خطبة ( الجوع ولا النار ) في 26/4/1442

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1442/04/25 - 2020/12/10 18:20PM

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فصل لنا الحلال والحرام وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أحسن الكلام وأطاب الطعام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليماً أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، واتقوا النار وأسبابها.

مر النبي ﷺ بتمرة في الطريق فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها».

دعت امرأة النبي ﷺ إلى طعام فجاء وجئ بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم أيديهم فأكلوا فنظروا إلى رسول الله ﷺ يلوك لقمة في فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، فقالت المرأة يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يُشترى لي شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة: أن أرسل إليّ بها بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليّ بها، فقال رسول الله ﷺ: «اطعميه الأسارى».

طلب أبو بكر t طعاماً فجاءه غلامه بطعام فأكل منه، فقال الغلام: لم تسألني من أين هو: فسأله، فقال: إني تكهنت في الجاهلية لقوم مقابل مال، فهذا الطعام منه، فأدخل أبو بكر يده في حلقه وجعل يتقيأ، ويقول: والله لو لم يخرج الطعام إلا مع نفسي لأخرجته.

كان لمحمد بن المنكدر أقمشة بعضها بخمسة دراهم وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته لأعرابي قطعة من الخمسيات بعشرة، فلما عاد ابن المنكدر وعرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي طوال النهار حتى وجده فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا فاختر إحدى ثلاث: إما أن تأخذ قطعة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد القطعة وتأخذ دراهمك.

وقيل لبشر رحمه الله: من أين تأكل، فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وقال: يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة، وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات.

تلك أقوال وأفعال ونماذج للجيل الجميل الذي يخاف الله فيما يكتسب ويراقبه من أين اكتسبه وفيم أنفقه .. جيل يؤمن بأن كل جسد نبت من حرام فالنار أولى به .. جيل يؤمن أن الرجل يرفع يديه إلى السماء يقول يارب يارب ومأكله حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستحاب لذلك .. جيل كان ومازال فيه بقية إلى آخر الزمان .. جيل من ورائهم زوجات يخاطبن أزواجهن عند خروجهم للرزق : اتقوا الله فينا ولاتطعمونا من حرام فإنا نصبر على الجوع ولانصبر على النار

نماذج راقية نسوقها في زمن التخليط والعبث والسباق المحموم نحو حطام الدنيا الفاني وشهواتها الزائلة.

نماذج رائعة نسوقها في زمن اللهاث والصراع على جمع المال من أي طريق كان.

نسوقها في زمن أصبح الشعار فيه: الحلال ما حل باليد، وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب.

نسوقها في زمن انحسر فيه معنى الورع من حياة الناس، وانحسر معه استعمال لفظ الحلال والحرام. فصار الحال كما أخبر المصطفى ﷺ «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام».

نسوقها في زمن كثرت فيه المتشابهات وكثر فيه الراتعون حول الحمى يوشكون أن يقعوا فيه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.

إن المسلم الحق والذي يرجو الله ويخاف لقاءه وهو يؤمن بنظرة الإسلام للمال وأنه لابد للمرء من اشتغال بشيء من الدنيا ليكف بها نفسه عن سؤال الناس، وليساهم بماله في نصرة الدين ودعم معالم الخير والإصلاح، فإنه قبل ذلك لاينسى أنه واقف بين يدي ربه وسائله عن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه 0

إنه يؤمن أن الربا إعلان للحرب من الله ورسوله وأن الله يمحقه وأن درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية ولذا فإنه يتقي الشبهات ويتورع عما فيه شبهة ربا ويتسامى على الحيل التي توصل للربا استبراء لدينه وعرضه وطهرة وزكاة لماله

إنه يمتثل أمر الله فلايأكل إلا طيبا ( فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون )

إنه يخاف الله فيما يكتسب ويتورع عما فيه شبهة حرام فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، قال عمر رضي الله عنه ( كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام )

المسلم يتقي الله في ماله فلايأكل أموال الناس بالباطل بالغصب أو بالنصب أو القوة والغلبة أو تحايلا على القضاء فإن قضاء القاضي لايحل حراما ولايحق باطلا ومن قضي له بالباطل فإن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة

المسلم الحق لايكوّن ثروته من أكل أموال اليتامي وهو يعلم أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، ولا يجمع ماله بالغش والتدليس وهو يسمع حديث ( من غش فليس منا ) ولايدنس ماله يأخذ الرشوة وقد لعن أهلها والمتعاملون بها وهي سبب لفساد المجتمعات وتدمير للحقوق وأذان بالهلاك من الله جل وعلا وفي الحديث ( مامن قوم يظهر فيهم الرُشا إلا أخذوا بالرعب

المسلم الصادق الأمين لايكتسب ماله من التلاعب بأموال الناس بالمساهمات الصورية بثوبها البراق وحقيقتها الزائفة ، والإثراء على حساب الضعفاء فكم ضاعت بسبب ذلك من حقوق وامتلأت من سجون ..

