خطبة : ( الجزاء من جنس العمل )
عبدالله البصري
1439/04/11 - 2017/12/29 00:10AM
الجزاء من جنس العمل 11 / 4 / 1439
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّها النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، للهِ – تَعَالى - في خَلقِهِ وَفي الكَونِ سُنَنٌ ثَابِتَةٌ ، لا تَتَغَيَّرُ وَلا تَتَبَدَّلُ ، وَلا تَزُولُ وَلا تَحُولُ ، وَمِن تِلكَ السُّنَنِ العَظِيمَةِ المُحكَمَةِ ، أَنَّهُ - تَعَالى – قَد جَعَلَ لِكُلِّ بَذرَةٍ ثَمَرَةً ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ عَمَلٍ نَتِيجَةً ، وَبِحَسَبِ مَا يَزرَعُ كُلُّ امرِئٍ يَحصُدُ وَلا بُدَّ ، وَمِن جِنسِ مَا يَعمَلُ يَلقَى جَزَاءَهُ أَمَامَهُ . وَمِن تَمَامِ عَقلِ الإِنسَانِ وَعَمِيقِ فَهمِهِ ، أَنَّهُ لا يَنتَظِرُ ثَمَرًا لِغَيرِ مَا بَذَرَ ، وَلا يَتَوَقَّعُ أَن يَحصُدَ إِلاَّ مَا زَرَعَ ، وَقَد وَرَدَت في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ وَأَحَادِيثُ وَاضِحَاتٌ ، تَذكُرُ جَزَاءَ المُحسِنِينَ وَعَاقِبَةَ المُسِيئِينَ ، حَيثُ يَرَى المُحسِنُونَ الجَزَاءَ طَيِّبًا مِن جِنسِ أَعمَالِهِمُ الطَّيِّبَةِ ، وَيَجِدُ المُسِيئُونَ العَاقِبَةَ سَيِّئَةً بِحَسبِ مَا قَدَّمُوه مِن سُوءٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ المَولى – سُبحَانَهُ - تَرغِيبًا لِعِبَادِهِ في الأَعمَالِ الطَّيِّبَةِ الصَّالِحَةِ وَحَثًّا لَهُم عَلَيهَا ، وَتَرهِيبًا لَهُم مِنَ الأَعمَالِ الخَبِيثَةِ السَّيِّئَةِ وَتَقبِيحًا لَهَا عِندَهُم ، قَالَ – تَعَالى - : " هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ " وَقَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَني أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى " وَقَالَ – عَزَّ وَجَلَّ - : " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ زِدنَاهُم عَذَابًا فَوقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفسِدُونَ " أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – إِنَّ النَّتَائِجَ الَّتي يَرَاهَا الإِنسَانُ وَيَجِدُهَا بَينَ يَدَيهِ حَتَّى في دُنيَاهُ قَبلَ أُخرَاهُ ، إِنَّمَا هِيَ ثَمَرَةُ مَا عَمِلَ وَقَدَّمَ ، فَمَن حَفِظَ اللهَ وَأَوفَى بِعَهدِهِ ، حَفِظَهُ اللهُ وَأَوفَى لَهُ بِعَهدِهِ ، وَمَن ضَيَّعَ ذَلِكَ ضَيَّعَهُ اللهُ جَزَاءً وِفَاقًا ، وَمَن أَحسَنَ وَجَدَ جَزَاءَهُ حُسنًا ، وَمَن أَسَاءَ عُوقِبَ بِسَيِّئَةٍ يَجِدُهَا وَيَرَاهَا " وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ " قَالَ – سُبحَانَهُ - : " وَأَوفُوا بِعَهدِي أُوفِ بِعَهدِكُم " وَقَالَ – تَعَالى – : " وَمَن يَقتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ " وَقَالَ – جَلَّ وَعَلا - : " وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ " وَمِن رَحمَتِهِ – تَعَالى – بِعِبَادِهِ وَحُبِّهِ لأَن يَفعَلُوا الخَيرَ وَيُدِيمُوهُ ، أَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ أَحَدُهُم في الطَّاعَةِ ازدَادَ المَولَى مِنهُ قُربًا ، وَكُلَّمَا أَكثَرَ مِن ذِكرِهِ سَوَاءً بِلِسَانِهِ أَو بِعَمَلِهِ ، فَإِنَّهُ – تَعَالى - يَذكُرُهُ وَهُوَ غَنيٌّ عَنهُ ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - في الحَدِيثِ القُدُسيِّ : " أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَني ، فَإِن ذَكَرَني في نَفسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفسِي ، وَإِن ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرتُهُ في مَلأٍ خَيرٍ مِنهُم ، وَإِن تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا ، وَإِن تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ بَاعًا ، وَإِن أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . بَل إِنَّهُ – جَلَّ وَعَلا – مِن تَمَامِ عَدلِهِ مَعَ عِبَادِهِ وَعَدَمِ ظُلمِهِ لأَحَدٍ وَلا هَضمِهِ مُحسِنًا مَا قَدَّمَهُ مِن إِحسَانٍ ، فَإِنَّهُ يَجزِي الكَافِرَ بِالحَسَنَةِ حَسَنَةً في الدُّنيَا ، وَأَمَّا الآخِرَةُ فَلا يَنَالُ مَا فِيهَا مِنَ الجَزَاءِ الطَّيِّبِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ إِلاَّ المُؤمِنُونَ المُخلِصُونَ ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " إِنَّ الكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطعِمَ بِهَا طُعمَةً مِنَ الدُّنيَا ، وَأَمَّا المُؤمِنُ فَإِنَّ اللهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ في الآخِرَةِ ، وَيُعقِبُهُ رِزقًا في الدُّنيَا عَلَى طَاعَتِهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَفي رِوَايَةٍ : " إِنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مُؤمِنًا حَسَنَةً يُعطَى بِهَا في الدُّنيَا وَيُجزَى بِهَا في الآخِرَةِ ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطعَمُ بِحَسَنَاتٍ مَا عَمِلَ بِهَا للهِ في الدُّنيَا ، حَتَّى إِذَا أَفضَى إِلى الآخِرَةِ لم تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجزَى بِهَا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَمِن تَمَامِ هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ المُحكَمَةِ في أَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، أَنَّهَا تَتَحَقَّقُ حَتَّى فِيمَا يَفعَلُهُ النَّاسُ بِبَعضِهِم وَمَا يَتَصَرَّفُ بِهِ كُلٌّ مِنهُم حِيَالَ الآخَرِ ، رَوَى مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ - رضي اللهُ عنهما - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ " وَرَوَى الإِمَامُ أَحمَدُ في مُسنَدِهِ مِن حَدِيثِ أَبي الدَّردَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " مَن رَدَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ ، رَدَّ اللهُ عَن وَجهِهِ النَّارَ يَومَ القِيَامَةِ " وَرَوَى مُسلِمٌ مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : "اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِم فَاشقُقْ عَلَيهِ ، وَمَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَرَفَقَ بِهِم فَارفُقْ بِهِ " وَرَوَى الإِمَامُ أَحمَدُ مِن حَدِيثِ عَمرِو بنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ : يَا مُعَاوِيَةُ ، إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ : " مَا مِن إِمَامٍ يُغلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الحَاجَةِ وَالخَلَّةِ وَالمَسكَنَةِ ، إِلاَّ أَغلَقَ اللهُ أَبوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسكَنَتِهِ " وَرَوَى مُسلِمٌ مِن حَدِيثِ هِشَامِ بنِ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : سَمِعتُ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ : " إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ في الدُّنيَا " وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ مِن حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " قَالَ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - : يَا ابنَ آدَمَ أَنفِقْ أُنفِقْ عَلَيكَ " وَفي الصَّحِيحَينِ أَيضًا مِن حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " مَا مِن يَومٍ يُصبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ أَعطِ مُنفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعطِ مُمسِكًا تَلَفًا " وَرَوَى الإِمَامُ أَحمَدُ مِن حَدِيثِ أَبي بَرزَةَ الأَسلَمِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " يَا مَعشَرَ مَن آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلم يَدخُلِ الإِيمَانُ قَلبَهُ ، لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ ، وَلا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِم ؛ فَإِنَّهُ مَن يَتَّبِعْ عَورَاتِهِم يَتَّبِعِ اللهُ عَورَتَهُ ، وَمَن يَتَّبِعِ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحْهُ في بَيتِهِ " قَالَ بَعضُ السَّلَفِ : أَدرَكتُ أَقوَامًا لم تَكُنْ لَهُم عُيُوبٌ ، فَذَكَرُوا عُيُوبَ النَّاسِ ، فَذَكَرَ النَّاسُ لَهُم عُيُوبًا ، وَأَدرَكتُ أَقوَامًا كَانَت لَهُم عُيُوبٌ ، فَكَفُّوا عَن عُيُوبِ النَّاسِ ، فَنُسِيَت عُيُوبُهُم . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، مَا بَشَّرَ بِهِ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ المُؤمِنِينَ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا - فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ مِن حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ – قَالَ : أَتَى جِبرِيلُ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَد أَتَت ، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ أَتَتكَ فَاقرَأْ عَلَيهَا السَّلامَ مِن رَبِّهَا وَمِنِّي ، وَبَشِّرْهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ " وَالصَّخَبُ هو ارتِفَاعُ الأَصوَاتِ ، وَالنَّصَبُ هُوَ التَّعَبُ ، قَالَ الإِمَامُ السُّهَيلِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - : مُنَاسَبَةُ نَفيِ هَاتَينِ الصِّفَتَينِ ، أَعني المُنَازَعَةَ وَالتَّعَبَ ، أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَعَا إِلى الإِسلامِ أَجَابَت خَدِيجَةُ طَوعًا ، فَلَم تُحوِجْهُ إِلى رَفعِ صَوتٍ وَلا مُنَازَعَةٍ وَلا تَعَبٍ في ذَلِكَ ، بَل أَزَالَت عَنهُ كُلَّ نَصَبٍ ، وَآنَسَتهُ مِن كُلِّ وَحشَةٍ ، وَهَوَّنَت عَلَيهِ كُلَّ عَسِيرٍ ، فَنَاسَبَ أَن يَكُونَ مَنزِلُهَا الَّذِي بَشَّرَهَا بِهِ رَبُّهَا بِالصِّفَةِ المُقَابِلَةِ لِفِعلِهَا . انتَهَى كَلامُهُ - رَحِمَهُ اللهُ - . وَهَذَا جَعفَرُ بنُ أَبي طَالِبٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - لَمَّا قَاتَلَ في مَعرَكَةِ مُؤتَةَ وَقُطِعَت يَدَاهُ ، عَوَّضَهُ اللهُ بِأَن جَعَلَهُ يَطِيرُ في الجَنَّةِ مَعَ المَلائِكَةِ ، رَوَى الحَاكِمُ مِن حَدِيثِ أَبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : " رَأَيتُ جَعفَرَ بنَ أَبي طَالِبٍ يَطِيرُ مَعَ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَاعمَلُوا صَالِحًا تَجِدُوُا غِبَّهُ في الدُّنيَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَسَعَادَةً