خطبة الجمعة الغلول والإختلاس وعقوبة أكل الحرام
عبدالوهاب بن محمد المعبأ
1438/05/05 - 2017/02/02 18:03PM
خطبة الجمعة
الغلول والإختلاس
وعقوبة أكل الحرام
جمع واعداد عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله الذي أحلَّ لنا الحلال، وحرَّم علينا الحرام، وبيَّن لنا الطُّرق السليمة في اكتِساب الأموال، وأمرنا بعمل الأسباب والأكل من رِزقه الحلال، أحمَدُه - سبحانه - وأشكُره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله -تعالى- واعلَموا أنَّ الكثير اليوم قد وقَع فيما نُهِي عنه في اكتِساب الأموال، وأصبح همُّه الحصول عليه لا يُبالي بحَلالٍ أم بحَرام، فالحلال عِندَه ما حلَّ بيده وقدر على الحصول عليه، ولو بالادِّعاءات الباطلة والتَّضليل على الآخَرين،
ايها المسلمون تكلمنا في جمعة مضت عن جريمة السرقة وماجاء في ذلك من الوعيد الشديد
وقد وعدناكم بتتمة الموضوع وتكملة الخطبة
عباد الله: استعيذوا بالله من الخزي يوم الندامة، ومن الفضيحة يوم القيامة؛ فإنه مِمَّا تكون به الفضيحة يوم القيامة "الغلول"، وهو أخذ المال وحقوق الناس بغيرِ حقٍ ولا موجب، (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 161].
نعم -يا عباد الله- من يغلل: أي يأخذُ الأموال بغير ِحقها، يأتي بها يوم القيامة -مهما كثرت وتعددت- يأتي بها يحملها على رقبته، إن كانت إبلاً، أو كانت بقرًا، أو كانت أموالاً أو غير ذلك، كُل ما غله يأتي به يوم القيامة يحمله على رقبته خزيًا بين العباد، وفضيحة على رؤوس الأشهاد، يأتي يوم القيامة يحمل غلوله على رقبته.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -أي ذهبٌ أو فضةٌ- فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ". واللفظ عند مسلم.
عباد الله الحجةُ على العباد قامت ببيان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونصحه وإنذاره، فليحذر العبدُ من الخزي والفضيحة يوم القيامة، ولا يستهن من الغلول بشيءٍ، ولا يحتقر من أموال الناس شيئًا؛ فإن من أخذ من أموال الناس ولو كان قليلاً أتى يوم القيامة يحمله على رقبته فضيحة وخزيًا على رؤوس الأشهاد.
عباد الله: جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي على متاعه، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هُوَ فِي النَّارِ"، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. فليحذر العبد ُ المؤمن من الغلول
عباد الله-.
واعلموا -رعاكم الله- أن الغلول أنواعٌ كثيرةٌ، وصنوفٌ عديدةٌ، يجب علينا أن نحذرها أشد الحذر، فمن الغلول -عباد الله- الأخذ من الفيء والغنائم؛ ففي صحيح مسلم قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَلا؛ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ". رواه مسلم.
إن اختلاسه وأخذه من المال العام؛ هذا الشيء اليسير قبل أن يوزع على المسلمين مع جهاده وشرف صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشفع له عند الله؛ فكيف بمن يعبث ويسرق ويختلس الأموال والعقار.ألا يخاف الله؟
قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].
ومن الغلول -عباد الله- الأخذ من الزكاة أخذ عمال الزكاة؛ ففي سنن أبي داود عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ: "انْطَلِقْ -أَبَا مَسْعُودٍ- وَلا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ وَعَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ".
ومن الغلول -عباد الله- أخذ العمال من الهدايا -والعمال هم الموظفون الذين يتقاضون على أعمالهم رواتب - فأخذهم الهدايا من الناس الذي لهم قضايا عندهم نوعٌ من الغلول؛ فعن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ عَامِلاً، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ لَهُ: "أَفََلا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لا؟!"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لا
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ". رواه البخاري.
ومن الغلول -عباد الله- الاختلاس من الأموال العامة؛ فعن عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رواه مسلم.
ومعنى الحديث: من جعلناه على عمل وأعطيناه على ذلك مالاً، فلا يحل له أن يأخذ شيئاً بعد ذلك، فإن أخذ فهو غلول، والغلول هو الخيانة والاختلاس من أموال المسلمين، وقال - تعالى -: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161].
ايها المسلمون عن الفضل بن عميرة: أن الأحنف بن قيس قدم على عمر في وفد من العراق، في يومٍ صائفٍ شديد الحر، وهو محتجز بعباءة، يحاول إدراك بعيرًا من إبل الصدقة، شرد، فقال: "يا أحنف ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة يكفيك هذا؛ قال عمر: ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني، ومن الأحنف بن قيس.
