ومن هنا دخل الحزن قلوب فقراء الصحابة ، إذ فاتهم هذا المضمار من مضامير الخير ، وكلما سمعوا آية أو حديثا يحث الناس على البذل والصدقة ، ويبيّن فضلها وما أعد الله لأهلها ، حزّ ذلك في نفوسهم ، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكين له ، لقد قال الصحابه : " يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور " ، ولم يكن قولهم هذا انطلاقا من الحسد لإخوانهم ، أو طمعا في الثراء ، ولكنه خرج مخرج الغبطة وتمني حصول الخير ، ليحوزوا المرتبة التي امتاز بها الأغنياء
عباد الله : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض
اللهم وفقنا لكل خير وجنبنا كل شر