خطبة : ( الاختلاط ، مصطلح مفقود أم حقيقة غائبة ؟ )

عبدالله البصري
1430/11/10 - 2009/10/29 21:41PM
الاختلاط ، مصطلح مفقود أم حقيقة غائبة ؟

11 / 11 / 1430



الخطبة الأولى :






أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن إِرَادَةِ اللهِ الخَيرَ بِأُمَّةٍ وَحُسنِ تَوفِيقِهِ لها ، أَن يَدُلَّهَا عَلَى سُلُوكِ السَّبِيلِ القَوِيمِ وَيَهدِيَهَا الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، الَّذِي فِيهِ رِفعَتُهَا في دُنيَاهَا وَنَجَاتُهَا في أُخرَاهَا ، وَأَن يُرِيَهَا مَوَاطِنَ ضَعفِهَا وَيُبَصِّرَهَا بِأَسبَابِ تَأَخُّرِهَا ، وَمِن ثَمَّ يُعِينُهَا عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَشِينُهَا وَلُبسِ مَا يَزِينُهَا ، وَيَهدِيهَا طُرُقَ الحَقِّ وَيَسلُكَ بها مَسَالِكَ الهُدَى ، فَتَسعَى لإِصلاحِ الخَلَلِ وَرَتقِ الفَتقِ ، وَتُسَارِعُ بِمُعَالَجَةِ الضَّعفِ وَمُقَاوَمَةِ المَرَضِ ، وَإِنَّ مِن تَثبِيطِهِ ـ تَعَالى ـ لأُمَّةٍ وَإِرَادَتِهِ لها أَن تَبقَى مَعَ القَاعِدِينَ ، أَن يَكِلَهَا إِلى ضَعفِهَا وَيُسلِمَهَا إِلى أَنفُسِهَا ، فَتَبتَعِدَ عَن مَصَادِرِ عِزَّتِهَا وَتُجَفِّفَ مَنَابِعَ فَخرِهَا ، وَتَجعَلَ ثِقتَهَا في أَعدَائِهَا خَارِجًا وَدَاخِلاً ، وَتَتَطَامَنَ لهم لِيَصُوغُوا لها أَفكَارَ أَبنَائِهَا ، وَتَتَصَاغَرَ أَمَامَهُم لِيَرسُمُوا لها أَنظِمَةَ حَيَاتِهَا ، وَتُنصِتَ لهم لِيُملُوا عَلَيهَا مَا يَزِيدُهَا تَأَخُّرًا وَضَعفًا وَهَوَانًا وَوَهنًا .

وَإِنَّ ممَّا لا يَختَلِفُ عَلَيهِ العُقَلاءُ في هَذِهِ القُرُونِ المُتَأَخِّرَةِ ، أَنَّنَا عِشنَا في عَالَمِنَا الإِسلامِيِّ وَمَا زِلنَا نَعِيشُ شَيئًا مِنَ التَّخَلُّفِ عَن رَكبِ الحَضَارَةِ العَالَمِيَّةِ ، وَأَنَّ بَينَنَا وَبَينَ كَثِيرٍ مِنَ الدُّوَلِ المُتَقَدِّمَةِ خُطُوَاتٍ تَتَّسِعُ في مَجَالاتٍ وَتَضِيقُ في مَجَالاتٍ ، ممَّا دَعَا لِتَشخِيصِ أَمرَاضِ ذَلِكَ الجَسَدِ ، وَالسَّعيِ الجَادِّ في عِلاجِهَا وَإِصلاحِ مَا فَسَدَ . وَلَقَد كَانَ التَّعلِيمُ هُوَ المَجَالَ الأَوَّلَ الَّذِي تَنَادَتِ الأَصوَاتُ بِوُجُوبِ فَحصِهِ ، وَأَجمَعَتِ القَولَ عَلَى لُزُومِ إِصلاحِهِ وَإِكمَالِ نَقصِهِ ، لِنَتَمَكَّنَ مِن إِدرَاكِ مَن سَبَقَنَا وَتَجَاوُزِ مَن لَحِقَ بِنَا ، غَيرَ أَنَّا بَدَلاً مِن أَن نَسمَعَ لأَصوَاتِ المُصلِحِينَ الغَيُورِينَ ، فُوجِئنَا بِتَعَالي أَصوَاتٍ غَرِيبَةٍ عَن دِينِنَا نَائِيَةٍ عَن عَقِيدَتِنَا ، بَعِيدَةٍ كُلَّ البُعدِ عَن قِيَمِنَا مُتَجَرِّدَةٍ عَن أَخلاقِنَا ، اِنطَلَقَت مِن دَاخِلِ مُؤَسَّسَاتِ التَّعلِيمِ تَارَةً وَمِن خَارِجِهَا تَارَاتٍ ، أَصوَاتٌ خَارِجَةٌ عَمَّا عَلَيهِ أَهلُ هَذِهِ البِلادِ حُكَّامًا وَمَحكُومِينَ وَعُلَمَاءَ وَدُعَاةً ، تَعَامَى أَصحَابُهَا عَنِ الأَسبَابِ الحَقِيقِيَّةِ الَّتي أُتِيَ التَّعلِيمُ مِن قِبَلِهَا ، وَرَاحُوا يَشتَطُّونَ لَغَطًا وَيَرتَكِبُونَ غَلَطًا ويَتَكَلَّفُونَ شَطَطًا ، مُحَاوِلِينَ إقحَامَ مَا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالإِصلاحِ ، لِتَحقِيقِ مَا يَرمُونَ إِلَيهِ مِن أَهدَافٍ دَنِيئَةٍ وَمَآرِبَ سَاقِطَةٍ ، وَسَعيًا لِلوُصُولِ إِلى مَا يَتَشَهَّونَهُ مِن غَايَاتٍ هَابِطَةٍ ، في مَجَالٍ جَعَلَهُ اللهُ مِن أَشرَفِ المَجَالاتِ وَأَولاهَا بِالطَّهَارَةِ وَالنَّقَاءِ وَالصَّفَاءِ .
وَقَدِ اتَّخَذُوا مِنَ الاختِلاطِ في التَّعلِيمِ سُلَّمًا لِلوُصُولِ إِلى مَا يُرِيدُونَ وَمَعبَرًا لبُلُوغِ مَا يَتَمَنَّونَ ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ أَوَّلُ خُطُوَاتِ إِصلاحِ التَّعلِيمِ ، وأَنَّ مِن أسبَابِ تَّأَخُّرِنَا وَتَخَلُّفِنَا عَدَمَ رِضَانَا بِهِ في مَدَارِسِنَا وَجَامِعَاتِنَا ، وَنَبذَنَا لَهُ في أَمَاكِنِ العَمَلِ وَمَوَاطِنِ الصَّنَاعَةِ وَالإِنتَاجِ ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّهُ ذَلِكَ الخَطَأُ التَّربَوِيُّ الفَادِحُ وَالتَّجرِبَةُ المُرَّةُ الصَّعبَةُ ، الَّتِي ارتَكَبَتهَا بِدَعوَى الحُرِّيَّةِ مُجتَمَعَاتٌ بَعُدَت عَنِ الإِسلامِ ، فَلَم تَشعُرْ بِمَرَارَتِهِ وَصُعُوبَةِ التَّخَلُّصِ مِنهُ ، إِلاَّ حِينَ أَصبَحَ وَبَاءً اجتِمَاعِيًّا مُستَشرِيًا ، وَمَرَضًا خُلُقِيَّا مُرْدِيًا ، ذَاقَت مِنهُ مَا ذَاقَت مِنَ الشُّرُورِ ، فَجَعَلَت تُنَادِي بِأَعلَى الصَّوتِ لِلتَّخَلُّصِ مِنهُ وَنَبذِهِ .