إنها الأمانة والشعور بالمسئولية تجاه الحقوق والممتلكات العامة للمجتمع المسلم.
بل بلغ الورع بعمر بن عبد العزيز: أنه كان إذا جاء وزرائه ليلاً ليتحدثوا في أمور المسلمين أوقد لهم شمعة يستضيئوا بها؛ فإذا أكملوا حديثهم، وجلسوا يتسامرون أطفأها، وأوقد أخرى مكانها، فيسألونه لما يا عمر، قال: هذه الشمعة من بيت مال المسلمين، وكنا نتحدث في مصالحهم، أما وقد فرغنا من ذلك أوقدت سراجي، وجاءوا له بزكاة المسك، فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته، ورعاً عن المال العام، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته.
الله أكبر؛ فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة، فأخذ ينهب منها بغير حساب.
ومن الغلول -عباد الله- اغتصاب الأراضي والعقارات ونحو ذلك بغيرِ حقٍّ؛ ففي البخاري وغيره عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ". فإياكم وإياكم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". متفقٌ عليه.
عباد الله صور أخذ الحرام وأكله كثيرة جدا
كأكل الربا وتعاطي الرشوة والغصب والسرقة والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين، والاستيلاء على الحقوق والممتلكات، واختلاس الأموال الخاصة والعامة، بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة، بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر والجشع والطمع لدى بعض النفوس، حين يضعف فيها وازع الإيمان، وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق،
عباد الله: إن الأمرَ خطيرٌ جد خطير،وفي الحديث عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم في صحيحه،
فليحذر العبد وليتقي الله -عز وجل- مادام في دار العمل، قبل أن يلقى الله -تبارك وتعالى- بغلولٍ ومظالم واختلاسات وحيل وسرقات وغش وخيانات لا قبل له بها. اللهم إنا نعوذ بك من الظلم ومن الغلول، اللهم إنا نعوذ بك من الظلم ومن الغلول، ومن البغي ومن العدوان، اللهم طهر أموالنا من الحرام والآثام، اللهم أصلح لنا شأننا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفره يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
عباد الله روي في الخبر: أن ملَكا على بيت المقدس ينادي كل يوم وكل ليلة: من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "، الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة.
نعم أيها الكرام: فللمال الحرام عقوبات تصيب آكله، ولو لم يكن منها إلا أن الله لا يقبل من آكل الحرام عملا صالحا ولا صدقة؛
كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جمع مالا حراما، ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه "[رواه ابن خزيمة وحسنه الألباني].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ".
وعن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: "لا يقبل اللّه صلاة امرئ في جوفه حرام".
قال سفيان الثوري: "من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، كيف يقبل من آكل الحرام عمل، أو يرفع له دعاء، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
وقال وهب بن الورد: " لو قمتَ قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يقبل الله صلاة امرئ وفي جوفه حرام حتى يتوب إلى الله تعالى منه ".
وروي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء، قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن جهاده مع أكل الحرام لا ينفعه.
وروي عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول: خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة، أجعلُ كسبه من غير حِلٍّ، إن تزوج تزوج من حرام، وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام ا. هـ.
إذا حججتَ بمالٍ أصلهُ دنسٌ *** فما حججتَ ولكنْ حَجَّتِ العِيرُ
لا يقبلُ الله إلاّ كلَّ طَيِّبَة ***ٍ ما كلُّ مَنْ حَجَّ بيتَ الله مَبْرُورُ
قال الغزالي: العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وإن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها، وقال: العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار.
قال ابن كثير عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]: "والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدّعاء والعبادة، كما أنّ الأكل من الحرام يمنع قبول الدّعاء والعبادة".
وقال ابن رجب - عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51]: "المراد بهذا أنّ الرّسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطّيّبات الّتي هي الحلال، وبالعمل الصّالح، فمتى كان الأكل حلالا فالعمل الصّالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا؟".
فاتقوا الله -يا معاشر الناس-: وطهروا مكاسبكم وطعامكم من الحرام، ومن المشتبه بالحرام، حتى يبارك اللهّ لكم مكاسبكم، ويصلح عملكم، ويتقبل طاعتكم فإنه تعالى لا يتقبل إلا من المتقين.
