خطبة الحاجة (عظمتها، ومضامينها) الشيخ عبد الله بن عبده العواضي

الفريق العلمي
1442/02/29 - 2020/10/16 20:36PM

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[آل عمران102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }[النساء1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }[الأحزاب70-71]([1]).

أيها المسلمون: هذه المقدمة كثيراً ما تسمعونها من الخطباء والمحاضرين، وتقرؤونها في افتتاحيات كتب بعض المؤلفين، وتسمى هذه المقدمة خطبة الحاجة؛ لأنها مفتاح يفتتح بها المتكلم الحديث عن حاجة من حاجاته؛ كموعظة أو خطبة أو تعليم أو جواب أو نكاح، أو غير ذلك. 

وقد ناسب ذكر هذه المقدمة بين يدي الحاجات بهذه الأصول الكلية؛ فحمد الله ثناء على نعمه ومنها الكلام أو الكتابة، أو غير ذلك.

والاستعانة بالله طريق إلى التوفيق في القول، والعبد مفتقر إلى ذلك.

والعصيان من أسباب الخذلان، فيحتاج المسلم إلى طلب المغفرة والهداية حتى يظفر بمطلوبه.

وشرور النفس، وسيئات الأعمال تقف في طريق التوفيق، ومن شرور النفس: العجب بقدرة النفس، فيحتاج العبد الذي يريد الوصول إلى النُّجح في حاجته إلى الاستعاذة بالله من شر نفسه وسيء عمله.

ولما كان المتكلم أو الكاتب سيقف داعيًا للحق فيحسن به أن يبين أن أصدق الكلام كلام الله، وأحسن الهدى الهدى الذي جاء به رسول الله؛ ليشير ذلك إلى أنه ينبغي دعوة الناس وفق كلام الله، وهدايتهم بما يتوافق مع هدي رسول الله، وأن على الناس سماع كلام الله واتباعه؛ لأنه أصدق الكلام، وسماع كلام رسوله والعمل به؛ لأنه أحسن الكلام البشري.

وبيانه-عليه الصلاة والسلام- بأن شر الأمور محدثاتها، ووصف المحدثة والحُكم عليها وبيان عاقبتها؛ فيه دعوة إلى أن تكون دعوة المسلم بعيدة عن البدع والمحدثات، وفيها ترهيب من الوقوع في ذلك؛ لأن الوصف والعقوبة الناتجة عن البدعة قد بيته هذه الكلمات المضيئة.

ثم ختم المقدمة بالوصية بالتقوى، وهي الأمر الجامع لصلاح الدين القائم على فعل الأوامر وترك النواهي، فالوصية بالتقوى دعوة متكررة في كل خطبة إلى لزوم شرع الله- أمراً ونهيًا- على الدوام.

أيها الأحباب الكرماء: إن من الأمور الملحوظة: أن يكثر في السامعين الانشغال الذهني عن خطبة الحاجة حتى يدخل المتكلم في موضوع كلامه، ويتجاوزها بعض القراء في الكتب التي يقرأها إلى شروع الكاتب في صلب حديثه.

ونحن اليوم-بعون الله-سنتحدث عن أهمية هذه الكلمات النبوية المشرقة، وبيان مضامينها المتألقة؛ حتى نلتفت إليها بآذاننا وقلوبنا حين نسمعها، وبعيوننا وأفئدتنا عندما نقرأها، ففيها كلام جامع مفيد، وألفاظ غزيرة بالمعاني النافعة.

 

عباد الله: إن لخطبة الحاجة أهمية عظيمة ويدل على ذلك:

أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -كان يعلمها أصحابه؛ فقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "  علمنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خطبة الحاجة.."([2]).

ومما يدل على أهمية هذه الخطبة: أنها كانت سببًا لإسلام الصحابي ضماد بن ثعلبة رضي الله عنه، فعن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة- وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه  الريح([3])- فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد). فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثلاث مرات - قال – فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر([4]) – قال: - فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام – قال: - فبايعه([5]).

أرأيتم-معشر المسلمين-إلى الأثر العظيم الذي تركته خطبة الحاجة على لسان ضماد وقلبه وحاله! فلقد وصفه كلماتها وصفًا عظيمًا، وأثّرت فيه تأثيراً عظيما، حتى أدخلته في دين الإسلام.