وَلَمَّا ارتَعَدَت في بِلادِنَا أُنُوفُ الغَيُورِينَ وَتَعالَت أَصوَاتُ المُصلِحِينَ ، وَحَشَدَ النَّاصِحُونَ الأَدِلَّةَ عَلَى تَحرِيمِ الاختِلاطِ وَأَنكَرُوهُ نُصحًا لِلأُمَّةِ ، وَحَذَّرُوا مِنهُ وَجَلَّوا آثَارَهُ وَأَظهَرُوا عَوَارَهُ إِبرَاءً لِلذِّمَّةِ ، لم يَجِدْ هَؤُلاءِ المُحَرِّفُونَ لِلكَلِمِ عَن مَوَاضِعِهِ إِلاَّ أَن يَدَّعُوا أَنَّ الاختِلاطَ مُصطَلَحٌ مُبتَدَعٌ مُختَرَعٌ ، لا أَصلَ لَهُ في الإِسلامِ وَلا ذِكرَ لَهُ لَدَى الفُقَهَاءِ ، وَبَنَوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لا مَانِعَ مِنهُ وَلا مُوجِبَ لِتَحرِيمِهِ ، بَل وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَصبَحَ حَاجَةً قَائِمَةً وَضَرُورَةً مُلِحَّةً ، وَتَاللهِ مَا قَصَدَ أُولَئِكَ حِمَايَةَ الدِّينِ مِن أَن يُبتَدَعَ فِيهِ مُصطَلَحٌ لم يَكُنْ مَعرُوفًا ، وَأَنَّى لهم بهذَا الشَّرَفِ العَظِيمِ وَهُم المَعرُوفُونَ بِتَسوِيقِ عَدَدٍ مِنَ البِدَعِ وَنَشرِ كَثِيرٍ مِنَ المُخَالَفَاتِ الشَّرعِيَّةِ وَتَروِيجِ المَعَاصِي ، دُونَ تَوقِيرٍ لِلنَّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ أَو تَقدِيرٍ لِحَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ ؟!


