خطبة الجمعة 19 / 12 / 1444هـ

د عبدالعزيز التويجري
1444/12/18 - 2023/07/06 14:36PM

الخطبة الأولى:           19/12/1444هـ

الحمد لله الذي من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وأسبغ علينا من النعم وأعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسُبنا ومولانا، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُالله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وسلم تسليما كثيراً. اما بعد

فاتقوا الله الذي يعلم السر وأخفى ، واتقوا الله الذي إليه تحشرون.

     للهِ أيّامٌ على الطاعات انقضتْ  **  يا حبّذا لو أنها إلينا رجعتْ

هذه سنة الحياة، ودوارة الزمان، تمشي سرعاً تمر بأيام وليالٍ فاضلات لترفع أرواحاً إلى أعلى الجنات ، ويخسر بطالون (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ)

والموفق من كانت همته وعمله ونيته مبتغى ربه وسموا نفسه محافظاً على أصول دينه وفرائض ربه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)

 واما هذه الحياة الدنيا فيقرر حقيقتَها ربُ العزة والجلال، حين يغيب مفهومها عن الأذهان {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}

هذه هي حقيقة الحياة الدنيا لهو ولعب حينما تكون هي الغاية العليا للناس ، حينما يكون متاعها هو الغاية في الحياة ، هذه هي الحياة في عمومها حينما لا ينظر فيها إلى الآخره "وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ" حياة دائمة باقية {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}

إذا كان اللعب والترفيه هو الغاية ، وكانت المتعة واللهو هي أكبر الطموح واعلاه .. فما يكون نصيب الآخرة ؟ وما لحوادث الزمان ومنتهى المقام ؟

   كَمْ لابنِ آدَمَ من لهوٍ ، وَمن لَعبٍ  ** وللحوادِثِ من شدٍّ وإقدامِ

    يا ساكِنَ الدّارِ تَبْنيها ، وَتَعمُرُها  ** والدارُ دارُ منيَّاتٍ وأسْقامِ

   لا تَلْعَبَنّ بكَ الدّنيا وَخُدْعَتُها  ** فكَمْ تَلاعَبَتِ الدّنْيا بأقْوامِ

لا يعاب الإنسان أن يستمتع مما أحل الله له، أو أن يترفه بما يُجم به نفسه مما له في الشريعة مندوحه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} قال حنظلة يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» أخرجه مسلم

والأنس والسعادة والراحة باب واسع، وميدان فسيح ، السفر والاستجمام والترويح جزء منه.

    إِنّي رَأَيــتُ وُقــــوفَ المـــــــــاءِ يُفسِـــــدُهُ    **  إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ

ومن أراد حياة لا منغص فيها ولاكدر فقد طلب المحال

    طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنْتَ تُريدُها  **  صَفْواً مِنَ الأقْذاءِ والأكْدارِ

    ومُكَلّفُ الأيّامِ ضِـــدَّ طِباعِهـــــا  **   مُتطَلّبٌ في الماءِ جُذْوةَ نارِ

 وصدق الله "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ"

والأنس الذي لا كدر فيه والطمئنينة التي لا شقاء معها مداومةُ ذكر الله وقراءة القرآن {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

والراحة التي لاهم معها ولا غم فيها المحافظةُ على الصلاة " أرِحْنا بالصَّلاة يابلال " "وكان إذا حَزَبَهُ أمْرٌ صَلّى" أخرجه أهل السنن.

هذه هي ميزان الحياة، وهذه مندوحة الترفيه والانبساط في الشريعة ، إيناسٌ وإسعادٌ وتنزهٌ لا يكون معه المرءُ أسيراً له، ولا مكبلاً بأبوابه، ولا مضيعاً للأموال في سبيله ، ولا كل حديث أيامه واهتمامه ، إنما ساعة ، لتفرغ لساعة الآخرة ..

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرق الحكمة ، فإنها تمل كما تمل الأبدان .. وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يمازح أصحابه، ويسابق عائشة .

ترويح وترفيه لا يخدش حياءً ولا ينزع حجابًا، ولايصد عن ذكرٍ أو يضيحَ حقاً..

ترويحٌ وترفيهُ لا يكونُ غايةَ المُنى، أو يأخذ بعقولِ ذوي الحِجى ..

  لا تقبلوا الضيم واحموا منه محارمكم  **  إن المحـــــارم مما تمَنـــع العـــــــرب

   إني أرى أمــم الغــــــبراء يشغلهــــــــــــــــا   **  جد الأمور فلا لهوٌ ولا لعب

لا أمعةً إن سمع هيعة طار لها ، عين على كل منشور، وأذن لك دعاية مأكول.

ترفه وتنزه وسفر يؤنس الروح ولا يدنس القلب .. يحفظ المرؤة ولا يخدش الحياء ،  يرعى الحق ويحمي العرض .. لايحمل وزرا ، ولا يضيع فرضا.