 

أيها المؤمنون: لقد تضمنت هذه الكلمات الموجزة أصولاً كلية عظيمة، حري بنا أن نقف عندها وقفة تأمل وبيان.

فقد افتتحت ببيان أن الحمد كله لله، وأنه لا يستحق ذلك سواه؛ فهو تعالى محمود على كماله وجلاله وجماله في ذاته وصفاته وأقضيته وأفعاله. والحمد عبادة من العبادات التي تؤدى في سراء المسلم وضرائه؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا رأى ما يسره قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يسؤوه قال: الحمد لله على كل حال)([6]).

ولما كان الحمد كذلك فإن علينا أن نستمر في حمد الله ما دمنا على هذه الحياة، ولذلك بعد أن قال: الحمد لله، قال: ( نحمده).

 

ثم قال رسول الله-عليه الصلاة والسلام بعد ذلك-: (ونستعينه ونستغفره ونستهديه) ثلاث كلمات تضمنت ثلاثة مطالب عظيمة بها صلاح الدنيا والدين والآخرة، وقد جاءت بصيغة المضارعة الدالة على التجدد والاستمرار.

فنحن نطلب من الله العون في كل ما توجهنا إليه من أمور ديننا ودنيانا؛ لأننا ضعفاء عاجزون، فلو وكلنا إلى أنفسنا لهلكنا. قال تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا }[النساء:28].

وقال الشاعر:

إِذا لم يكن عون من الله للفتى **  فَأكْثر مَا يجني عَلَيْهِ اجْتِهَادهُ

ونحن نديم طلب المغفرة من الله تعالى؛ لأن ذنوبنا كثيرة، وهي مستمرة معنا، فناسب أن نستمر في الاستغفار. قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيرا)([7]).

 

ونحن محتاجون كثيراً إلى هداية الله تعالى باستمرار، فالهداية بيد الله وحده، وأسباب الضلال كثيرة غير منقطعة، فما أحوجك -أيها المسلم- إلى الاستمرار في طلب الهداية: تثبيتًا لما أنت عليه من الهدى، وحماية لك من أسباب الضلال والردى، وإرشاداً لك إلى مواطن الهداية وسبل زيادتها.

ألا فاستحضر ذلك عندما تقرأ في كل ركعة قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }[الفاتحة:6].

 

عباد الله: وتستمر مصابيح خطبة الحاجة في الإشراق، فتأتينا إضاءة الاستعاذة بعد الحمد والاستعانة والاستغفار والاستهداء، فيقول الصادق المصدوق: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا).

 فقد تضمنت هذه الاستعاذة الاستعاذة من أصل الشر وفروعه وغايته ومقتضاه، فليس في الدنيا والآخرة شر أصلاً إلا الذنوب وعقوباتها، فالشر اسم لذلك كله، وأصله من شر النفس وسيئات الأعمال، وسيئات الأعمال من شرور النفس، فعاد الشر كله إلى شر النفس؛ فإن سيئات الأعمال من فروعه وثمراته. فيستعيذ العبد من عمله السيء ومن عقوبته التي تسوء، فالأعمال السيئة تستلزم العقوبات السيئة([8]).

ثم يقول نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، هذه الجملة جاءت بمعناها آيات كثيرة، منها قوله تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}[الزمر:37]، وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا }[الكهف:17].

فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نطلب الهداية من الله، ونستعيذ به من الضلالة؛ فالهداية إلى الحق أعظم نعم الله على العبد، وهي نعمة انفرد بها سبحانه فتستحق جزيل الحمد والشكر، قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف:43].

 والضلال أكبر النقم على العبد. نسأل الله أن ينعم علينا بتمام الهداية، ويجنبنا سبل الضلال والغوية.

أيها الأحبة الفضلاء: ثم قال رسول الله: (وأشهد([9]) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، هاتان شهاداتا الإسلام وهما أساسه وركنه الأول: الشهادة لله بالوحدانية، والشهادة لنبينا محمد بالرسالة.

فهاتان الشهادتان لا يصح إسلام أحد إلا بالإقرار بهما ظاهراً وباطنا، وإلا كان خارجًا عن ملة الإسلام.

فلا إله إلا الله كلمة التوحيد ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وأي إله سواه عُبد فقد عُبد بباطل.