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ النَاظِرَ بِعَينِ البَصِيرَةِ في المَآلاتِ ، وَالمُتَأَمِّلَ في الخَوَاتِيمِ وَالنِّهَايَاتِ ، لِيَعرِفُ أَنَّ مِن أَقبَحِ المُنكَرِ اجتِمَاعَ المَرأَةِ بِالرَّجُلِ اجتِمَاعًا مُقَنَّنًا ، وَتَلاقِيهِمَا في المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ لِقَاءً دَائِمًا ، وَتَزَامُلَهُمَا في المَكَاتِبِ وَالمَصَانِعِ وَأَمَاكِنِ الإِنتَاجِ ، إِذْ لم يَنتُجْ عَنهُ وَلَن يَنتُجَ إِلاَّ فَسَادُ الأَخلاقِ وَانحِطَاطُ القِيَمِ وَهَدمُ المَبَادِئِ ، وَانتِزَاعُ الحَيَاءِ مِنَ القُلُوبِ وَخَرَابُ المُجتَمَعَاتِ ، بِسَبَبِ مَا يَؤُولُ إِلَيهِ ذَلِكَ المُنكَرُ مِن مَشبُوهِ العِلاقَاتِ وَمُحَرَّمِ الخَلوَاتِ . وَإِنَّهُ لا فَرقَ في ذَلِكَ لَدَى عَاقِلٍ مُنصِفٍ أَن يُسَمَّى ذَلِكَ الاجتِمَاعُ اختِلاطًا أَو دَمجًا أَوِ امتِزَاجًا ، فَالخَلوَةُ حَاصِلَةٌ وَلا شَكَّ ، وَالشَّهوَةُ مُتَحَرِّكَةٌ وَلا رَيبَ ، وَالتَّجَارِبُ تُصَدِّقُ سُوءَ المَغَبَّةِ ، وَالخِبرَاتُ تُؤَكِّدُ قُبحَ النَّتِيجَةِ ، وَالسَّعِيدُ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ . وَإِنَّ العَاقِلَ لا يَعجَبُ أَن يُنَادِيَ بِالدَّمجِ مُلحِدٌ لا دِينَ لَهُ ، أَو يُهَوِّنَ مِن شَأنِ الاختِلاطِ كَافِرٌ لا إِيمَانَ في قَلبِهِ ، أَو يُدَافِعَ عَنهُ مَن لم يَذُقْ لَذَّةَ التَّوحِيدِ ، وَلَكِنَّ العَجَبَ أَن يُلَبِّسَ عَلَى الأُمَّةِ في هَذَا الأَمرِ مَن يُنسَبُ لِلعِلمِ وَالفِقهِ ، أَو يَقُولَ بِهِ مَن يَتَصَدَّرُ لِلخَطَابَةِ أَوِ القَضَاءِ أَوِ الإِفتَاءِ ، أَو يُرَوِّجَ لَهُ مَن يَحمِلُ في هُوِيَّتِهِ سِلسِلَةً مِن أَسمَاءٍ إِسلامِيَّةٍ كَرِيمَةٍ ، ثم تَرَاهُ يَرصُفُ الكَلِمَاتِ وَيَشحَنُ العِبَارَاتِ ، وَيُدَبِّجُ المَقَالاتِ وَيَملأُ الصَّفَحَاتِ ، وَيَشغَلُ الأُمَّةَ بِرُدُودٍ لا مَغزَى لها إِلاَّ إِشغَالَهَا بِمُلاسَنَاتٍ كَلامِيَّةٍ وَمُجَادَلاتٍ فَلسَفِيَّةٍ وَمُغَالَطَاتٍ عَقلِيَّةٍ ، تَجعَلُهَا تَعِيشُ حَالَةً مِنَ الحَيرَةِ وَالذُّهُولِ ، وَتَبذُرُ في قُلُوبِ بَنِيهَا مِن أُصُولِ الشَّكِّ في دِينِهَا مَا يَصُدُّهَا عَنِ الحَقِّ وَيَمِيلُ بها عَنِ الجَادَّةِ ولا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ . وَتَبلُغُ الوَقَاحَةُ مُنتَهَاهَا بِكُتَّابِ الصُّحُفِ وَمُحَرِّرِي الجَرَائِدِ ، وَيُظهِرُ كَثِيرٌ مِن خَفَافِيشِ الشَّبَكَةِ جَهلَهُم وَيُغرِقُونَ في ظُلمِهِم وَيَتَمَادَونَ في زُورِهِم وَبُهتَانِهِم ، حِينَ يَقرِنُونَ الكَلامَ في الاختِلاطِ بِالإِرهَابِ أَو ضَعفِ رُوحِ الوَطَنِيَّةِ ، فَإِذَا تَكَلَّمَ أَحَدٌ بِمَا يَدِينُ اللهَ بِهِ مِن حُرمَةِ اختِلاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ في مَدرَسَةٍ أَو جَامِعَةٍ أَو مُؤَسَّسَةٍ أَو وِزَارَةٍ ، وَصَمُوهُ بِالإِرهَابِ وَالتَّحرِيضِ ، وَاتَّهَمُوهُ بِالخُرُوجِ عَلَى وُلاةِ الأَمرِ ، وَإِذَا نَحنُ وَجَدنَا لِبَعضِ مَن أَخطَأَ في هَذَا الجَانِبِ مِنَ العُلَمَاءِ المُتَخَصِّصِينَ عُذرًا لأَنَّهُم قَالُوا مَا يَرَونَهُ صَحِيحًا وَأَفصَحُوا عَمَّا يَعتَقِدُونَهُ صَوَابًا ، بِدَافِعٍ مِنَ الغَيرَةِ وَعَمَلاً بِمَا يُملِيهِ عَلَيهِم وَاجِبُ الأَمَانَةِ الَّتي حَمَّلَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا وَالمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ عَلَيهِم حَيثُ قَالَ : " وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكتُمُونَهُ " وَخَوفًا مِنَ الوُقُوعِ فِيمَا حَذَّرَهُم مِنهُ إِمَامُهُم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " مَن سُئِلَ عَن عِلمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَومَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِن نَارٍ " أَقُولُ : إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى العُلَمَاءِ أَن يُبَيِّنُوا مَا يَدِينُونَ اللهَ بِهِ عِن عِلمٍ وَفِقهٍ وَاجتِهَادٍ وَنَظَرٍ ، فَمَا بَالُ هَذَا الصَّحَفِيِّ الَّذِي لا يُحسِنُ أَن يُرَكِّبَ كَلِمَتَينِ بِلَهجَةٍ فَصِيحَةٍ وَلُغَةٍ سَلِيمَةٍ ، أَو ذَلِكَ الغُلامِ القَابِعِ خَلفَ لَوحَةِ حَاسُوبِهِ يَكتُبُ في مُنتَدَاهُ دُونَ عِلمٍ أَو فِقهٍ أَوِ اطِّلاعٍ ، مَا بَالُ كُلٍّ مِنهُمَا يُشَرِّقُ وَيُغَرِّبُ لِيَرُدَّ نُصُوصًا صَحِيحَةً صَرِيحَةً ، وَيَلوِيَ أَعنَاقَ نُصُوصٍ أُخرَى لِتُوَافِقَ مَا يَهوَاهُ ، ثُمَّ يَبلُغُ مُنتَهَى السَّفَاهَةِ حِينَ يَتَّهِمُ العُلَمَاءَ وَرِجَالَ الدِّينِ الغَيُورِينَ بِأَنَّهُم يَنتَهِجُونَ مَنهَجَ الخَوَارِجِ الحَرُورِيَّةِ ، أَو يَنتَحِلُونَ أَفَكَارَ الإِرهَابِ الهَمَجِيَّةَ ، أَو يُؤَلِّبُونَ ضِدَّ الوُلاةِ ، مَاذَا يُرِيدُ حَمقَى الصَّحَافَةِ وَمُغَفَّلُو الإِعلامِ ؟! أَيُرِيدُونَ لِلعُلَمَاءِ أَن يُكَمِّمُوا أَفوَاهَهُم وَيُلجِمُوا أَقلامَهُم عَن قَولِ الحَقِّ وَكِتَابَتِهِ وَنَشرِهِ ، فَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَد كَتَمُوا العِلمَ وَخَانُوا المِيثَاقَ ، أَمْ يُرِيدُونَ مِنهُم أَن يَتَخَلَّوا عَنِ الأُمَّةِ وَهِيَ أَحوَجُ مَا تَكُونُ إِلى عِلمِهِم وَإِلى التَّبَصُّرِ بِفِقهِهِم ، لا وَاللهِ ، لا يَكُونَ هَذَا مِن عُلَمَاءِ الحَقِّ وَأَئِمَّةِ الهُدَى وَلَوِ استَهزَأَ بهم مَنِ استَهزَأَ وَسَخِرَ مِنهُم مَن سَخِرَ ، وَلا وَاللهِ لا يَزِيدُهُم مَا يُدَبَّرُ ضِدَّهُم إِلاَّ ثَبَاتًا عَلَى الحَقِّ وَدِفاعًا عَنهُ ، حَتى يُوَافُوا بِهِ غَيرَ مُغَيِّرِينَ وَلا مُبَدِّلِينَ ، وَوَاللهِ لِيَرْمُنَّ بِالعِلمِ بَينَ أَكتَافِ المُسلِمِينَ وَلَو أَعرَضَ عَنهُ مَن أَعرَضَ ، وَلَيُبَيِّنُنَّ مَا يَدِينُونَ اللهَ بِهِ وَلَيَنشُرُنَّهُ وَلَو خَالَفَهُم مَن خَالَفَهُم " لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَا مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ " وَالمَوعِدُ يَومُ الدِّينِ وَالجَزَاءِ ، وَالحَكَمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ " وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ اختِلاطَ الرِّجَالِ وَالنَّسَاءِ الَّذِي يُحَاوِلُ المُنَافِقُونَ وَمَنِ انخَدَعَ بِمَقُولاتِهِم أَن يُشَوِّشُوا عَلَى النَّاسِ بِمُنَاقَشَتِهِ عَلَى أَنَّهُ مُصطَلَحٌ لا أَسَاسَ لَهُ في الشَّرعِ ، إِنَّهُ لأَمرٌ حَرَّمَهُ العُلَمَاءُ المُحَقِّقُونَ لِمَا يَؤُولُ إِلَيهِ مِنَ الخَلوَةِ المُحَرَّمَةِ قَطْعًا ، وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ بِشَيءٍ مِنَ الإِنصَافِ في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، المُتَضَلِّعَ بِفِقهِ المَقَاصِدِ وَالمَآلاتِ ، لَيُدرِكُ في وُضُوحٍ وَيُسرٍ حِرصَ الإِسلامِ عَلَى إِبعَادِ الجِنسَينِ غَيرَ المَحَارِمِ عَن بَعضِهِمَا ، وَأَنَّهُ لا يُحَبِّذُ الاختِلاطَ مَا لم تَفرِضْهُ الضَّرُورَةُ المُلِحَّةُ وَبِقَدرِهَا ، فَعِندَمَا يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ : " وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ " وَحِينَ يَقُولُ ـ تَعَالى ـ : " فَلا تَخضَعْنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي في قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَولاً مَعرُوفًا . وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى " وَإِذْ يَقُولُ : " وَقُلْ لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضْنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَلْيَضرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَو آبَائِهِنَّ أَو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو أَبنَائِهِنَّ أَو أَبنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَو نِسَائِهِنَّ أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيرِ أُولي الإِربَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفلِ الَّذِينَ لم يَظهَرُوا عَلَى عَورَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضرِبْنَ بِأَرجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " وَعِندَمَا يَقُولُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِيَّاكُم وَالدَّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ " وَحِينَ يَحرِصُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى التَّفرِيقِ بَينَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ حَتى في أَحَبِّ الأَمَاكِنِ وَالبِقَاعِ إِلى اللهِ فَيَقُولُ : " خَيرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا " وَيَقُولُ : " لا تَمنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيرٌ لَهُنَّ " فَعَلامَ يَدُلُّ كُلُّ ذَلِكَ وَأَمثَالُهُ ممَّا يَضِيقُ المَقَامُ عَن ذِكرِهِ وَاستِقصَائِهِ ؟! وَحِينَ يَقُولُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مُرُوا أَولادَكُم بِالصَّلاةِ لِسَبعٍ وَاضرِبُوهُم عَلَيهَا لِعَشرٍ وَفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِعِ " فَيَأمُرُ بِالتَّفرِيقِ بَينَ الإِخوَةِ وَالأَخَوَاتِ خَوفًا مَن أَن يَفعَلَ الشّيطَانُ فِعلَهُ فَيُوقِعَهُم فِيمَا لا يُحمَدُ ، فَهَل يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَن يَقُولَ ذَلِكَ ثُمَّ يُقِرَّ الجَمعَ بَينَ مَن لَيسُوا بِأَخوَةٍ وَلا أَخَوَاتٍ ؟! سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ !

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ البِلادِ وَغَيرَهُم مِنَ السَّابِقِينَ وَاللاَّحِقِينَ ، قَد ذَكَرُوا الاختِلاطَ في كُتُبِهِم وَفَتَاوَاهٌم ، وَحَرَّمُوهُ وَحَذَّرُوا مِن مَغبَّتِهِ ، فَلا يَغُرَّنَّكُم هَؤُلاءِ المَفتُونُونَ ، القَائِلُونَ بِأَنَّ المَنهِيَّ عَنهُ إنَّمَا هُوَ الخَلوَةُ لا الاختِلاطُ ، أَو أُولَئِكَ المُحتَجُّونَ بِمَا يَحصُلُ مِنِ اختِلاطٍ عَابِرٍ في الأَسوَاقِ أَو حَتى في الطَّوَافِ حَولَ الكَعبَةِ أَو عِندَ رَميِ الجِمَارِ ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ حَصَلَ فَهُوَ بِصُحبَةِ المَحرَمِ ، وَفي حَالٍ مِنَ الزِّحَامِ وَالاشتِغَالِ بِالنَّفسِ ، وَالقُلُوبُ إِذْ ذَاكَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَبِّهَا مُنهَمِكَةٌ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ ، فَهَل يُقَاسُ عَلَى مِثلِ هَذَا مَا يَدعُونَ إِلَيهِ مِنِ اختِلاطٍ مُقَنَّنٍ مُرَتَّبٍ لَهُ ، يَحصُلُ بِشَكلٍ يَومِيٍّ وَفي وَقتٍ يَعرِفُهُ الجَمِيعُ ، وَتَزُولُ فِيهِ الحَوَاجِزُ وَيُنزَعُ حِجَابُ الاغتِرَابِ وَيَتِمُّ الاقتِرَابُ ، وَتُتَبَادَلُ فِيهِ الأَحَادِيثُ وَتَعلُو الضَّحَكَاتُ ؟! اللَّهُمَّ " رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ " اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ ، عَالِمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ ، اِهدِنَا لِمَا اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِكَ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ .
المشاهدات 5032 | التعليقات 6

