خطبة الإنصاف مع رمضان والإنتصاف

خالد علي أبا الخيل
1436/11/28 - 2015/09/12 16:22PM
الإنصاف مع رمضان والانتصاف
التاريخ: الجمعة: 2/ 9 /1436 هـ

لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلا، تباركت تُعطي من تشاء وتمنع.
إلهي وخلاقي وحرزي وموئلي
*** إليك لدى الإعسار واليسر أفزع

وأشهد أن لا إله إلا الله، جل في علاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد،.
فاتقوا الله عباد الله، فأبواب الجنان مفتوحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مصفدة، فهي فرصة سانحة، وتجارة رابحة.
أيها الصائمون: كنتم بالأمس تتطلعون إلى شهركم، وتنظرون رسائل جوالاتكم، بالأمس تترقبون، وعلى أحر من الجمر تنتظرون، وشعاركم وأنتم تدعون، وبسماتكم وأنتم تستبشرون: دخل رمضان، ونزل بالميدان، مضت الأيام، وقام وصام الصيام، وفي لحظة سريعة، ولمحة بديعة، وإذا شهرنا قد انتصف، وسارع للنقص وحتف، انظروا إلى سرعة مرور الأيام، وانقضاء الشهر والأعوام، وكأننا صمنا يومًا من الأيام.
أحلام نوم أو كظل زائل
*** إن اللبيب بمثلها لا يُخدع

وصدق المصطفى: (في آخر الزمان تكون السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كإحراق السعفة بالنار)، رواه أحمد والترمذي.
فسرعتنا في زمننا من العجائب، وانقضاؤها من الغرائب.
أيها الصائمون: إن شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله واعترف؟ من منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عُرف؟ من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني فيها غرفًا من فوقها غرف؟ ألا إن شهركم قد أخذ في النقص، فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين يكون الخلف.
أيها الصائمون: تقبل الله صيامكم وقيامكم، وزادكم وأعطاكم، بادروا شهركم قبل فواته، وبادروا ساعاته ولحظاته، قبل أن تبدو مظاهر ذهابه، وتعتصر أيامه، بادروا قبل فوات الأوان وتمني الإنسان وتقلص أيام رمضان، فهاهو أخذ بالنقصان.
لكل شيء إذا ما تم نقصان
*** فلا يغر بهذا العيش إنسان

فيا عباد الله: تذكروا بالأمس نقول: أهلًا ومرحبًا بالصيام. واليوم نقول: مهلًا يا شهر القيام. ما أسرعك خطاك يا رمضان! تأتي على شوق، وتمضي على عجل وسرعان، وهذه السرعة هي من أعمالنا ودنو آجالنا، فالرحيل في رمضان يعود في سائر الأزمان، والرحيل لنا لا عودة ولا رجوع في سائر الأزمان، فحينما يأخذ رمضان بالنقص والانتصاف لنتذكر ماذا أخذنا من الزاد والاستعداد والإسعاف، فالعمل الصالح أنت سترحل عنه، لا أنه هو سيرحل عنك، فما هي عدتك؟.
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة
***
*** ولا بد من زاد لكل مسافر
ولا سيما إن خافة صولة قاهر

ورمضان مواسم أخروية، ودورات سنوية، سوف يأتي وأنت فيه بين أطباق ثلاثة: إما موجود، أو مفقود، أو موجود مفقود، فإن أدركته فتلك نعمة، وإن فقدته فخذ الآن منه العدة، وإن كنت موجودًا مفقودًا فخذ من الصحة والعافية والأهبة قبل حلول مرض أو عارض أو صدمة.
تنصف الشهر والهفاه وانهدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرًا
من فاته الزرع وقت البذار فما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
***
***
***
*** واختص بالفوز بالجنات من رُحما
مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حُرما
تراه يحصد إلا الهم والندما
في شهره وبحبل الله معتصما

