خطبة ( الأخذ بالأسباب مطلب شرعي)
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( أهمية الأخذ بالأسباب ) 6/3/1442
أما بعد فيا أيها الناس : من السُّنن الرَّبانيَّة الَّتي تعامل معها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سنَّةُ الأخذ بالأسباب، والأسباب: جمع سبب، وهو كلُّ شيءٍ يُتوصَّل به إلى غيره.
وسنَّةُ الأخذ بالأسباب مقرَّرةٌ في الكون بصورةٍ واضحةٍ، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودع فيه من القوانين، والسُّنن ما يضمن استقراره، واستمراره، وجعل المسببات مرتبطةً بالأسباب بعد إرادته تعالى؛ فمثلا جعل عرشه سبحانه محمولاً بالملائكة، وأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزَّرع بالماء… وغير ذلك.
ولو شاء الله ربُّ العالمين؛ لجعل كلَّ هذه الأشياء وغيرها – بقدرته المطلقة – غير محتاجةٍ إلى سبب، ولكن هكذا شاء الله تعالى، وحكم؛ وهذا من أجل أن يوجِّه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السُّنَّة؛ ليستقيم سير الحياة على النَّحو الَّذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنَّة الأخذ بالأسباب بارزةً في كون الله تعالى بصورةٍ واضحة، فإنَّها كذلك مقرَّرةٌ في كتاب الله تعالى، ولقد وجَّه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السُّنَّة في كل شؤونهم، الدُّنيويَّة، والآخرويَّة على السَّواء، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15] .
ولقد أخبرنا القرآن الكريم: أنَّ الله تعالى طلب من مريم عليها السلام أن تباشر الأسباب وهي في أشدِّ حالات ضعفها. قال تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25] .مع ظهور أن فعل هذا السبب لا يأتي بالثمر ، لضعفها وقوة الجذع ، ولكنه ترسيخ مبدأ الأخذ بالأسباب .
وهكذا يؤكِّد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كلِّ الأمور، والأحوال. ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان أوعى النَّاس بهذه السُّنَّة الرَّبانيَّة ، فكان – وهو يؤسِّس لبناء الدَّولة الإسلامية – يأخذ بكلِّ ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئاً يسير جزافاً .
إن التَّوكُّل على الله – تعالى – لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتَّخذ الأسباب من باب الإيمان بالله، وطاعته فيما يأمر به من اتِّخاذها، ولكنَّه لا يجعل الأسباب هي الَّتي تنشئ النَّتائج، فيتوكَّل عليها.
إنَّ الَّذي ينشئ النَّتائج – كما ينشئ الأسباب – هو الله، ولا علاقة بين السَّبب والنَّتيجة في شعور المؤمن.. اتِّخاذ السَّبب عبادةٌ بالطاعة، وتحقُّق النتيجة قدرٌ من الله مستقلٌ عن السَّبب، لا يقدر عليه إلا الله، وبذلك يتحرَّر شعور المؤمن من التعبُّد للأسباب والتَّعلُّق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاعته؛ لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
ولقد قرَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرةٍ ضرورة الأخذ بالأسباب مع التَّوكُّل على الله تعالى، كما نَبَّهَ – عليه الصَّلاة والسَّلام – على عدم تعارضهما.
اخرج الحاكم (3/623) ومجمع الزوائد (10/291)أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: أنَّ رجلاً وقف بناقته على باب المسجد، وهمَّ بالدُّخول، فقال: يا رسول الله! أرسلُ راحلتي، وأتوكل؟… وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التَّوكُّل على الله تعالى، فوجَّهه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ مباشرة الأسباب أمرٌ مطلوبٌ، ولا ينافي – بحالٍ من الأحوال – التَّوكُّل على الله تعالى، ما صدقت النِّيَّة في الأخذ بالأسباب، فقال له صلى الله عليه وسلم: «بل قيِّدها وتوكَّل» [وبلفظ: (اعقلها وتوكل) رواه الترمذي (2517)].
وهذا الحديث من الأحاديث الَّتي تبيِّن: أنَّه لا تعارض بين التَّوكُّل، والأخذ بالأسباب بشرط عدم الاعتقـاد في الأسباب، أوالاعتماد عليها، ونسيـان التَّوكُّل على الله.
وأخرج[أحمد (1/30، 52) والترمذي (2344) وابن ماجه (4164) وأبو يعلى (247) والحاكم (4/318)]. عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أنكم توكَّلتم على الله حـقَّ توكُّلـه؛ لرزقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خِماصاً، وتروح بِطاناً»
وفي هذا الحديث الشَّريف حثٌّ على التَّوكُّل، مع الإشارة إلى أهمِّية الأخذ بالأسباب؛ حيث أثبت الغدوَّ، والرَّواح للطَّير مع ضمان الله تعالى الرِّزق لها.
اللهم ارزقنا التوكل عليك وبذل السبب يارب العالمين أقول قولي هذا ..............
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : بعد الحديث عن السبب والأخذ به وأنه مبدأ شرعي مطلوب من المسلم فعله ، يمكن تلخيص هذه القضيَّة، في الأمور التَّالية:
- يقرِّر الإسلام مبدأ الأخذ بالأسباب، ذلك؛ لأنَّ تعطيل الأخذ بالأسباب تعطيلٌ للشَّرع، ولمصالح الدُّنيا.
- الاعتماد على الأخذ بالأسباب وحدها، مع ترك التوكُّل على الله، شركٌ.
- يربط الإسلام اتخاذ الأسباب بالتَّوحيد، مع الاعتقاد بأنَّ أمر الأسباب كلِّها بيد الله.
- ونحن في هذه الجائحة نجد البعض يرفض الأخذ بالأسباب معللا ذلك بالتوكل على الله ، وغافلا عن فعل السبب الذي هو من التوكل ، ومثله أخذ العلاج كي يشفى المريض ، ومثل حقن الانفلونزا التي تحث وزارة الصحة على أخذها من مراكز الرعاية مجانا ، كلها أسباب يحسن بالمسلم أخذها ، ولا تنافي التوكل ، كمن يأكل ليعيش ، ويتزوج من أجل الولد ، ويتجر ليكسب المال .
فالأخذ بالأسباب مبدأ شرعي ، ومن تركها عُدّ من غير العقلاء .
اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن