(خطبة) التحذير من الغيبة والنميمة
خالد الشايع
الغيبة والنميمة والتحذير منهما 27/6/1444
أما بعد فيا أيها المؤمنون : لقد وهب الله الإنسان نعما عظيمة، لا يدان للعبد في شكرها، ومتى كفرت انقلبت نقما، وذلك كأن يستخدمها في غير طاعة الله، ومن تلك النعم، نعمة اللسان فقد قال الله ممتنا على الإنسان بها ( الم نجعل له عينينِ ولسانا وشفتين )، فهذا اللسان تكسب به جبال الحسنات إن أنت أطلقته في مرضاة الله، وكان على ميزان الشرع يسير، بل يكون طريقا إلى الجنة كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
قال ابن حجر: الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية . . . فالمعنى: من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه.
وقال الداودي: المراد بما بين اللحيين: الفم، قال : فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل.
قال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقي شرهما فقد وقي أعظم الشر.
عباد الله : إن مزالق اللسان كثيرة جدا، ولكن نمر على مزلق خطير تستأنس به النفس ويجري الشيطان بالعبد في واديه، وهو لا يشعر بهدم حسناته، وتكدس السيئات في صحائفه، إنه داء الغيبة الذي قل من الناس من عافاه الله من هذا الداء العضال، فقد وقع فيه الكبير و الصغير والشريف و الحقير، والعالم و الجاهل ،والرجل والمرأة، حتى سمي بفاكهة المجالس .
معاشر المسلمين : قد عَرّف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)
قال النووي: "الغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره"
وبهذا نعلم أن الحديث في الآخرين بما يكرهون على ثلاثة أقسام الغيبة ومضى تعريفها والبهتان والإفك وقد بّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان, ففي صحيح مسلم : "قيل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)),
وأخرج صاحب الحلية من حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم, ولا يَرحل حتى يُرحل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغتبتموه)) فقالوا: يا رسول الله: إنما حدثنا بما فيه قال: ((حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه))
والبهتان إنما يكون في الباطل كما قال الله : {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}
والبهتان قد يكون في حال الغَيبة، وقد يكون حضوراً، قال النووي : "وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه"
وأما الإفك فهو نقلك للكلام الذي قيل في أخيك وأنت تعلم أنه كذب .
معاشر المسلمين : الغيبة حرام بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك النووي، وقد نقل القرطبي الاتفاق على كونها من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة .
ومن الأدلة في ذلك قوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}
قال ابن عباس: حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة.
عباد الله : من تأمل هذه الآية علم أن الغيبة من أبغض الأعمال عند الله تعالى فانظر كيف شبه المغتاب بمن يأكل لحما وليس أي لحم إنه لحم إنسان وليس أي إنسان بل إنه مسلم وليس أي مسلم بل أخوك من أمك وأبيك، ومع هذا تأكله وأنت كاره لأكله، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))
قال النووي في شرحه على مسلم: المراد بذلك كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك.
أيها المؤمنون : إن للغيبة صورا متنوعة قد يقع المسلم فيها وهو لا يشعر فمن ذلك ما ذكره النووي في كتابه الأذكار حيث قال : ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز.
ومن الصور التي تعد أيضاً في الغيبة قال النووي: ومنه قولهم عند ذكره : الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة.
ومن صور الغيبة ما قد يخرج من المرء على صورة التعجب أو الاغتمام أو إنكار المنكر قال ابن تيمية: ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول : تعجبت من فلان كيف لا يعمل كيت وكيت... ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له وما تم له .
ومن عظائم الغيبة : غيبة التعميم، كالذي يغتاب بلدا بأكمله أو جماعةً أو قبيلة بأسرها، وذلك بوصفهم بوصف قد يكون غلب عليهم عند الناس، بغض النظر عن صحته، فهو غيبة إن كان حقا أو بهتان عظيم .
عباد الله : ما أحسن أن يعود الإنسان نفسه أن لا يذكر إخوانه إلا بخير .
ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين .......أقول قولي ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين .................
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله وراقبوه وأعلموا أنكم موقوفون بين يديه وسيسألكم عن كل ما عملتموه، فاعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا .
معاشر المسلمين : إن للغيبة بواعث في نفس العبد متى ما تخلص منها سهل عليه ترك الغيبة ومنها :
ضعف الورع والإيمان، فهما يجعلان المرء يستطيل في أعراض الناس من غير روية ولا تفكر في الوعيد لذلك .
ومنها موافقة الأقران والجلساء ومجاملتهم قال الله على لسان أهل النار {وكنا نخوض مع الخائضين} .
ومنها الحنق على المسلمين وحسدهم والغيظ منهم
ومنها حب الدنيا والحرص على السؤود فيها، قال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغي وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير .
ومنها الهزل والمزاح:
قال ابن عبد البر: "وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض .
أيها المسلمون : لقد حذر السلف من الغيبة وتكاثرت نصوصهم في ذلك فقد كان عمرو بن العاص يسير مع أصحابه فمر على بغل ميت قد انتفخ، فقال: والله لئن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير من أن يأكل لحم مسلم.
قال سفيان بن عيينة : الغيبة أشد من الدّين، الدّين يقضى، والغيبة لا تقضى، وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس، قال الفضل بن عياض: أشد الورع في اللسان، وروى مثله عن ابن المبارك، قال الفقيه السمرقندي: الورع الخالص أن يكف بصره عن الحرام ويكف لسانه عن الكذب والغيبة، ويكف جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام.
معاشر المسلمين من أراد ن يتخلص من الغيبة فعليه أن يسعى جادا في ذلك مخلصا لله تعالى وأن يتذكر أن حسناته ستوزع على من اغتابهم، ولو كانوا أعداء له، فاحفظ لسانك لتحفظ حسناتك .
وإن من الأخلاق الذميمة، وهي شبية بالغيبة، إلا أنها أعظم فتكا بالمجتمع، النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، سواء نقل الكلام بنية طيبة أو بنية سيئة، فالنمام يفسد في ساعة مالا يفسده الساحر في سنة، ولشدة جرم النمام، فقد توعد بعدم دخول الجنة، كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث حذيفة قال صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قتات، وفي لفظ مسلم (نمام )
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ: بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ .
ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا .
وقد بوب البخاري على هذا الحديث فقال :" النَّمِيمَةُ مِنَ الكَبَائِرِ ".
اللهم جنبنا سيء الأخلاق، ومالا ترضاه ياكريم وحسن أخلاقنا وأعمالنا، وأحسن خاتمتنا ...
المرفقات
1673974087_الغيبة والتحذير منها.doc