خطبة (( البر المنسي ))
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( البر المنسي ) 24/12/1441
أما بعد فيا أيها الناس : إن حق الوالدين عظيم ، ومن عظمه أن قرنه الله بحقه ، كما قال سبحانه ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )
ولطالما سمعنا الخطب والمحاضرات والمواعظ عن بر الوالدين ، وأكثر ذلك عن بر الأم لأن حقها أعظم والوصاية بها أكثر ، ولكن قل أن نجد من يتحدث عن البر بالأب ، وبيان حق الأب ، وبيان منزلته ، وكأنه ليس له حق البته ، ولهذا سنلقي الضوء على حق الأب ، وأهمية البر به ، وليس هذا إقلالا من حق الأم ، فالأم في المنزلة الأولى ، ولكن حتى لا يغفل الكثير عن حق الأب نذكر به .
معاشر المسلمين : حديثنا اليوم عن أوسط أبواب الجَنَّة، خير الأبواب وأعلاها، وأحسَن ما يتوسَّل به إلى دخول الجَنَّة، والوصول إلى درجتها العالية، بابٍ يغفل عنه كثيرون، ويهتمُّون بإحدى دفَّتي الباب، وينسَون الأخرى.
إنَّ من المعلوم أنَّ ردَّ المعروف، والوفاء للجميل، مما استقرَّت الفِطَرُ السليمة على استِحسانه، وتتابعَت العقول السَّويَّة على استِعظامه، وأعظَم الإحسانِ بين الخلْق – بعد إحسان الأنبياء إلى أقوامهم – هو إحسانُ الآباء إلى أبنائهم، إذْ كلُّ إحسانٍ بعد ذلك، إنما يكُون دون هذا الإحسان، وكل معروف بعد هذا هو دون معروف الوالد.
إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضةٌ واللؤمُ مقرونٌ بذي الإخلافِ
عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه؛ أنَّ رجلًا أتاه فقال: إنَّ لي امرأةً، وإنَّ أمِّي تأمرني بطلاقها، قال أبو الدرداء: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الوالدُ أوسطُ أبواب الجَنَّة))، فإنْ شئتَ فأضِعْ ذلك الباب أو احفظْه.
أيها المؤمنون: المعروف يُنسَى مع تقادُم الزمن، والجميل يُطوَى حين يتقدُّم العمر، وغالب إحسان الناس إلينا يتناقص يومًا بعد يوم، إلا مَن إحسانُه إليك مبنيٌّ على الحبِّ والرحمة، لا على الحاجة والمصلحة، ولا يكون ذلك إلا في قلب أبيك وأمِّك.
إنَّ برَّ الأبِ ليس قُبلة تطبعها على جبينه أو يده، أو دراهم تضعُها في جيبه، أو هدية تُدخل بها السرور عليه، وإنْ كان هذا مِن البِرِّ، لكن بعض الأبناء يختزل البِرَّ في تلك الصوَر ، فأقول إنَّ البرَّ أيها الولد هو الإحسان بكل معانيه ، هو رُوح وحياة تبعثُها في كل عمل تقدِّمه لوالدك، فإنْ أعطيتَه مالًا أظهرتَ أنك ما كنتَ لِتحصل عليه لولا الله ثم بسببه، وإنْ دفعتَ عنه أذًى أبَنْتَ أنه قد دفع عنك مِن الأذى أضعافه، وإنْ جلبتَ له خيرًا أقررتَ أنه قد سبقكَ وقدَّم لك أعلى منه وأعظمَ. وكأنَّ لسان حالك يقول: يا والدي قد قدَّمتَ أكثر مما عليك، وبقي ما هو لك، و﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].
أيها المؤمنون : أوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأبناء برعاية حق أصحاب الآباء، فكيف بحق الآباء أنفسهم، أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ أبرَّ البرِّ؛ أنْ يصل الرجلُ أهلَ وُدِّ أبيه)). قال النوويُّ: وفي هذا فضلُ صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم بإكرامهم، وهو متضمِّن لبرِّ الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه. اهـ.
وإذا كان إحداد النظر إلى الوالد معدودًا عند بعض السَّلف مِن العقوق، فما بالك بما هو دونه؟! عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: (مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ الطَّرْفَ إِلَيْهِ).
