(خطبة) التحذير من الحرص على المال والشرف

خالد الشايع
1446/06/17 - 2024/12/19 17:00PM

الخطبة الأولى ( تحذير المسلم من الحرص على المال والشرف ) 19/6/1446

أما بعد فيا أيها الناس : يقول سبحانه ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)

فلقد خلق الله الخلق وسخر لهم ما على الأرض ليستخدموه في طاعة الله ، وجعل ما على الأرض زينة وزخرفا ليبلو المؤمن في صبره على الشهوات ، وحفظه لدينه ، ومن تلك الزينة ، المال والمنصب والشرف  ، ومن شدة فتنتهما أصبح العبد يبع دينه بعرض من الدنيا قليل ، والبعض والعياذ بالله يبيع دينه لعرض غيره ، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهما فيما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ».

انظروا إلى هذا المثل العظيم ، هل رأيتم أفسد لزريبة الغنم من ذئب جائع ، فكيف لو كانا ذئبين ، فهذا مثل عظيم جدًّا ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المؤمن بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين ضاريين باتا في الغنم قد غاب عنها رعاتها ليلًا، فهما يأكلان الغنم ويفترسانها، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه قليل.

والحرص على المال نوعان: أحدهما: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة، والمبالغة في طلبه، والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة، فحياته كلها في جمع المال وتحصيله ، ولكنها من الأبواب المباحة ، فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع  قليلا ثم يصير لغيره، ويبقى حسابه عليه، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره،
النوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ [الحشر:9].

أخرج أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا.

قال طائفة من العلماء: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ويمنعها حقوقها، وحقيقته أن تتشوف النفس إلى ما حرم الله ، وأن لا يقنع الإنسان بما أحل الله له من مال، أو فرج، أو غيرهما.

معاشر المسلمين : نرى في هذا الزمن مع كثرت الملهيات وانغماس الناس في الكماليات ، حرص الكثيرين على جمع المال من أي جهة دون التحري عن حله وحرمته ، والبعض يجلس في عمله من الفجر إلى الليل ثم يخرج متعبا يأكل لقمة أو لقمتين ثم ينام ، فرط في الصلاة وفي تربية الأولاد وحقوق الزوجة ، ولا يعلم أنه سينقضي عمره ولم يستمتع بما جمع من المال ، سيرحل من الدنيا ويتركه للورثة يستمتعون به ، وهو يحاسب عليه .

فاحذر عبد الله من فتن الدنيا واستعد للآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .

اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن  ، أقول قولي هذا ....

الخطبة الثانية

أما بعد فيا عباد الله : ونتابع الحديث عن التحذير من الحرص على المال والشرف ، حيث مضى الحديث على الحرص على المال ، وأما حرص المرء على الشرف، فهو أشد هلاكًا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس، والعلو في الأرض، أضر على العبد من طلب المال وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف، وطلب الشرف قسمان:

أحدهما: طلب الشرف بالولاية، والسلطان، والمال، وهذا خطر جدًّا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها، وكرامتها، وعزها، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾ [القصص:83]. وقل من حرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات أن يوفق، بل يوكل إلى نفسه كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال لعبد الرحمن بن سمرة  :  «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا».

والحرص على الشرف بطلب الولايات يستلزم ضررًا عظيمًا قبل وقوعه في السعي في أسبابه، وبعد وقوعه بالخطر العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر.. وغير ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب أيضًا أن يحب ذو الشرف والولاية أن يُحمد على أفعاله ويُثني عليها، ويطلب من الناس ذلك ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما أظهر أمرًا حسنًا في الظاهر وأحب المدح عليه، وقصد به في الباطن شرًّا.

النوع الثاني الحرص على الجاه وهو طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم، والعمل، والزهد، فهذا أفحش من الأول وأقبح وأشد فسادًا وخطرًا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يُطلب بها ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقرب منه، والزلفى لديه. قال الثوري: إنما فضل العلم لأنه يُتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء.

وطلب العلم للدنيا على نوعين: فإذا طلب بشيء من هذا عرض الدنيا الفاني، فهو أيضًا نوعان أحدهما:

الأول: أن يطلب به المال، فهذا من نوع الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرمة. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يَعْنِي رِيحَهَا -».

الثاني: من يطلب بالعمل والعلم والزهد ، الرئاسة على الخلق والتعاظم عليهم، وأن ينقاد الخلق ويخضعوا له ويصرفوا وجوههم إليه، وأن يظهر للناس زيادة علمه على العلماء، أو ليعلوا به عليهم ونحو ذلك، فهذا وعيده النار لأن قصده التكبر على الخلق في نفسه محرم، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة، كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان. روى الترمذي في سننه من حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ».

ومن هذا الباب  أن يطلب العلم، والزهد، والدين، أو يظهر الأعمال الصالحة ليمدح ويثنى عليه حتى يراد وتلتمس بركته ودعاؤه وتقبَّل يده، وهو محب لذلك ويقيم عليه ويفرح به ويسعى في أسبابه، ومن هنا كان السلف الصالح يكرهون الشهرة غاية الكراهة، منهم: أيوب، والنخعي، وسفيان وأحمد،.. وغيرهم، كان أويس وغيره من الزهاد إذا عُرفوا في مكان ارتحلوا عنه، وكان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة، وقال الإمام أحمد بن حنبل: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أُعرف قد بليت بالشهرة، وكان كثير منهم يكره أن يُطلب منه الدعاء ويقول لمن يسأله الدعاء: أي شيء أنا؟ وكتب رجل إلى أحمد يسأله الدعاء، فقال أحمد: إذا دعونا نحن لهذا، فمن يدعو لنا».

وأما تسابق وتنافس بعض الناس على الظهور الإعلامي سواء كان في القنوات، أو شبكات التواصل، أو غيرها من الوسائل وحب التكاثر في أعداد المتابعين والحرص على ذلك، فإنه يخشى على صاحبه مما سبق ذكره عن السلف.

اللهم وفقنا لهداك ....

المرفقات

1734616804_التحذير من الحرص.docx

المشاهدات 291 | التعليقات 0