عباد الله ومما يوجّه له الآباء الالتفات إلى أبنائهم، وأن يكونوا صدورًا واسعة تحتضنهم، فيأخذوهم بالرّفق فيربوهم على الدين وتعظيم الله جل جلاله في قلوبهم
وإن يربوهم على الاستقامة والعفة واحترام حقوق وملك الآخرين وبيان شناعة التعدي على أملاك الآخرين، تربية الأبناء على القناعة بما قسمه الله لهم من الرزق، وتربيتهم على تحمل المسؤولية من صغرهم وعلى قدر أعمارهم، تربيتهم على حبّ الخير للناس كما يحبونه لأنفسهم،
تربيتهم بمحاسبتهم على أخطائهم وتوجيههم التوجيه السليم وإبعادهم عن رفاق السوء ومحاولة تقريبهم إلى أهل الخير والصلاح، تربيتهم على حبّ العلم والقراءة والمعرفة والثقافة. مثل هذه التربية تحتاج إلى جهاد وعمل حتى تثمر ثمارا يانعة صالحة.
وينبغي أن يُعمَّق في أنفسهم حب الأمانة وعزها ومدح أهلها، وذُلُّ الخيانة ودناءتُها وخسةُ أهلها، يُزرع في نفوس أبنائهم الخوف من الله ومراقبته واطلاعه سبحانه على العبد وانه سبحانه لا تخفى عليه خافية.
على الآباء أن يراقبوا أولادهم متى ما وجدوا في أيديهم شيئا مستغربا، فلْيسألوهم عن سبب حصولهم على هذا الشيء، فلربما كان سبب حصولهم عليه سرقة من مال الآخرين، وينبغي أن يحرص الآباء والأمهات على سد حاجة أبنائهم حسب استطاعتهم، مع بيان أن الحاجة لا تبرر الاعتداء على أموال الآخرين ولا كسب المال من أي طريق ولو كان حراما.
إن هذه المعاني، وغيرها، يجب أن تُزرعَ في نفس الولد منذ نعومة أظفاره؛ فينشأ محبا للأمانة، حريصا عليها، نافرا من الخيانة والسرقة، كارها لها ولأهلها.
ومن الأمور التي يوجه إليها الناس هو عدم شراء الأموال المسروقة، فبعض البضائع التي يشك في أمرها وتباع بأسعار غريبة تكون مسروقة، والسارق يبيع في العادة بأيّ ثمن، فشراء مثل هذه البضائع تشجيع بشكل غير مباشر على تصريفها.
وصلو وسلموعلى خير البرية ......
أخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648
الغلول والإختلاس
وعقوبة أكل الحرام
جمع واعداد عبدالوهاب المعبأ
الحمد لله الذي أحلَّ لنا الحلال، وحرَّم علينا الحرام، وبيَّن لنا الطُّرق السليمة في اكتِساب الأموال، وأمرنا بعمل الأسباب والأكل من رِزقه الحلال، أحمَدُه - سبحانه - وأشكُره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عباد الله، اتَّقوا الله -تعالى- واعلَموا أنَّ الكثير اليوم قد وقَع فيما نُهِي عنه في اكتِساب الأموال، وأصبح همُّه الحصول عليه لا يُبالي بحَلالٍ أم بحَرام، فالحلال عِندَه ما حلَّ بيده وقدر على الحصول عليه، ولو بالادِّعاءات الباطلة والتَّضليل على الآخَرين،
ايها المسلمون تكلمنا في جمعة مضت عن جريمة السرقة وماجاء في ذلك من الوعيد الشديد
وقد وعدناكم بتتمة الموضوع وتكملة الخطبة
عباد الله: استعيذوا بالله من الخزي يوم الندامة، ومن الفضيحة يوم القيامة؛ فإنه مِمَّا تكون به الفضيحة يوم القيامة "الغلول"، وهو أخذ المال وحقوق الناس بغيرِ حقٍ ولا موجب، (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 161].
نعم -يا عباد الله- من يغلل: أي يأخذُ الأموال بغير ِحقها، يأتي بها يوم القيامة -مهما كثرت وتعددت- يأتي بها يحملها على رقبته، إن كانت إبلاً، أو كانت بقرًا، أو كانت أموالاً أو غير ذلك، كُل ما غله يأتي به يوم القيامة يحمله على رقبته خزيًا بين العباد، وفضيحة على رؤوس الأشهاد، يأتي يوم القيامة يحمل غلوله على رقبته.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -أي ذهبٌ أو فضةٌ- فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ". واللفظ عند مسلم.
عباد الله الحجةُ على العباد قامت ببيان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونصحه وإنذاره، فليحذر العبدُ من الخزي والفضيحة يوم القيامة، ولا يستهن من الغلول بشيءٍ، ولا يحتقر من أموال الناس شيئًا؛ فإن من أخذ من أموال الناس ولو كان قليلاً أتى يوم القيامة يحمله على رقبته فضيحة وخزيًا على رؤوس الأشهاد.