خطبة رائعة..

وأروع ما ألفت نظري براعة الاستهلال، والتوطئة المناسبة للموضوع..

أرجو أن تكون قد لامست أسماعا متدركة, وأفهاما واعية


من خلال قرائتي لخطب الإختلاط -بشكل عام- رأيت الحماسة والغيرة من إخوتنا ومشايخنا الخطباء حفظهم الله جميعا..

يبقى السؤال: هل ستلقى هذه الخطب جميعها صدى وقبول إلى....
أرجو ذلك وأتمنى، ولكنني أخشى كما قال الشاعر:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً * ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت * ولكن أنت تنفخ في رمادِ
شكر الله للجميع...


Quote:
يبقى السؤال: هل ستلقى هذه الخطب جميعها صدى وقبول إلى....


سؤال يلقى إلى المستمعين لهذه الخطب ، وأما الخطباء والدعاة والعلماء والمفتون فحسبهم أن يبينوا ما يدينون الله به ويرونه الحق ، هذا هو واجبهم المتعين ، ولا يضيرهم بعد أدائه ألا يستجيب لهم من في الأرض جميعًا ، ولن يحاسبهم الله إلا على البلاغ ، كما قال ـ سبحانه ـ : " إن عليك إلا البلاغ " ويجب ألا يقف عدم استجابة الناس لداعٍ دون بيان الحق وإنكار المنكر والصدع بما أمر به ، فالمقصود الأول والهدف الأعلى من الإنكار قبل تغيير المنكر هو الإعذار إلى الله ـ جل وعلا ـ لئلا يقع عذاب فيعم الصالح والطالح ، وإذا انتهى أصحاب المنكر بعد ذلك فهذا هو الأكمل ، وإلا فقد أدى الصالحون ما عليهم ، قال ـ سبحانه ـ : " وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون "


أمسيتما بالخير يا أهل الوفااااء .
نِعم ما قلت يا شيخ عبدالله البصري ولا تحزن يا شيخ عبد الله الخديري.
فما علينا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
علينا البلاغ (إن عليك إلا البلاغ).
وليس علينا أن يفعل الناس المعروف أو ينتهوا عن المنكر.
وقد يحزن الإنسان وهو يرى أن المنكرات تزداد وتقوى، ولكن الأسوة في محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان يحزن جداً على مسارعة الناس في الكفر وعدم هدايتهم فجاءته آيات من عند الله كثيرة تبين الله أن هذا لا ينبغي أن يكون .
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا).
(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
(فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا).
(فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب).
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءت من نبأ المرسلين).