وشهادة أن محمداً رسول الله تعني: طاعته فيما أَمر، وتصديقه فيما أخبر، وترك ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.

نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها المسلمون: فما زالت أنوار خطبة الحاجة تدعونا للالتفات إلى أضوائها المشرقة؛ كي نعرف عظمتها، ونعي ما فيها.

فبعد إفراد الله بالتوحيد، ورسوله بالرسالة يقول نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد).

فأصدق الكلام والقول كلام الله وقوله؛ لأنه يستحيل على الله الكذب، قال تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا }[النساء:87]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا }[النساء:122]، فهو سبحانه وتعالى صادق القول في خبره ووعده ووعيده، وكل ما جاء عنه.

وعلينا أن نوقن بذلك يقينًا جازمًا، متبوعًا بعمل دالّ على كمال ذلك التصديق.

وأحسن الهدى أو الهدي هدى رسول الله وهديه، أي: إرشاده وطريقته، فقد كمّل اللهُ تعالى رسولَه محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم -بصفات الكمال البشري، ومن ذلك كماله في هدايته.

وقد زكاه الله بهذا فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }[الشورى:52]، وقال: { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ }[النمل:79].

فإذا أردنا أحسن الدلالة، وأفضل الطريقة للهداية فعلينا الاقتداء بنبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم.

عباد الله: ثم يقول رسولنا -صلى الله عليه وآله وسلم-: (وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).

وهذه الجمل الأربع تحذير من سلوك طريق البدع؛ فقد بين رسول الله أن شر الأمور المحدثات في الدين؛ وذلك لأنها اتهام غير مباشر لرسول الله بأنه لم يبلغ جميع الدين، ولأنها تصير الدين من حق إلهي إلى حق مشترك بينه وبين خلقه، فيصبح الدين ألعوبة بين عقول البشر كل يزيد فيه على حسب هواه عبر الأجيال.

وقد بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -أن كل المحدثات في الدين من مسمى البدع، وأن البدع تسوق إلى الضلال؛ لأنها تعدٍّ على حق الشارع الذي هو الحق، وما بعد الحق إلا الضلال.

ثم إن البدعة تؤدي بصاحبها إلى النار إذا لم يتب منها؛ لأنها عمل مخالف لشرع الله، وكل عمل مخالف لشرع الله فمصيره النار.

أيها الفضلاء: ثم ختم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -خطبة الحاجة بالأمر بالتقوى، وذكر لذلك ثلاث آيات، والوصية بالتقوى وصية جامعة؛ لأنها عمل بالدين كله، فهي كل عمل يجعل بين العبد وبين غضب الله وعذابه وقاية، وقد ورد ذكر التقوى في القرآن والسنة كثيراً: أمراً بها، وبيانًا لثمراتها، وحسن عاقبة أهلها.

فيا عباد الله: علينا أن نولي خطبة الحاجة مزيداً من العناية، فالمتكلمون- خطباء ومحاضرين وكاتبين- يكثرون من استفتاح خطبهم بها، والسامعون يرعون أسماعهم لها، وجميعنا يعي مضامينها وما احتوت عليه من جوامع الكلم.

نسأل الله أن يلهمنا السداد، ويثبت خُطانا على سبيل الرشاد.

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية محمد....

 

([1] ) خطبة الحاجة بهذه الصيغة التي ذكرناها جمعت من عدة روايات: من صحيح مسلم، ومسند أحمد وسنن النسائي وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة، وغيرها، عن عدة من الصحابة منهم: ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، رضي الله عنهم، وغيرهم.

([2] ) رواه أحمد والنسائي وأبو داود، وهو صحيح.

([3] ) يعني: الجنون ومس الجن.

([4] ) يعني: قعره الأقصى.

([5] ) رواه مسلم.

([6] ) رواه ابن ماجه، وابن السني، وهو صحيح.

([7] ) رواه ابن ماجه، وهو صحيح.

([8] ) الجواب الكافي (ص: 80) بتصرف.

([9] ) يلاحظ أنه في الشهادة عدل عن ضمير الجمع في: ( نحمده، نستعينه، نستغفره، نعوذ) إلى ضمير المفرد فقال: (وأشهد)، ولذلك سبب ذكره بعض العلماء. ينظر: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته (1/  297).

المشاهدات 804 | التعليقات 0