عباد الله: جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي على متاعه، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هُوَ فِي النَّارِ"، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. فليحذر العبد ُ المؤمن من الغلول
عباد الله-.
واعلموا -رعاكم الله- أن الغلول أنواعٌ كثيرةٌ، وصنوفٌ عديدةٌ، يجب علينا أن نحذرها أشد الحذر، فمن الغلول -عباد الله- الأخذ من الفيء والغنائم؛ ففي صحيح مسلم قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَلا؛ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ". رواه مسلم.
إن اختلاسه وأخذه من المال العام؛ هذا الشيء اليسير قبل أن يوزع على المسلمين مع جهاده وشرف صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشفع له عند الله؛ فكيف بمن يعبث ويسرق ويختلس الأموال والعقار.ألا يخاف الله؟
قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].
ومن الغلول -عباد الله- الأخذ من الزكاة أخذ عمال الزكاة؛ ففي سنن أبي داود عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ: "انْطَلِقْ -أَبَا مَسْعُودٍ- وَلا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ وَعَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ".
ومن الغلول -عباد الله- أخذ العمال من الهدايا -والعمال هم الموظفون الذين يتقاضون على أعمالهم رواتب - فأخذهم الهدايا من الناس الذي لهم قضايا عندهم نوعٌ من الغلول؛ فعن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَعْمَلَ عَامِلاً، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَالَ لَهُ: "أَفََلا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لا؟!"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لا
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ". رواه البخاري.
ومن الغلول -عباد الله- الاختلاس من الأموال العامة؛ فعن عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". رواه مسلم.
ومعنى الحديث: من جعلناه على عمل وأعطيناه على ذلك مالاً، فلا يحل له أن يأخذ شيئاً بعد ذلك، فإن أخذ فهو غلول، والغلول هو الخيانة والاختلاس من أموال المسلمين، وقال - تعالى -: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161].
ايها المسلمون عن الفضل بن عميرة: أن الأحنف بن قيس قدم على عمر في وفد من العراق، في يومٍ صائفٍ شديد الحر، وهو محتجز بعباءة، يحاول إدراك بعيرًا من إبل الصدقة، شرد، فقال: "يا أحنف ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة يكفيك هذا؛ قال عمر: ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني، ومن الأحنف بن قيس.
إنها الأمانة والشعور بالمسئولية تجاه الحقوق والممتلكات العامة للمجتمع المسلم.
بل بلغ الورع بعمر بن عبد العزيز: أنه كان إذا جاء وزرائه ليلاً ليتحدثوا في أمور المسلمين أوقد لهم شمعة يستضيئوا بها؛ فإذا أكملوا حديثهم، وجلسوا يتسامرون أطفأها، وأوقد أخرى مكانها، فيسألونه لما يا عمر، قال: هذه الشمعة من بيت مال المسلمين، وكنا نتحدث في مصالحهم، أما وقد فرغنا من ذلك أوقدت سراجي، وجاءوا له بزكاة المسك، فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته، ورعاً عن المال العام، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته.
الله أكبر؛ فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة، فأخذ ينهب منها بغير حساب.
ومن الغلول -عباد الله- اغتصاب الأراضي والعقارات ونحو ذلك بغيرِ حقٍّ؛ ففي البخاري وغيره عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ". فإياكم وإياكم. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". متفقٌ عليه.
عباد الله صور أخذ الحرام وأكله كثيرة جدا
كأكل الربا وتعاطي الرشوة والغصب والسرقة والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات، وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين، والاستيلاء على الحقوق والممتلكات، واختلاس الأموال الخاصة والعامة، بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة، بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر والجشع والطمع لدى بعض النفوس، حين يضعف فيها وازع الإيمان، وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق،
عباد الله: إن الأمرَ خطيرٌ جد خطير،وفي الحديث عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم في صحيحه،
فليحذر العبد وليتقي الله -عز وجل- مادام في دار العمل، قبل أن يلقى الله -تبارك وتعالى- بغلولٍ ومظالم واختلاسات وحيل وسرقات وغش وخيانات لا قبل له بها. اللهم إنا نعوذ بك من الظلم ومن الغلول، اللهم إنا نعوذ بك من الظلم ومن الغلول، ومن البغي ومن العدوان، اللهم طهر أموالنا من الحرام والآثام، اللهم أصلح لنا شأننا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفره يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
عباد الله روي في الخبر: أن ملَكا على بيت المقدس ينادي كل يوم وكل ليلة: من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "، الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة.