سياحةً وسفراً مباحة تُسفر في وجوه مسلمة، لا غول ولا توغل في ديارٍ كافرةٍ، ووجوٍ كالحةٍ تحاد الله ورسوله. ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ديار لا يسمع فيها اذان ، ولَا يتناهون عَن مُنكرٍ فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ..

دينك فاعتز به وارفعه، وسمعك وبصرك فحفظه " احفظ الله يحفظك ..

كيف تطيب نفس مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر تتجول في ديارٍ{لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً}{تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ}{وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} وهل في الكون أكبر وأعظم وادهى من تدنيس ِكلام العزيز الحميد؟، وقبلها إشهار سب ولمز أعزِ مقام وأكرم جنابِ عليه الصلاة والسلام ، وعداوتهم ظاهرةٌ لكل من قال{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}.

     أتيت بالفجائع لا عليك سلام  **  إذ فيك حرب ليس فيك سلام

ووالله لا يتم اللهُ إيمانَ عبدٍ حتى يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَ إليه مما سواهما .

 وهل من كمالِ حبِ اللهِ ورسولِه وكتابِه، وتحقيقِ البراءِ لكل من حاد اللهَ ورسولَه المسابقةُ للسياحة بأرضهم، والتجول بين أظهرهم، ودعم اقتصادهم ..

هذا أوانُ العقيدةِ أن تُظْهر ، وهذا إبّان زمانُ الإيمانِ أن يُعتز فيه ويُشهر ..

   لا خير في العيش إن كانت عقيدتنا **  أضحى يزاحمها كفر وعصيان

  لا خير في العيش إن كانت مبادؤنا  **  جادت علينا بها للكفر أذهان

  لا خير في العيش إن كانت حضارتنا **  في كل يوم لها تنهــــد أركـــــــان

   تاريخنــــــــا من رســــــــول الله مبــــــدؤه   **  وما عداه فلا عز ولا شــــان

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

استغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي رحيم ودود .

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ المُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى. أَمَّا بَعْدُ:

إذا كانت إهانة كتاب الله حسياً بتمزيقه وتدنيسه تعد من العظائم وإحدى الكبر، فإن الأدهى والأمرّ هو أن يُهجر فلا تتلى آياته، ولا تطبق أحكامه، ولا يخضع لتشريعاته، ولا يوضع في موضعه اللائق.

أليس إهانة كتاب الله أن لا تخضع الأمة لأحكامه ولاتتلقى أوامره ونواهيه بالامتثال والتسليم والخضوع بلا حرج ولا تضايق.. كم من قارئ [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ] ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً .. وكم من تال [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) ثم يطلق بصره في الحرام .. وكم من قارئة [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ...] ثم تتساهل في حجابها وترفض حكم ربها...

أليس إهانة لكتاب الله أن يهجر التداوي به ويلجأ إلى السحرة والمشعوذين ؟

وتهجر تلاوته فلا يتلى إلا في رمضان أو حيناً بعد حين.

أليس تهوينا من كتاب الله أن يجعل نغمة للإتصال ، وتخلط الآيات بالقيل والقال.

أليس إهانة لكتاب الله أن يتهجم على حلقات القرآن ومحاضن تعليمه ويتهم روادها بالتطرف والسعي لزعزعة ثقة الناس بها وتقليص دعمهم لها.

أوليس استخفافا بكتاب الله ما يفعله بعض الطلاب والطالبات بكتبهم بعد نهاية كل امتحان وكيف أنها تمزق وتداس وترمى وفيها كلام الله وذكره، أفليس هذا امتهاناً لكتاب الله وإن لم يتقصدوه ؟

ألم تروا إلى بعض صغارنا حين يقعدون على حقائبهم وفي داخلها كتاب الله.

تعظيم كلام الله بتعظيم أهله فمن إجلال الله إجلال حامل القرآن .. تعظيم القرآن بمساندة حلقاته ماديا ومعنويا .. تعظيم القرآن بتلاوته والعمل به والتحاكم إليه، تعظيمه بزرع حب كتاب الله في نفوس الأبناء والأجيال.. احترام كتاب الله أن نخرج جيلاً قرآنياً يمشي على الأرض إذا تليت عليهم آيات الرحمن زادتهم إيماناً مع إيمانهم، لا ينطقون لغواً ولا يسمعون غناء.

فحب الكتاب وحب ألحان الغناء     في قلب عبد ليس يجتمعان

لن يغيظ الأعداء مصحف يطبع ولكن يغيظهم ويقهرهم شاب على أخلاق القرآن يتربى ويُطَبَع.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.

المرفقات

1688643409_خطبة الجمعة 18 ،12 ،1444.docx

1688643458_خطبة الجمعة 18 ،12 ،1444.pdf

المشاهدات 1424 | التعليقات 0