خطبة الجمعة .. مكانتها، أهميتها، حكمها، آثارها في نفوس المسلمين

الفريق العلمي
1439/10/21 - 2018/07/05 15:21PM

الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

 

يعقد المسلمون في كل أسبوع لقاءً في يوم الجمعة استجابة لأمر الله عز وجل، يستمعون فيه لخطبة ذلك اليوم العظيم، فتتهيأ الفرصة حينذاك لإتحاف مسامعهم بما يفيدهم ويصحح معتقداتهم وأعمالهم.

 

فضيلة الشيخ، نأمل منكم الإجابة على الأسئلة التالية حول هذا الموضوع المهم ليعم نفعها على المسلمين:

1- ما مكانة وأهمية خطبة الجمعة في الإسلام وما حكمها؟

 

2- ما الآثار التي يمكن أن تتركها الخطبة في نفوس المسلمين؟

 

3- ما الصفات والشروط التي ينبغي توفرها في الخطبة الجيدة؟

 

4- هل كان لخطبة الجمعة دور مميز في الإسلام؟ وهل يمكن ذكر نموذجين منها؟

 

5- ما العناصر التي تكون في مجموعها خطيباً ناجحاً؟

 

6- كيف يجب أن يكون المأموم أو المسلم في يوم الجمعة وحال استماع الخطبة؟

 

7- ما الفضل الوارد في يوم الجمعة؟

 

8- هل لكم كلمة أخيرة بهذه المناسبة؟

 

قال فضيلة الشيخ العلامة الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين وفقه الله لرضاه:

الحمد لله الولي الحميد الواسع المجيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن الشرك، وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على القريب والبعيد، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه المخلصين في التوحيد.

 

وبعد: فإن الله -تعالى- حكيم في شرعه وقضائه وقدره، فمن ذلك ما فرض من الاجتماع العام والخاص، ففي يوم الجمعة أمر الله -تعالى- بالسعي إلى ذكر الله وترك ما يشغل عن الصلاة والذكر من أمور الدنيا، وشرع في هذا اليوم الخطب المنبرية التي يصغى إليها الجمع الكثير ويصيخون إلى ما يفيدهم به الخطيب وما يوجههم إليه، فلذلك نقول إن خطب الجمعة من أهم وسائل الدعوة إلى الله -تعالى- وأبرز مناهج التعليم، فإن الله -تعالى- دعاهم إليها وأمرهم بالسعي إلى ذكر الله -تعالى-، أي إلى ما يذكرهم بربهم وما يستفيدون منه في حياتهم، حيث يتلقون الوعظ والتذكير والإرشاد والدلالة على ما يصلح أحوالهم، وما يعرفون به كيف يعبدون ربهم.

 

ولقد ورد في الحديث الشريف الحث على الإنصات حال الخطبة، والنهي عن العبث، والكلام، والخوض في الدنيا، والحركة ولو قليلة، حتى نهى عن مس الحصا وعن أمر غيرِه بالإنصات، وذلك ليحصل من الجميع حسن الاستماع، وتمام الاستفادة، فكانت هذه الخطبة من أبلغ ما يؤثر في سلوك المسلم، ولها في الشرع أعلى مكانة وأشرف منزلة، حيث يجب الاهتمام بالخطبة واختيار المواضيع المهمة التي تعم الحاجة إليها مع اختيار الخطيب الناصح المتمكن من معرفة أحوال الناس، وما تمس إليه الحاجة وما يهم التنبيه عليه، ويكون الخطيب من ذوي الكفاءة والقدرة على البلاغ والبيان، وإيضاح المعاني وإقامة الأدلة وما يحتاج إليه المقام في جميع الحالات.