من حكم الصيام –أمة سيد الأنام-: أن الدنيا سريعة الذهاب، وأنها معدودة الزمان، فلفت الرحيم الرحمن تذكيرًا للإنسان، فقال في محكم القرآن: (أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة: 184): إشارة إلى سرعة ذهابها وانقضائها، وإشارة إلى ملئها واستثمارها، فهي أيام معدودة، فلا تفوت وتذهب بدون أعمال محسوبة وقربات مرصودة.
تعالوا -أيها الصائمون الموفقون- نستعرض كشف حساب فيما مضى من الأيام، وحالنا مع الصيام والقيام: ما حالنا مع القرآن والصدقة؟ والمحافظة على الصلوات المكتوبة؟ وصلاة التراويح مع الإمام؟ والبر وصلة الأرحام؟ وهكذا في سلسلة العبادات ومجالات الطاعات، فإن كانت الأعمال والاستثمار والمحافظة على الليل والنهار، فعند الصباح يحمد القوم السرى، فسر على بركة المولى، وإن كانت الحالة الإهمال والكسل والتثابط وسوء العمل، فبادر أيامك القادمة قبل أن تغادرك، وتدارك وقتك قبل أن تذهب عنك، فالموفق من بادر أوقاته ولازم أنفاسه، فالبدار البدار قبل زوال الليل والنهار، ما دام في العمر فسحة، وفي الوقت لحظة، وأنت في أمن وعافية وصحة.
رمضان انتصف، فهل من مشمر لما بقي واعترف؟ وهل من تائب لما جنى واقترف؟.
رمضان يا قوم انتصف
وتزودوا لمعادكم
وتذللوا لإلهكم
***
***
*** فتداركوا ما قد سلف
قبل الندامة والأسف
فالذل للمولى شرف

مضى نصف شهرنا، فماذا أودعنا أيامه من أعمالنا، والعجيب أن البعض كلما أخذ رمضان في النقص أخذ هو في النقص، كلما أخذ في التحويل أخذ في التقصير والنوم الكثير، فتجد البعض في أوائل الشهر نشيطًا قارئًا، ثم يبدأ النقص، فتقل القراءة، وينقص الجلوس في المسجد، وانتظار الفريضة، وتضعف العبادة، وهذا له أسبابه: كضعف الإيمان، وكثرة العصيان، وعدم إشعار النفس بفضل الزمان، ومتابعة خطوات الشيطان، وكثرة الشواغل ومتطلبات الولدان، وضعف الصدق مع الرحيم الرحمن، وتذكر ثواب رمضان.
فلهذا: الموفق كلما أخذ رمضان في النقص، أخذ هو في الجد والحزم والقنص، يحافظ على وقته، وتزداد ختماته، وتتضاعف جهوده، وتكثر صدقاته، الموفق من إذا أخذ رمضان في النقصان سارع وسابق الفرسان، وحافظ على الفرائض والنوافل وقراءة القرآن، وهذا هدي السلف، تتضاعف جهودهم، وتتكاتف أعمالهم، فلهذا: من كان يختم في ثلاث يختم في يومين، ومن كان في يومين يختم في يوم، وهكذا سائر الطاعات، تزداد ركعاتهم وسجداتهم وبرهم وصدقاتهم.
إن بعض الناس يزداد كسله، وتضعف همته، ويقل خيره، وتنقص قراءته وصلاته، ويزداد نومه، بل ربما نام عن فرضه، يسهر الليالي بدون فائدة وعمل باق.
ومن هدي المصطفى أنه في آخر الشهر تختلف حاله، وتكثر عباداته، وتتضاعف جهوده، كما وصفته عائشة: إذا دخل العشر شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله، وعبد ربه واجتهد. وزاد في الأعمال والتعبد، كيف لا وآخر الشهر فيه فضائل: كليلة القدر والاعتكاف وإجابة الدعوات، وتنزل الرحمات، وبسط الخيرات.
إن الشواغل تتكاثر في آخر الشهر، وتتضاعف في السفر والحضر، فلا بد من وقفة صادقة ونية خالصة، وترتيب وقت، وتنظيم حياة، وإشعار النفس بفرصة الزمان، ومنحة الرحيم المنان على بلوغ رمضان، وربما المرء –عباد الله- لا يُدرك آخره، ويصبح فيه من أهل الآخرة، وربما صامه وأكمله، لكن آخر صوم يدركه.
أيها الصائمون الفائزون: نافسوا وسابقوا وبادروا وسارعوا، فالباب مفتوح، والخير ممنوح، والوقت يغدو ويروح.
أيها الصائمون الفائزون: لا إرث يدوم، ولا خير يقوم، سوى الأعمال الصالحة، لا سيما في زمن وقت المرابحة، هي الميراث الحقيقي والكنز الباقي.
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
*** ذخرًا يكون كصالح الأعمال

بادروا أوقاتكم فالأوقات معدودة، والأيام معلومة، فالوقت ثروة كبيرة، ونعمة جليلة، ورمضان درة ثمينة، وساعاته فرصة عظيمة.
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه
*** وأراه أنفس ما عليك يضيع