نعم أيها الكرام: فللمال الحرام عقوبات تصيب آكله، ولو لم يكن منها إلا أن الله لا يقبل من آكل الحرام عملا صالحا ولا صدقة؛
كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جمع مالا حراما، ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه "[رواه ابن خزيمة وحسنه الألباني].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ".
وعن ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- قال: "لا يقبل اللّه صلاة امرئ في جوفه حرام".
قال سفيان الثوري: "من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، كيف يقبل من آكل الحرام عمل، أو يرفع له دعاء، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
وقال وهب بن الورد: " لو قمتَ قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يقبل الله صلاة امرئ وفي جوفه حرام حتى يتوب إلى الله تعالى منه ".
وروي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال: إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء، قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن جهاده مع أكل الحرام لا ينفعه.
وروي عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول: خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة، أجعلُ كسبه من غير حِلٍّ، إن تزوج تزوج من حرام، وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام ا. هـ.
إذا حججتَ بمالٍ أصلهُ دنسٌ *** فما حججتَ ولكنْ حَجَّتِ العِيرُ
لا يقبلُ الله إلاّ كلَّ طَيِّبَة ***ٍ ما كلُّ مَنْ حَجَّ بيتَ الله مَبْرُورُ
قال الغزالي: العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وإن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها، وقال: العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار.
قال ابن كثير عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]: "والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدّعاء والعبادة، كما أنّ الأكل من الحرام يمنع قبول الدّعاء والعبادة".
وقال ابن رجب - عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51]: "المراد بهذا أنّ الرّسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطّيّبات الّتي هي الحلال، وبالعمل الصّالح، فمتى كان الأكل حلالا فالعمل الصّالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال فكيف يكون العمل مقبولا؟".
فاتقوا الله -يا معاشر الناس-: وطهروا مكاسبكم وطعامكم من الحرام، ومن المشتبه بالحرام، حتى يبارك اللهّ لكم مكاسبكم، ويصلح عملكم، ويتقبل طاعتكم فإنه تعالى لا يتقبل إلا من المتقين.
عباد الله ومما يوجّه له الآباء الالتفات إلى أبنائهم، وأن يكونوا صدورًا واسعة تحتضنهم، فيأخذوهم بالرّفق فيربوهم على الدين وتعظيم الله جل جلاله في قلوبهم
وإن يربوهم على الاستقامة والعفة واحترام حقوق وملك الآخرين وبيان شناعة التعدي على أملاك الآخرين، تربية الأبناء على القناعة بما قسمه الله لهم من الرزق، وتربيتهم على تحمل المسؤولية من صغرهم وعلى قدر أعمارهم، تربيتهم على حبّ الخير للناس كما يحبونه لأنفسهم،
تربيتهم بمحاسبتهم على أخطائهم وتوجيههم التوجيه السليم وإبعادهم عن رفاق السوء ومحاولة تقريبهم إلى أهل الخير والصلاح، تربيتهم على حبّ العلم والقراءة والمعرفة والثقافة. مثل هذه التربية تحتاج إلى جهاد وعمل حتى تثمر ثمارا يانعة صالحة.
وينبغي أن يُعمَّق في أنفسهم حب الأمانة وعزها ومدح أهلها، وذُلُّ الخيانة ودناءتُها وخسةُ أهلها، يُزرع في نفوس أبنائهم الخوف من الله ومراقبته واطلاعه سبحانه على العبد وانه سبحانه لا تخفى عليه خافية.
على الآباء أن يراقبوا أولادهم متى ما وجدوا في أيديهم شيئا مستغربا، فلْيسألوهم عن سبب حصولهم على هذا الشيء، فلربما كان سبب حصولهم عليه سرقة من مال الآخرين، وينبغي أن يحرص الآباء والأمهات على سد حاجة أبنائهم حسب استطاعتهم، مع بيان أن الحاجة لا تبرر الاعتداء على أموال الآخرين ولا كسب المال من أي طريق ولو كان حراما.
إن هذه المعاني، وغيرها، يجب أن تُزرعَ في نفس الولد منذ نعومة أظفاره؛ فينشأ محبا للأمانة، حريصا عليها، نافرا من الخيانة والسرقة، كارها لها ولأهلها.
ومن الأمور التي يوجه إليها الناس هو عدم شراء الأموال المسروقة، فبعض البضائع التي يشك في أمرها وتباع بأسعار غريبة تكون مسروقة، والسارق يبيع في العادة بأيّ ثمن، فشراء مثل هذه البضائع تشجيع بشكل غير مباشر على تصريفها.
وصلو وسلموعلى خير البرية ......
أخوكم عبدالوهاب المعبأ
773027648