 

أما الآثار بعد الخطبة فلا شك أن العاقل المؤمن المصدق بالله رباً ومعبوداً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً نبياً، متى سمع تلك الإرشادات والتعليمات والنصائح الصادقة فإنه يعتقدها، ويصدق بمضمونها، وتؤثر في سلوكه وسيرته، ويكون لها الأثر البليغ في أعماله، فيتوب من المعاصي إذا دعي إلى التوبة النصوح، ويواظب على الطاعات متى سمع فضلها وحسن عاقبتها، ويكثر من النوافل التي تقربه إلى رضى ربه وثوابه، حيث رغبه الخطيب في المواظبة عليها، ويتأثر قلبه ويتجدد إيمانه ويقوى يقينه، وترسخ العقيدة في قلبه، فينصرف عن تلك الصلاة وقد رق قلبه وذرفت عينه، وخشع لربه واستكان، وندم على ما فرط فيه في ما مضى من حياته، ونذر نفسه لطاعة ربه، واستبدل بمجالس الشر غيرها، وهجر الخلطاء والزملاء الذين يصدونه عن ذكر الله -تعالى- وعن الصلاة، ويستبدلهم بجلساء صالحين مصلحين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر ويقوّون عزيمته، ويعمرون مجالسهم بالعلم النافع والعمل الصالح والذكر والتفكير في آيات الله -تعالى- ومخلوقاته.

 

ولكن هذه الآثار قد تضعف أو تفقد في الكثير من المصلين إما للغفلة والسهو والنعاس حال الخطبة، فلا يكون حاضر القلب ولا مهتماً بما يلقى على مسامعه، فكأنه لم يحضر، وإما لما ران على قلبه من الذنوب التي صدته عن التوبة والتأثر، والتقبل لما يوجّه إليه من النصائح والعظات، فتمكّن الذنوب في القلب وشدة الميل إليها بقسي القلب، وتصعب معها التوبة، ويستثقل فراق المأثورات والعادات التي تركزت في القلب فصار كالمستحيل الإقلاع والتخلي عن تلك الرواسب المتمكنة في القلب إلا ما شاء الله.

 

ولقد نتعجب من الكثيرين الذين يتوافدون إلى المساجد في الجمعة ثم ينصرفون إلى أعمالهم ويستمرون في لهوهم وسهوهم، ويبقون في غيهم يعمهون، وذلك لضعف اليقين، ولأن هذا الاجتماع أصبح أمر عادياً لا يفكر الأكثرون في الحكمة منه، ولا يتذكرون ما سمعوه، فتجدهم بعد الصلاة مباشرة يخوضون في شئونهم الخاصة، ويتكلمون في عاداتهم، وكأنهم لم يسمعوا تذكيراً ولا نصيحة تحثهم على التغير والتأثير.

 

أما الصفات التي يلزم ويتأكد توفرها في الخطبة الجيدة:

فإنها ترجع إلى الخطيب ومقدرته، فمتى كان من حملة العلم الشرعي وأهل الاعتقاد السليم، وكان واسع الاطلاع والمعرفة ومتمكناً من القدرة على استخراج المباحث والأدلة والمقالات الشيقة من بطون الكتب، فإنه يستطيع بما معه من المَلَكة وقوة القريحة على أن يضمّن خطبته مواعظ شيقة تحرك القلوب، وتهز المشاعر، وتبعث الهمم نحو المعالي، وتقمع النفوس الشريرة عن الأدناس ومساوي الأخلاق، وتثير القوى النفسية نحو معالي السمات، والتحلي بالفضائل والكرامات، والتخلي عن كل ما يقدح في الدين أو ينافي المروءة أو يجلب السمعة السيئة.

 

وهكذا نرى أن مثل هذا الخطيب يعالج مشاكل الناس وينبه على ما يقع فيه الجماهير من المصائب والمعائب، والمعاصي المتمكنة، كالفواحش والمخدرات والمخالفات، والوقائع التي يحصل بها عبرة وموعظة، ويستوفي الأدلة والتعليلات، ويحرص على العبارة الواضحة التي تجلي المعاني، وترسخها في الأفهام، ولا يسهب في الكلام الذي يمله السامعون وينسي بعضه بعضاً، وبالجملة فالخطيب الناصح يحرص على ما ينتفع به السامعون، ويتتبع الأخبار، ويسأل عن واقع الناس، ويضمّن خطبته المعاني الرفيعة والعبارات الفصيحة، ولا يتعرض لما لا أهمية له، ولا يندد بالأفراد، ولا يشهر الأسماء من الذين وقعوا في منكر أو مخالفة.