من عرف الوقت صان الوقت، من عرف رمضان زاد في العمل والإحسان، انظروا إلى سلفنا الصالح، لما علموا قيمة الوقت صنعوا في حفظه ورعايته أمثلة مدهشة، وأحوالًا مذهلة، يعدها الغافلون الجاهلون نوعًا من الأساطير والهذيان، لكنها عند العقلاء النابهين حقائق وأخبار وميدان، فهم في رمضان على قدم وساق، وإذا تدانت شمسه للغيوب، ووقته للأفول، رأيت المنافسة واللحاق، وهجر الوساد والسباق.
واحذر –أيها الصائم والأخ القائم- أن تتأسف في اليوم القادم على التفريط والكسل الهائم، فاحرص على النفس والهمة والعزائم.
وما مر يوم أرتجي فيه راحة
*** فأذكره إلا بكيت على أمسي

إذا تصرمت الأيام بان الفائز بجده واجتهاده، وندم المسيء على تفريطه وإهماله.
أهل المحبة قوم شأنهم عجبُ
العيش عيشهمُ والملك ملكهمُ
***
*** سرور أبد وعيشهم ضربُ
من الناس إلا همُ بانوا أو اقتربوا

الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي منّ بمواسم الخيرات، أحمده سبحانه على توالي نعمه والمسرات.
أيها الصائمون والصائمات: هاأنتم في نصف شهركم الأخير، فاعزموا على النشاط والتشمير، فالليالي القادمة فرصة ذهبية، ومنحة إلهية، وأوقات إيمانية، وحياة روحانية، فمما تزدان به البشرى، ويذكر للشكر والثنا، حرص الصائمين على إحياء هذه العشر تأسيًا بسيد البشر، فتكتظ بهم المساجد، ما بين راكع وقارئ وساجد، فهم على قدم وساق، واجتهاد ولحاق.
فلهذا: وصيتي المبذولة، وكلماتي المسموعة لك أيها الصائم والصائمة: اغتنام العصر بالطاعات، قدر الإمكان والساعات، اغتنم ليالي العشر بطلب ليلة القدر، اغتنم ليالي العشر بالقراءة والذكر، اغتنم أيام العشر بالجلوس في المساجد طلبًا للأجر، اغتنم أيام العشر بالاعتكاف إن تيسر دون مفسدة أو ضرر، اغتنم أيام العشر بالدعاء والبكاء لا سيما أوقات السحر، اغتنم أوقات العشر في تربية الأسرة على العبادة والأجر.
أيها الصائمون الغانمون: إن الفرس في السباق لا تُعطي قوتها وتخرج طاعتها إلا إذا قربت على النهاية، أخرجتها طاقتها وقوتها، لتكون أول الفائزين، وأمام المسابقين، فهاأنت في منتصف شهرك الكريم، فاحذر أن يكون اجتهادك في أوله، وطاقتك في بدايته، وفي آخره من المتخلفين والكسالى والغافلين، فأوقات الرحمات دنت، وإقالة العثرات قربت، وإجابة الدعوات حلت، وسماع الشكايات والهموم نزلت، فاحذر الكسل والإهمال والتهاون والتباطؤ في الأعمال.
أيها الصائم: الفتور وقلة النشاط أمر يعتري الإنسان، فما من إنسان إلا وينتابه حالتان: حالة نشاط، وحالة فتور، كالسنبلة، فهي تميل أحيانًا، وتقوم أحيانًا، فإن انتابه حالة النشاط نفر إلى الجهد والأعمال، وارتفعت همم الرجال، وإن انتابه حالة الفتور فليروح عن نفسه بالسرور، وليحذر الفتور المستمر، والضعف الدائم المنتشر، بل يجاهد ويجتهد، ويتوكل على الله ويعتمد، يشحذ همته، ويقوي عزيمته، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69)، وليتذكر قول المولى المقتدر: (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت: 6)، وقوله سبحانه: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7)، وقوله سبحانه: (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً) (البقرة: 268)، وقوله في الحديث: (يا عبادي: إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
وخذ قدر طوق النفس لا تسأمنه
فإن لم تصل فاذكر الله جاهدًا
فلا خير في عبد نؤوم إلى الضحى
يناديه هل من سائل يُعطى سؤله
***
***
***
*** وقِل تستعن بالنوم عند التهجد
وتب واستقل مما جنيت وسدد
أما يستحي مولى رقيبًا بمرصد
ومستغفر يُغفر له ويؤيد؟

والله أعلم.
المرفقات

خطبة الإنصاف مع رمضان والإنتصاف - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc

خطبة الإنصاف مع رمضان والإنتصاف - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc

المشاهدات 1430 | التعليقات 0