وعملنا هذا وجهادنا بالكلمة والحجة هو لأنفسنا، والله سبحانه غني عنا، وهو الذي يحفظ دينه، ويسخر له من عباده من يكون النصر والحفظ على يديه، والمنافسة تكون في التوفيق للدخول في هذا الركب المبارك (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين).
وقد رأينا انتصارات للأمة على أيدي غير العرب، فتحرر المسجد الأقصى، على أيدي صلاح الدين الكردي، وفتحت القسطنطينية على يدي العثمانيين الترك، وهذا مصداق قول الله عز وجل (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).

نسأل الله أن ينصر من نصر الدين وان يجعلنا منهم، وأن يخذل من خذل عباده المؤمنين.


قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله -ناصحا نفسه وطلابه-: علينا جميعا خدمة هذا الدين والسعي في ذلك وقد لا ندرك عزة هذا الدين ولكن سيدرك عزته من بعدنا من الأجيال.


مفهوم الاختلاط أصيل وليس بدخيل


الكاتب: ياسين بن علي

الحمد لله القائل: {وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، والصلاة والسلام على رسول الله القائل: "الدّين النّصيحة... لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامّتِهِمْ ".

نشر موقع تونس نيوز نقلا عن موقع أخبار العالم مقالا للأستاذ راشد الغنوشي بعنوان: "ما هي حدود العلاقة بين الجنسين في الحركة الإسلامية؟".(1) وقد تطرق الأستاذ الغنوشي في هذا المقال إلى موضوع الاختلاط بين الجنسين، فعرض رؤيته وبسط تصوره مركّزا على فكرة مفادها أن "مفهوم الاختلاط دخيل"، وهو ما سنناقشه بإذن الله تعالى في هذا المقام ونثبت عكسه من الكتاب والسنة.

1. حول غموض المفهوم وغرابته

قال الأستاذ الغنوشي: "كثيرا ما يتم إيراد مفهوم غامض غريب عن الفقه الإسلامي هو مفهوم "الاختلاط"، وكأنه محظور إسلاميا أن يوجد الرجال والنساء في فضاء واحد، أو تحت سقف واحد، وكأن المطلوب شرعيا بحسب هؤلاء فصل عالم النساء كلية عن عالم الرجال، ضمانا للعفة المطلوبة".
أولا: الغموض يعني الإبهام، وخفاء المعنى. ومعنى قول الأستاذ الغنوشي: "مفهوم غامض" أي خفيّ مبهم لا يفهم. ووصف الأستاذ الغنوشي لمفهوم الاختلاط بالغموض غير دقيق؛ لأنّ الاختلاط إذا ذكر فهم منه "وجود الرجال والنساء في فضاء واحد"، وفهم منه الدعوة إلى "فصل عالم النساء كلية عن عالم الرجال"، وهو الذي ذكره الأستاذ الغنوشي كبيان لواقع المفهوم. وهنا نسأل: من أين استقى الأستاذ الغنوشي هذا الفهم لمفهوم الاختلاط؟

إن كان هذا فهم دعاة منع الاختلاط وتعريفهم للمفهوم، وقد نقله الأستاذ عنهم، فقد بطلت إذن دعوى الغموض؛ لأن التعريف رافع للإبهام في المعنى وحدّ للماهية بما ينضبط، وهو ما تحقّق بما ذكر الأستاذ. وأما إذا كان هذا الفهم فهم الأستاذ الغنوشي وتعريفه، فقد بطل إذن كل ما بني عليه؛ لأنّ نقض رأي الغير يبنى على فهمه لقضية ما وليس على فهم مخالفه.
ثانيا: قول الأستاذ الغنوشي: "غريب عن الفقه" بمعنى أنه دخيل عنه غير مألوف. وهنا نسأل: ما المقصود على وجه الدقة بالغرابة، هل المراد هنا غرابة اللفظ أم المعنى؟

إن أراد الأستاذ الغنوشي غرابة اللفظ، قلنا: إنّ اللفظ عربي فصيح، وورد في كتب الفقهاء وفق المعنى الذي يفهمه الأستاذ أي بمعنى اجتماع الرجال بالنساء. وهذه بعض الأمثلة:
قال السرخسي (في المبسوط) في بحث اشتراط المحرم للحج: "إلا أن عليها أن تتحرز عن الفتنة وفي اختلاطها بالرجال فتنة...".(2)
وقال ابن قدامة المقدسي (في الكافي) في بيان الحكمة من انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة: "ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء".(3)
وقال ابن القيم (في الطرق الحكمية): "وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك... ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة".(4)
وقال الشوكاني (في نيل الأوطار) في شرح حديث "ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن": "وفيه أيضا تمييز مجلس النساء إذا حضرن مجامع الرجال؛ لأن الاختلاط ربما كان سببا للفتنة الناشئة عن النظر أو غيره".(5)
وقال الحطّاب (في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل): "نقل في المسائل الملقوطة عن والده أنه يكره الطواف مع الاختلاط بالنساء".(6)