معاشر المؤمنين : إن إحسان الأب لابنه خفي لا يظهر ، و لا ينتبه له إلا الموفق ، بل لا يعرف الكثير منهم قيمة وجود الأب إلا بعد وفاته ، بل حتى الزوجة قد يخفى عليها ذلك ، فلمن البيت الذي تسكن فيه ، ومن الذي يشتري الطعام الذي تأكله ، ومن الذي يكسوك من الملابس في الصيف والشتاء ، ومن الذي أدخلك المدرسة وعلمك ، وأدبك ، حتى بلغت سن الرشد والاعتماد على النفس ، من هو سندك وعزك بعد الله ، إنه الأب
إن الأب هو صمام الأمان للأسرة في الحياة ، من جميع النواحي ، ولتعرف صدق ذلك ، سل الذي فقد أباه وهو صغير ، كم تجرعت الأم من الغصص والذل لتسد بعض ثغرات فقد الأب إلا من رحم الله .
عبد الله : عندما ترى أباك لا يحتاج إليك ، فلا يعني أنه ليس بحاجة للبر ، قد يكون الأب قويا ، خادما لنفسه ، بل خادما لك ، ولا يظهر منه أنه يحتاج إليك ، فبادره بما يحب ، فهذا هو البر ، أدخل عليه السرور ، سابقه في قضاء حوائجه حتى ولو لم يطلب منك .
إن أكثر ما يكسر قلب الأب عندما يراك متقاعسا عن التعليم وعن وسائل الفلاح في الدنيا ، كما ينكسر قلب الأب الصالح عندما يرى تخلف الأولاد عن الصلاة وتقاعسهم عن أدائها جماعة في المسجد ، وأشد مايكون فرحا عندما يجد الأب أبناءه قد سبقوه للمسجد .
لنبادر للبر بأبوينا قبل أن يطلبا منا ، ولا يشغلنا عن البر زوجة ولا ولد فضلا عن تجارة أو حتى جوال ، فالبعض يزو أبويه ويقضي أكثر وقته مع الجوال ، فما فائدة زيارتك لهما .
اللهم أعنا على البر بآبائنا وأمهاتنا يارب العالمين ، أقول قولي هذا ................
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : إن في بر الوالدين أجرا عظيما ، وهو مع ذلك دين ، قدمه يوفه لك ولدك ، والعكس بالعكس ، وانظر لإبراهيم الخليل لما بر بأبيه مع أنه مشرك ، فدعاه بألطف عبارة ، وتودد إليه ، فلما قابله أبوه بالإساءة والنفور ، قال لأستغفرن لك ، فلما نهي عن ذلك ، شفع له يوم القيامة ، ولكنها لم تقبل لأن أباه مات كافرا .
عباد الله : إن الدعاء للوالدين من أعظم البر ، خصوصا بعد موتهما ، فلا تنس أبويك مع تقادم الزمن ، فاجعل لهما نصيبا من دعائك ، وأشركهم في صدقاتك ، فهو من العمل الصالح المبارك ، الذي يغفل عنه الكثير .
وبما أنَّ الجزاء مِن جنْس العَمل، انظُر لأدب إسماعيل مع أبيه الخليل عليهما الصلاة والسلام، حين أَخبَره أنه رأى في المنام أنه يذبحه، أجاب الابنُ مبادِرًا ومناديًا أباه، بما كان يتلطَّف به أبوه مع جدِّه، وبنفس الطريقة: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ [الصافات: 102]، ويجازى الخليل عليه السلام بإيمانه وببرِّه بأبيه أن يكون أبناؤه أنبياء، وتكون النبوة مِن بعده منحصرةً في ذرِّيَّته ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ [العنكبوت: 27] بصلاح أبناءه ﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، حين يرى مِن ذرِّيَّته سيِّد الرُّسل صلى الله عليه وسلم، وأكثر الأُمم تبعًا لحفيده.
أيُّها الأبناء! أدبُ الخليل مع أبيه ينبغي أن يكون درسًا للأبناء مع آبائهم، إنْ قسَى عليهم آباؤهم؛ فكيف إنْ كان الأبُ لطيفًا بك، رفيقًا رحيمًا؟! أيُّها الابن! يقول ابن عباس رضي الله عنه: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ أَبَوَانِ فَيُصْبِحُ وَهُوَ مُحْسِنٌ إِلَيْهِمَا إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَا يُمْسِي وَهُوَ مُسِيءٌ إِلَيْهِمَا إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَيْنِ مِنَ النَّارِ، وَلَا سَخِطَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ)، قَالَ: قُلْتُ: (وَإِنْ كَانَا ظَالِمَيْنِ؟) قَالَ: (وَإِنْ كَانَا ظَالِمَيْنِ).