المسلم الأمين لايبني ثروته من ديون لم يعزم على سدادها فكم كانت هذه الدناءة سببا في هموم المستدين ، وقطعا للمروءة والشهامة عند الدائنين .. ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله وإن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان

المسلم الخائف من ربه لايكتسب ماله من سرقة وقد رسول الله صلى الله عليه وسلم السارق يسرف البيضة فتقطع يده فكيف بما فوقها ، ولايكتسب ماله من الاستيلاء على ميراث النساء والصغار والسفهاء ولا من مهور البنات والموليات ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه وباء بسخط من الله

وإن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ومن اقتطع حق امريء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقيل يارسول الله : وإن كان شيئا يسيرا ؟ فقال : وإن كان قضيبا من أراك

وهكذا فإن المسلم الحق غايته لاتبرر الوسيلة ، ونظرته أخروية لامادية .. يبتغي من فضل الله متزملا بالخوف من عقاب الله متسلحا بالرضا والقناعة مؤمنا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها موقنا أن ماعند الله لايطلب بمعصيته

رزقنا الله من فضله رزقا طيبا واسعا وأستغفر الله لي ولكم

 

الخطبة الثانية

إن المتأمل في عالم الناس اليوم يرى عالما تغيرت فيه كثير من القيم الصحيحة وتبدلت فيه المفاهيم المستقيمة ، عالما سيطرت فيه المادة فراحوا يجمعون الدنيا بكل طريق ويستكثرون منها باي سبيل ، وتساهلوا في جمع الأموال ، عالما من رجال ونساء مصابا بالهوس في جمع الحطام ولو كان الثمن أن تداس الغيرة وتسقط القوامة ويضيع العرض ويستهان في أمر ونهي وفرض .. عالما يصدق فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( يأتي على الناس زمان لايبالي المرء ماأخذ أمن الحلال أم من الحرام ، عالما غدت فيه كلمة “حرام” أكثر كلمة تنفر منها الأسماع، وأصبح الحلال فيه هو كلّ ما حلّ في اليد، ولو كان حرامًا واضحًا لا شبهة فيه، وصار من السّهل على كثير من المسلمين أن يأخذ الواحد منهم الحرام أو يعطي الحرام، ويجد لنفسه مبرّرا من واقعه أو واقع المجتمع من حوله، ويتعلّل بأنّه ليس وحده من يُواقع ذلك

وإذا كان لأكل الحرام صور وأشكال فإنه يأتي في أولها وعلى أول قوائمها استباحة المال العام بالسرقة، أو النهب، أو الاختلاس، أو التفريط أو التحايل أو تضييع وقت العمل واستغلال المال العام في مصالح شخصية .. والمال العام أعظم خطراً من المال الخاص الذي يمتلكه أفراد أو هيئات محددة، لكثرة الحقوق المتعلقة به وتعدد الذمم المالكة له ، فالسارق له سارق للأمة لا لفرد بعينه، وخصومه يوم القيامة ليس فردا أو أفرادا وإنما سيقف يوم القيامة أمام الأمة بأكملها تحاسبه وتطالبه ،وإذا كان سارق فرد محدد مجرماً تقطع يده في ربع دينار فصاعداً، فكيف بمن يسرق مال الدولة ويستحل ممتلكاتها ؟! كيف تكون صورته في الدنيا وعقوبته في الآخرة ؟ ولذلك حرم الإسلام من إتلافه أو سرقته أو الإضرار به أو الاعتداء عليه بأي صورة من الصور ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون )

إن المال العام أمانة لدى جميع أفراد الأمة فليحافظوا على هذه الأمانة وليرعوها حق رعايتها وليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه

وختاما ما أسعد الإنسان الذي أوتي كفافاً وقنعه الله بما آتاه ومن أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.

ما أسعد الإنسان حينما يملك الدنيا ولا تملكه، حينما يجعلها في يده لا في قلبه.

ما أجمل المال في أيدي أناس نفوسهم سخية، وقلوبهم نقية لا يبخلون بما آتاهم الله من فضله ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ..

ماأجمل أن يتدثر الناس بالخوف من الله ويتدرعون بمراقبة الله والاستحياء منه ويتجملون بالإيثار والبعد عن الأثرة ويتحلون بالقناعة والرضا بما قسم الله وبالورع عما فيه مظنة غضب الله ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك

اللهم صل وسلم ...

المشاهدات 1034 | التعليقات 0