وإن أراد الأستاذ الغنوشي غرابة المعنى، قلنا: هذا المعنى أي منع الاختلاط بين الرجال والنساء مستنبط من نصوص الكتاب والسنة القولية والعملية المتواترة، وهو فهم المسلمين قاطبة بمن فيهم الصحابة رضوان الله عليهم وعلماء الملة، وهو الذي نقل إلينا بالتواتر فتوارثته الأجيال علما وعملا حتى زوال الحكم بالإسلام وتفشي المفاهيم الغربية في المجتمع. قال الشيخ محمد الخضر حسين: "وتحريم الدين لاختلاط الجنسين... معروف لدى عامة المسلمين، كما عرفه الخاصة من علمائهم، وأدلة المنع واردة في الكتاب والسنّة وسيرة السلف الذين عرفوا لباب الدين، وكانوا على بصيرة من حكمته السامية". (7)

2. مفهوم الاختلاط

قال الدكتور عبد الكريم زيدان: "المراد من الاختلاط... اختلاط النساء بالرجال، أي: اجتماع بعضهم مع بعض أو اجتماع امرأة مع رجل. وهذا الاجتماع بين المرأة والرجل (وهما أجنبيان) في مكان واحد يترتب عليه عادة وغالبا مقابلة أحدهما للآخر، أو نظر أحدهما للآخر أو محادثة بينهما".(8)
وقال الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي: "الاختلاط يعني اجتماع الرجال بالنساء الأجانب عنهم في مكان واحد".(9)
وقال الدكتور محمود الكبيسي: "المراد بالاختلاط في هذا البحث لا يبعد عن المعنى اللغوي ، فهو : اجتماع رجال ونساء ، لا يحرمُ التزاوجُ بينهم حرمةً مؤبدةً ، في مكانٍ واحدٍ، يترتب عليه ـ غالباً ـ مقابلةُ بعضِهِم بعضاً، ونظرُ بعضِهِم إلى بعض، والمحادثةُ بينهم".(10)
وقال الشيخ عبد الله بن جار الله: "الاختلاط هو الاجتماع بين الرجل والمرأة التي ليست بمحرم، أو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم، في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم، بالنظر أو الإشارة أو الكلام...".(11)
هذا هو مفهوم الاختلاط، وقد اصطلح عليه العلماء لبيان واقع ما يتعلق بالعلاقة بين الجنسين، وهو يفيد اجتماع الرجال (الأجانب) بالنساء في حالة خلطة.

3. لا مشاحة في الاصطلاح ما لم يخالف الشّرع

من المقرّر أن لا مشاحة في الاصطلاح ما لم يخالف الشرع؛ لذلك فليست العبرة بالمباني إنما بالمعاني. وقد استعمل العلماء مصطلح الاختلاط للدلالة على واقع ما، فوجب النظر إذن في هذا الواقع ومعانيه، وعدم التركيز على المصطلح، سواء قلنا إنه من المصطلحات الحديثة أو قلنا إنه من المصطلحات القديمة.

والمسألة التي نحن بصدد تحرير مفهومها هي مسألة العلاقة بين الجنسين أي بين الرجال والنساء. والذي يعنينا منها بغض النظر عن المصطلح المعبّر عنها هو حكمها أي ما حكم العلاقة بين الرجال (الأجانب) والنساء؟ وهل يجوز اجتماعهما أم يحرم ويجب الفصل بينهما؟

4. وجوب الفصل بين الرجال والنساء

يقول الأستاذ الغنوشي منتقدا حكم الاختلاط بأنه "مطلب غير واقعي ولا هو مطلوب شرعا ولا هو نافع". وجوابنا عن هذا كالأتي:
أولا: قول الأستاذ الغنوشي "مطلب غير واقعي"، لا يفيد في البحث التشريعي الذي نحن بصدده؛ إذ الإسلام لا يتكيّف مع الواقع، إنما يكيّف الواقع حسب رؤيته وتصوراته ومطالبه. وعليه، فإذا جاء النص الشرعي بطلب معيّن، فعلينا أن نعلم أن الشارع لا يكلّفنا بمحال ولا يكلّفنا إلا بما في وسعنا، وأن مراده تكييف الواقع حسب طلبه. علاوة على هذا فإن طلب الشارع واقعي، وقد تم تطبيقه فعلا لقرون، ولا نظنّ أن مثل هذا يخفى عن مثل الأستاذ الغنوشي.
ثانيا: قول الأستاذ الغنوشي "ولا هو نافع"، لا يفيدنا أيضا في البحث التشريعي الذي نحن بصدده؛ إذ قياس الحقيقة أو الحكم أو العمل بالمنفعة نظرة غربية لا تمتّ إلى الإسلام بصلة. والأصل في المسلم أن يلتزم بالحكم الشرعي متى ثبت بغض النظر عن المنفعة أو المصلحة التي يحقّقها. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)} (الأحزاب).
ثالثا: قول الأستاذ الغنوشي "ولا هو مطلوب شرعا"، غير صحيح؛ لأنّ الأدلة على حرمة الاختلاط ووجوب الفصل بين الرجال والنساء كثيرة متواترة. وإليك البيان:

إذا تتبعنا مجموع الأدلة الواردة في الكتاب والسنة، وما روي بالتواتر عن الحياة الإسلامية في ظل المجتمع الإسلامي وفي كنف الدولة الإسلامية، وجدنا أن الإسلام مثلا:

· يحرم على المرأة السفر بدون محرم
· ويجعل صفوف النساء في الصلاة خلف صفوف الرجال
· ويفصل في المسجد بين الرجال والنساء
· ويأمر بخروج النساء قبل الرجال بعد الصلاة في المسجد
· ويمنع دخول الأجنبي البيوت ويوجب عليه الاستئذان قبل دخولها

فهذه الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة تدل على أن الأصل الفصل بين الرجال والنساء. وقد كان هذا الأصل معلوما عند المسلمين زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على هذا ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري: "قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن..."، ولو كان الأصل الاختلاط لجمع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء مع الرجال في درسه دون أن يجعل لهن يوما، ولو كان أيضا أصل الاختلاط معلوما لكان للنساء أن يطلبن من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلتحقن بدرس الرجال أو يجلسن معهم.