في قُلُوبِكُم ، وَمَحَبَّةً مِنَ النَّاسِ وَثَنَاءً حَسَنًا وَدُعَاءً صَالِحًا ، وَتَلقَوا ثَمَرَتَهُ في الآخِرَةِ ثَوَابًا جَزِيلاً وَأَجرًا عَظِيمًا ، وَكَمَا تُحِبُّونَ أَن يَكُونَ اللهُ لَكُم فَكُونُوا ، فَإِنَّ مَن أَقبَلَ عَلَى اللهِ بِكُلِّيَّتِهِ أَقبَلَ اللهُ عَلَيهِ جُملَةً ، وَمَن أَعرَضَ عَنِ اللهِ بِكُلِّيَّتِهِ أَعرَضَ اللهُ عَنهُ جُملَةً ، وَمَن كَانَ مَعَ اللهِ حِينًا وَحِينًا كَانَ اللهُ لَهُ كَذَلِكَ ، وَمَن طَلَبَ لَذَّةَ العَيشِ وَطِيبَهُ بِمَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيهِ ، عَاقَبَهُ رَبُّهُ بِنَقِيضِ قَصدِهِ ؛ فَإِنَّ مَا عِندَ اللهِ لا يُنَالُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ ، وَلم يَجعَلِ اللهُ – تَعَالى - مَعصِيَتَهُ سَبَبًا إِلى خَيرٍ قَطُّ " مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ ولا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الحَيَاةُ مَدرَسَةٌ كَبِيرَةٌ ، يَتَلَقَّى الإِنسَانُ فِيهَا دُرُوسًا كَثِيرَةً ، وَيَتَعَرَّضُ لامتِحَانَاتٍ عَدِيدَةٍ ، وَيَدخُلُ في اختِبَارَاتٍ يَومًا بَعدَ يَومٍ وَمَوقِفًا بَعدَ مَوقِفٍ ، وَالعَاقِلُ الفَطِنُ هُوَ مَن يَفعَلُ كَمَا يَفعَلُ الطَّالِبُ المُجتَهِدُ ، حَيثُ يَستَفِيدُ مِن دَرَاسَتِهِ مَا يَتَجَاوَزُ بِهِ اختِبَارَاتِهِ ، وَيُحَصِّلُ بِهِ الدَّرَجَاتِ العَالِيَةَ ، وَأَمَّا المُبطِلُ أَوِ الجَاهِلُ ، فَإِنَّهُ لا يَكَادُ يَستَفِيدُ مِمَّا في حَيَاتِهِ مِن دُرُوسٍ وَعِبَرٍ ، بَل إِنَّ بَعضَ مَن حُرِمَ التَّوفِيقَ لا يَقتَصِرُ خِذلانُهُ عَلَى عَدَمِ الاستِفَادَةِ مِن تَجَارِبِ الحَيَاةِ وَمَوَاقِفِهَا وَمَا يَجرِي فِيهَا مِمَّا يَرَاهُ وَيُعَايِشُهُ ، وَلَكِنَّهُ لا يَزدَادُ بِازدِيَادِ عُمُرِهِ وَنَقصِ أَجَلِهِ ، إِلاَّ تَمَرُّدًا عَلَى القِيَمِ الجَمِيلَةِ ، وَنِسيَانًا لِلأَخلاقِ الفَاضِلَةِ ، ونقضًا لِلمَبَادِئِ الثَّابِتَةِ ، فَيَظلِمُ وَيَبخَسُ ، وَيَفجُرُ وَيَبغِي ، وَيَشِحُّ وَيَبخَلُ ، وَيَشتِمُ وَيَقذِفُ ، وَيَكذِبُ في الشَّكَاوَى وَيُزَوِّرُ الدَّعَاوَى ، وَقَد يَضرِبُ النَّاسَ وَيَعتَدِي عَلَيهِم ، أَو يَسفِكُ دَمًا أَو يَهتِكُ عِرضًا ، وَمَا عَلِمَ هَؤُلاءِ الجَاهِلُونَ أَنَّهُم إِنَّمَا يَجمَعُونَ عَلَى أَنفُسِهِم حَطَبًا يُحرِقُونَ بِهِ حَسَنَاتِهِم ، وَيُوقِدُونَ بِهِ نِيرَانَ قُلُوبِهِم وَيُضَيِّقُونَ عَلَى أَنفُسِهِم ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ أَحَدُهُم رَبَّهُ لَقِيَهُ مُفلِسًا ، جَزَاءَ تَبدِيدِهِ حَسَنَاتِهِ في أَيَّامِ حَيَاتِهِ . رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ ؟! " قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : " إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي يَأتِي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتِي قَد شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ ، أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ، وَلْنُحسِنْ إِلى أَنفُسِنَا بِالتَّزَوُّدِ مِنَ الصَّالِحَاتِ ، وَإِلى النَّاسِ بِبَذلِ النَّدَى وَكَفِّ الأَذَى ، لِنَنَالَ بِذَلِكَ الحُسنَى ، فَقَد قَالَ رَبُّنَا - جَلَّ وَعَلا - : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنَى وَزِيَادَةٌ "
المرفقات
من-جنس-العمل
من-جنس-العمل
من-جنس-العمل-2
من-جنس-العمل-2