 

وتحتوي خطبته على حمد الله -تعالى- والثناء عليه، والشهادتين، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والوصية بتقوى الله -تعالى-، وقراءة ما تيسر من القرآن، والاستشهاد بالآيات والأحاديث المناسبة، وعلى تعليم الأحكام المهمة، والحلال والحرام، والعبادات التي يقع منهم فيها خلل أو جهل، وما يحدث من المخالفات في المعاملات والعقود والجنايات، والتحذير من كبائر الذنوب، والدعوة إلى الله -تعالى-، والاستعداد للرحيل، وذكر الوعد والوعيد والجنة والنار، وأهوال ما بعد الموت ونحو ذلك مما له وقع في النفوس، وبذلك ينفع الله -تعالى- بهذه الخطب من أراد الله هدايته.

 

ولا شك أن خطب الجمعة لها دور في التاريخ الإسلامي، ولم تزل آثار الخطب النبوية مشهورة بين الصحابة وفيمن بعدهم، فإن أكثر ما حفظ عنه -صلى الله عليه وسلم- من الفوائد والعلوم مما تلقي عنه حال الخطب المنبرية، حتى ذكرت إحدى الصحابيات أنها حفظت من فِيه سورة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)؛ حيث كان يضمنها بعض خطبه.

 

وهكذا حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه يكرر قوله: "إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد... " إلخ، ولم يزل أكثر الخطباء يضمون هذه الجملة في خطبهم. وكثيراً ما تنقل عنه الخطبة الطويلة أو القصيرة، ويكون لها الأثر في السامعين، كما في خطبته في يوم عرفه حيث وضع الربا والدماء الجاهلية، وذكرهم بحقوق الزوجات، وودعهم وأمرهم بالبلاغ لما سمعوه واستشهدهم على البلاغ منه، وذكرهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحو ذلك. وهكذا خطبة أبي بكر -رضي الله عنه- لما استخلف، وهي مشهورة. واشتهر عن عمر -رضي الله عنه- خطبة طويلة في صحيح البخاري في ذكر حد الزنا وهو الرجم، وكان لها أثر بليغ في السامعين.

 

أما العناصر التي تكون في مجموعها خطيباً ناجحاً:

فإن الخطيب يحتاج إلى إعداد حِسّي أو معنوي؛ فإنه إما أن يطالع في الكتب ويراجع مواضيع البحث الذي يريد أن يطرقه، أو يفكر فيه، ويعرض في ذاكرته ما يحب أن يطرقه من الأدلة والتعليلات، فلا يصعد المنبر إلا وقد هيأ مقالته وأعد عدته، وقسم الخطبة إلى عناصر، فيبدأ بحمد الله ذاكراً بعض الإشارة إلى الموضع الذي يريد أن يطرقه بما يسمى (براعة الاستهلال)، وبعد الثناء على الله -تعالى- والشهادتين يخاطب الحاضرين بخطابات عامة مثيرة للانتباه، فيوصيهم بتقوى الله -تعالى- ويبين نوعاً من أنواع التقوى وهو الذي سيتكلم عليه، ثم يجعل له مقدمة في وجوب طاعة الله ورسوله، ثم يذكر ثواب الطاعة وعقوبة المخالفة، ثم يذكر الموضوع كالجهاد في سبيل الله، فيذكر فضله وثوابه، ويورد بعض الأدلة من الوحيين، ثم يذكر الجهاد بالمال وأن الله -تعالى- يقدمه على الجهاد بالنفس، ثم يضرب أمثلة في جهاد الصحابة وما حصل لهم من النصر والتمكين، ويذكر أسباب ذلك من إصلاح النية وهو أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر، وكذا إصلاح العمل، والبعد عن السيئات والمخالفات التي تكون سبباً في الخذلان وتسليط الأعداء، وهكذا حتى يخرج الخطيب بنتيجة واضحة تؤثر في نفوس الحاضرين.

 

وأما حال المأمومين يوم الجمعة:

فقد ورد ما يحث المسلم على التأدب والإخبات، فورد الأمر بالاغتسال يوم الجمعة، وقد قيل بوجوبه، والراجح أنه مستحب مؤكد، والحكمة فيه احترام المصلين، والبعد عن الأذى، وهكذا أمر بالتبكير إلى المسجد ثم أمر أن يصلي ما كتب له من النوافل، ثم أمر بالإنصات لسماع الخطبة وإحضار القلب، والتأمل والتفكّر فيما يسمع من المواعظ والتوجيهات، ونهى عن العبث، ومسح الأرض، والكلام مع غيره، حتى ولو بالنصيحة، وكل ذلك حث له على الإنصات والإصاخة والاستفادة، ليرجع بنتيجة ظاهرة وفائدة كبيرة، يبقى أثرها معه طوال حياته.

 

وأما فضل يوم الجمعة، فورد في الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه... " إلى آخره، وورد حديث: "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المُهجّر كالذي يهدي بدنه، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا جلس الإمام طويت الصحف وحضروا يستمعون الذكر"(رواه البخاري ومسلم)، وعن سلمان مرفوعاً: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ويدهن ويتطيب ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب الله له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"(رواه البخاري)، وزاد في حديث أبي هريرة: "وفضل ثلاثة أيام"(رواه مسلم)، وعن عمرو بن العاص رفعه: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخطَّ رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما"(رواه أبو داود)، وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من غسّل يوم الجمعة واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام ولم يلغ، واستمع؛ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها"(رواه أهل السنن)، وعن علي -رضي الله عنه- قال: " إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، فيرمون الناس بالربائث"(جمع ربيثة، وهي ما يعوق الإنسان عن الوجه الذي يقصد التوجه إليه)، ويبطئونهم عن الجمعة، وتغدو الملائكة فيجلسون على أبواب المساجد، فيكتبون الرجل من ساعة، والرجل من ساعتين، حتى يخرج الإمام، فإذا جلس مجلساً سيتمكن فيه من الاستماع والنظر فأنصت ولم يلغ كان له كفلان من الأجر، فإن نأى حيث لا يستمع فأنصت ولم يلغُ كان له كفل من الأجر" الحديث (رواه أبو داود)، وهناك فضائل أخرى وردت في السنة فمن طلبها وجدها.

 

وأخيراً نصيحتي لكل مسلم:

أن يحقق الاستسلام لله -تعالى-، وأن تظهر عليه آثار هذا الدين الذي يعتقده، وذلك بالمواظبة على الصلوات في المساجد جمعة وجماعة، ويحافظ على سننها ورواتبها وأورادها وأذكارها، ليدل كل هذا على محبته لهذه العبادة، وإقباله إليها برغبة وصدق وإخلاص، وبالتقرب إلى ربه تعالى بالأعمال الصالحة، فيكثر من ذكر الله -تعالى- صباحاً ومساءً، ويدعو ربه غدواً وعشياً، ويتعاهد الصدقة حسب تمكنه ويساره، ويعمل ما أستطاع من القربات من صيام وصلة وحج وعمرة وبرّ وإحسان ونصح وإخلاص ودلالة على الخير وأمر بمعروف ونهي عن المنكر. وننصح المسلم بالبعد عن الآثام وأنواع الأجرام، فيحفظ جوارحه عن المعاصي: فيصون سمعه عن اللهو واللعب، والغناء والطرب، ويغض بصره عن النظر إلى الصور الفاتنة، والأفلام الهابطة، ويصون كسبه عن الحرام والمشتبه، ويحرص على صحبة الأخيار ومجالسة الصالحين، والقرب من العلماء العاملين، وهكذا حتى يكون ذلك سبباً لقبول عباداته، وتقبل مواعظه وإرشاداته، ويكون ممن يسمع ويطيع وبذلك ينجو من عذاب الله وسخطه.

 

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

المشاهدات 2440 | التعليقات 0