(خطبة) احذر الفتور في العشر والأواخر
خالد الشايع
الخطبة الأولى ( احذر الفتور في العشر الأواخر ) 20/9/1443
أما بعد فيا أيها الناس : نحن نعيش في زمن فاضل ، تقال في العثرات ، وتسكب فيه العبرات ، وتضاعف فيه الحسنات ، وإن النفس ملولة ، تفتر بسرعة ، خصوصا تلك النفس التي لم تعتد على العبادة ، والمسابقةِ في الخير ، فتجدها تمل بسرعة ، وتحب أن تعود إلى سابق عهدها من اللعب واللهو والتقصير في العبادة .
أيها المؤمنون : إن للفتور أسبابا ودوافع لابد من معرفتها ، حتى يتجنبها العبد ، ويستمر في الاجتهاد حتى بعد رمضان ، وإن الفتور بعد الاجتهاد أمر طبعي ، أغلب الخلق عليه ، فما أصابه الفتور إلا بعد اجتهاد في الخير وإقبال شديد ، وهذه حال المؤمن ، أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال صلى الله عليه وسلم ( إن لكل عمل شرّة ولكل شرة فترة ، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك )
والمعنى العام للحديث أنه إذا اجتهد العبد في فعل الخير ، بحيث يسابق لكل معروف وطاعة خصوصا في الأزمنة الفاضلة ، فإن هذا الحماس لا بد أن يعقبه فتور ، فالمفلح هو من كانت فتوره في المستحبات ، ولم يصل للفرائض ، لأنه إذا بلغ الفرائض أصبح تقصيرا ومعصية .
فعلى العبد أن يجتهد في العبادة حسب طاقة نفسه حتى لا تمل العبادة ، وكلما ملت ألزمها الفرائض ، ولا يكلفها مالا تطيق ، وهكذا يعود مرة أخرى للاجتهاد ، فلا يزال بين فتور واجتهاد وبعد عن المعاصي أو تضييعٍ للفرائض ، هكذا ينبغي أن تكون حال المؤمن .
عباد الله : إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الإيمان التي يجدها في أعظم العبادات قدرًا ، وأكثرها تأثيرًا ؛ كالصلاة ، والحج ، والصيام وتلاوة القرآن ، وقيام الليل ، أمر متعذر ، فلا بد من النزول عن هذه الدرجة إلى ما دونها ، وأقل منها ؛ لشدة انشغال القلب بأعمال الدنيا ، وملذاتها ، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح ، وإن هذا الفتور ليس من الرياء أو النفاق ، وقد وجد هذا أفضل القرون من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روى مسلم في صحيحه : عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ رضي الله عنه ، قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ، فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟ قَالَ قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْكم لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ ، سَاعَةً وَسَاعَةً ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) .
والمقصد من هذا أن العبد يراقب نفسه ، كلما فترت جاهدها ، وألزمها سنة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه ، فلا يزال في جهاد حتى يلقى ربه وهو محافظ على الفرائض ، مجتهدا في النوافل ، متجافيا عن المعاصي ، كلما أخفق وأذنب سارع بالتوبة قبل ساعة الاحتضار .
أيها الناس : تلذذوا بالطاعة ، وتذوقوا حلاوة الإيمان فهي أكبر معين على الثبات على الخير . اللهم وفقنا لهداك وثبتنا على الحق حتى نلقاك ، اقول قولي ....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : يجب أن يبدأ العبد موسم الخير بالجد والاجتهاد ، وصحبة الأخيار المشجعين على الخير حتى ينقضي الموسم ، وأن لا يجتهد في أوله ، ويفتر في ثناياه وختامه ، فالعبرة بالخواتيم ، خصوصا في شهر رمضان ، فآخره خير من أوله ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كل سنة ، فحن بحاجة إلى زيادة في الهمة والعمل الصالح قبل انقضاء الموسم ، والخيل إذا قاربت على النهاية جادت بكل مالديها من قوة .
معاشر المسلمين : قد يقول البعض وكيف أعرف أني مصاب بالفتور ؟
إنه سؤال تتحدث به قلوبنا ، وإن لم تنطق به ألسنتنا ، فأقول :
إن ثمة مظاهر كثيرة لهذا الداء ، تشير لك بثلمة في إيمانك تحتاج إلى ترميم ، واهتزاز في علاقتك بربك تحتاج إلى تثبيت ، أذكر لك طرفًا منها ، فارع سمعك لذكرها ، ولنتحسس وجودها أو عدمها في نفوسنا :
المظهر الأول : قسوة القلب ، ذلك السياج المانع للقلب من الخشوع لله تعالى ، الحابس لدمع العين من خشيته ، الحائل دون قشعريرة الجلد وليونته ذلاً لله تعالى ، قد جفّت ينابيع الحب فيه ، وأقفرت رياض الرحمة لديه ، واصفرت خضرة المشاعر في فؤاده ، ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ )
وتستمر القسوة بالقلب حتى تصل إلى درجة تفوق صلابة الأحجار والصخور ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) .
وشتان بين من كان هذا حال قلوبهم ، وبين من تنتفض أجسادهم كالعصافير المبللة بالمطر رهبة من الله تعالى ، حتى خلّد الله ذكرهم ووصفهم في كتابه العزيز فقال ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) .
وما قست القلوب بمثل المعاصي .
ولا ريب أن ذكر الموت والاستعداد للآخرة وتمني حسن الخاتمة علاج لكل من قسا قلبه بالمعصية ، ولهذا حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على زيارة القبور ، لأنها تذكر الآخرة ولتلين القلب .
المظهر الثاني : التهاون في فعل الطاعات ، ما كان منها نفلاً كالأذكار والسنن والوتر ، أو غير ذلك ، وإذا وصل الفتور إلى الفرائض كالحج ، والصلاة ، والصيام ، فقد زاد فتوره عن الأمر المسموح به شرعا ، ودخل في المعصية ، فإذا رأى الإنسان نفسه متثاقلاً في أداء العبادات ، متكاسلاً في النهوض إليها ، كارهًا لأدائها ، يشعر كأنها أمثال الجبال على كاهله ، فليعلم أن داء الفتور قد دب في أوصاله ، وسرى في دمه ، يقول تعالى ذامًا هذا الصنف من المصابين بهزال الإيمان وضعفه ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) ويقول تعالى (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ )
ومن علامات الفتور ثقل مجالس الذكر على النفس ، فالبعض لا يطيق سماع موعظة ولا حديث ، وكذا مجالسة الأخيار ، فالفاتر عن الطاعة لا يأنس بأهل النشاط والاجتهاد في الخير ، لأن مجالستهم تذهب الفتور وتحث على الطاعة .
ايها المؤمنون : إن الاستمرار في الفتور وعدم الرجوع للنشاط في الطاعة من علامات المنافقين التي يجب على المؤمن الحذر منها .
بقي في رمضان ليالي عظيمة مليئة بالخير والرحمة والعتق ، فلا تفتروا رحمكم الله ، فقد أوشك شهركم على الرحيل ، فاجتهدوا في فعل الخير ، وتعرضوا لما بقي من النفحات ، فإنما يوفى العامل أحره عند انقضاء عمله
اللهم اختم لنا شهرنا برضوانك .....
المرفقات
1650467068_خطر الفتور في العشرالأواخر.docx