ومما يدلّ على هذا أيضا ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لو تركنا هذا الباب للنّساء"، وروى أيضا عن نافع قال: "إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدخل من باب النساء"، ولو كان الاختلاط جائزا لما خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم النساء بباب يدخلن منه دون الرجال، ولما نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أن يدخل منه.

ومما يدل على هذا أيضا ما رواه البخاري عن ابن جريج أخبرني عطاء: إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن، وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري، لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال، لا تخالطهم...". ففي هذه المناقشة نرى كيف أن قضية منع الاختلاط بديهية عند المسلمين فلم يعترض أحد عن أصل حظر الاختلاط، وانصب النقاش على غير الأصل، ولو كان الاختلاط في عرف المسلمين جائزا لانصب الاعتراض عليه مع وجود الداعي إليه. قال الشيخ محمد الخضر حسين: " فانظر كيف بدا لابن هشام أن يمنع النساء الطواف مع الرجال أخذا بالقاعدة المعروفة في الشريعة من منع اختلاط النساء بالرجال، ولما أنكر عليه عطاء لم يقل له: إن اختلاط النساء بالرجال لا حرج فيه، ولكنه استدل بحديث أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يطفن مع الرجال، ولما بدا لابن جريج أن طوافهن مع الرجال يقتضي الاختلاط بهم، والاختلاط محظور في الشريعة، قال مستشكلا الإذن لهن في الطواف مع الرجال: كيف يخالطهن الرجال؟ فلم يقل له ابن جريج: وأي مانع من هذا الاختلاط، بل بيّن له أنهنّ يطفن مع الرجال دون أن يخالطنهم".(12)


والحاصل، فإن حكم وجوب فصل الرجال عن النساء وحرمة الاختلاط من الأحكام القطعية الثبوت القطعية الدلالة، وهو من الأمور البديهية المعلومة من الدين بالضرورة عند المسلمين؛ فلم يكن في يوم من الأيام محل نظر عندهم أو محل خلاف بين العلماء رغم اختلاف مذاهبهم.

5. دفع شبهة

لسنا نعني بوجوب فصل الرجال عن النساء وحرمة الاختلاط الانتقاص من المرأة وحبسها في البيت فلا ترى أحدا ولا يراها أحد. فالمسألة التي نحن بصددها ليست متعلقة بما أقره الشرع من حقوق للمرأة لا ينازع فيها أحد، ولا بما أجازه الشرع للمرأة عموما، إنما نحن بصدد البحث في أصل العلاقة بين الجنسين. فالأستاذ الغنوشي يرى أن الأصل في العلاقة بين الجنسين غير مبني على مفهوم حرمة الاختلاط، ويرى أن الفصل "غير واقعي ولا هو مطلوب شرعا ولا هو نافع"، وقد حصرنا بحثنا في هذا الأصل ولم نشأ الدخول فيما يتفرع عنه مما قد تختلف أنظار العلماء فيه.

فالمسألة إذن غير متعلقة بفرع أو جزئية تخص المرأة من مثل: هل يجوز لها الانتخاب أو لا يجوز، وهل تتولى القضاء أو لا تتولى، وهل يحق لها العمل أو لا يحقّ. فهذه الأمثلة وما شابهها لا تعنينا في بحثنا هذا، وهي محل خلاف بين أهل العلم، وتندرج تحت مسمى الاجتهاد.


نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لإتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويعيننا على اجتنابه.


22 ذو القعدة 1427هـ



(1) ينظر موقع تونس نيوز 11122006م، وينظر أصل المقال بموقع أخبار العالم، يوم 3 ديسمبر 2006م
(2) ينظر المبسوط للسرخسي، ج4 ص111
(3) ينظر الكافي لابن قدامة، ج1 ص253
(4) ينظر الطرق الحكمية لابن القيم، ص326
(5) نيل الأوطار للشوكاني، ج3 ص373
(6) ينظر مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب الرعيني، ج4 ص154
(7) ينظر مقال الشيخ محمد الخضر حسين بعنوان (اختلاط الجنسين في نظر الإسلام) على صفحة مجلة الزيتونة
(8) نقلا عن إسلام أون لاين، ركن الفتاوى: (الاختلاط: تعريفه وحكمه وضوابطه)، بتاريخ 12/04/2004م
(9) نقلا عن الشبكة الإسلامية، ركن الفتاوى
(10) ينظر (حكم الاختلاط)، للدكتور محمود مجيد سعود الكبيسي، شبكة جامعة عجمان، أبو ظبي
(11) نقلا عن (الاختلاط بين الواقع والتشريع)، لإبراهيم بن عبد الله الأزرق، ص11
(12) ينظر مقال الشيخ محمد الخضر حسين بعنوان (اختلاط الجنسين في نظر الإسلام) على صفحة مجلة الزيتونة
http://www.azeytouna.net/Dialog/Dialog001.htm