خطبة اترك أثرا طيبا وذكرى حسنة بعد موتك 3/2/1440هـ

مختارة:

هَذِهِ هِيَ الْبَصْمَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ عُمْرِكَ، وَاللَّوْحَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ حَيَاتِكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ زَوَالِهَا... إِنَّ مِنَ الْحِرْمَانِ الْعَظِيمِ وَالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ مُجَرَّدَ رَقْمٍ فِي قَائِمَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الْبَشَرِ، لَيْسَ لَهُمْ وَزْنٌ فِي قِيَمِ الْأَخْلَاقِ وَلَا يُشَكِّلُونَ...

  

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ -تَعَالَى- وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأُشْهِدُ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ؛ ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَقْدَامَكُمْ وَأَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ مَوْقُوفُونَ، وَعَنْ أَعْمَالِكُمْ مُحَاسَبُونَ، وَعَلَى تَفْرِيطِكُمْ نَادِمُونَ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الْحَجِّ: 1-2].

 

عِبَادَ اللَّهِ: الْجَمِيعُ سَيُغَادِرُ الْوَطَنَ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، وَأَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَحْبَابَهُ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ، وَمِنْ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ إِلَى تَحْتِهَا، ثُمَّ إِلَى الدَّارِ الْأُخْرَى؛ (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الْجُمُعَةِ: 8]، وَلَيْسَ هَذَا بِجَدِيدٍ وَلَا غَرِيبٍ وَلَا مَشْكُوكٍ فِيهِ؛ لَكِنْ مَا يَجِبُ السُّؤَالُ عَنْهُ هُوَ: عَلَى مَاذَا سَيَكُونُ رَحِيلُكَ؟ وَمَا الَّذِي خَلَّفْتَهُ وَرَاءَكَ؟! هَلْ تَرَكْتَ ثَمَرًا يَدُومُ عَطَاؤُهُ وَذِكْرًا حَسَنًا، أَمْ شَوْكًا يَسْتَمِرُّ وَخْزُهُ ذِكْرًا سَيِّئًا؟!

 

وَقَبْلَ الْإِجَابَةِ يَنْبَغِي أَنْ نَعِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ مُتَبَايِنِينَ؛ فَكَمَا هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَحْجَامِ كَذَلِكَ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الصِّفَاتِ وَالطِّبَاعِ وَالسُّلُوكِ وَالْأَخْلَاقِ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ طَبْعًا جِبِلِّيًّا أَوْ خُلُقًا فِطْرِيًّا فَحَسْبُ؛ (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)[الرُّومِ: 30]؛ بِحَيْثُ يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْ تَغْيِيرِ طَبْعِهِ أَوْ تَعْدِيلِ سُلُوكِهِ، أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ عِلْمِيًّا وَسُلُوكِيًّا؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشَّمْسِ: 9-10]؛ بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ الْفِطْرِيِّ الْجِبِلِّيِّ: الْمَوْرُوثَ وَالْمُكْتَسَبَ.

 

وَالْمُوَفَّقُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- مَنْ هُدِيَ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَالصَّالِحِ مِنَ الْعَمَلِ وَالْجَمِيلِ مِنَ السُّلُوكِ؛ كَانَتْ جِبِلَّةً فِيهِ أَوِ اكْتَسَبَهَا؛ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ وَصْفِهِ أَهْلَ الْجَنَّةِ: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)[الْحَجِّ: 24]، وَهَؤُلَاءِ وَنُظَرَاؤُهُمْ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- غَرْسٌ غَرَسَهُمُ اللَّهُ بَيْنَ خَلْقِهِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ ابْنِ مَاجَهْ)، فَهُمْ؛ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)[إِبْرَاهِيمَ: 24]، وَمَثَلُهُمْ كَ: (الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)[الْأَعْرَافِ: 58].

 

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي الْعَبْدِ كُلُّ الْآثَارِ الطَّيِّبَةِ، أَوْ يَبْرُزَ فِي جَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ الْحَمِيدَةِ؛ حَتَّى يَنَالَ شَرَفَهَا جَمِيعَهَا، أَوْ يُحْمَدَ فِي كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا؛ لَكِنْ قَدْ يَبْرُزُ فِي بَعْضِهَا، وَيَنَالُ فِيهَا وَبِهَا قَصَبَ السَّبْقِ وَشَرَفَ الْمَعَالِي وَالذِّكْرَى الْحَسَنَةَ وَالصِّيتَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 

لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَنْ يُغَادِرَ الْعَبْدُ دُنْيَاهُ دُونَ أَيِّ أَثَرٍ طَيِّبٍ يُشْكَرُ عَلَيْهِ، وَلَا مَعْرُوفٍ جَمِيلٍ يُقْتَدَى بِهِ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْأَطَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَلَّا يَتْرُكَ إِلَّا شَرًّا مَحْضًا وَسُمْعَةً سَيِّئَةً يُذَمُّ عَلَيْهَا حَتَّى يَقُومَ الْعِبَادُ لِرَبِّهِمْ؛ فَيَكُونُ حَالُهُ؛ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[الْمُؤْمِنُونَ: 99-100].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ السِّيرَةَ الْحَسَنَةَ -قَوْلًا وَسُلُوكًا- بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ هِيَ عُمْرٌ ثَانٍ، وَآثَارُهُ الطَّيِّبَةُ تُشَكِّلُ بِمَجْمُوعِهَا لِصَاحِبِهَا فِي تَرْجَمَتِهَا تَارِيخًا جَدِيدًا تَخْلُقُ لَدَى الْآخَرِينَ رَغْبَةً فِي مُحَاكَاتِهِ، وَتَبْعَثُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حُبًّا فِي الِاتِّصَافِ بِهِ؛ نَاهِيكَ عَنِ التَّرَحُّمِ عَلَى صَاحِبِ تِلْكَ الْآثَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَصَدَقَ شَوْقِي يَوْمَ قَالَ:

 

دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا *** فَالذِّكْرُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي

 

وَفِي الْحِكْمَةِ: "لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ أَنْ تُضِيفَ سَنَوَاتٍ إِلَى حَيَاتِكَ، وَلَكِنَّ الْعِبْرَةَ أَنْ تُضِيفَ حَيَاةً إِلَى سَنَوَاتِكَ".

 

عِبَادَ اللَّهِ: السِّيرَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي يَتْرُكُهَا صَاحِبُهَا بَعْدَ رَحِيلِهِ هَذِهِ الْفَانِيَةَ كَنْزٌ لَا يَقْتَسِمُهُ ذَوُوهُ، بَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ الصَّدِيقُ وَالْعَدُوُّ، وَتَرِكَةٌ لَا يَقْتَسِمُ أَنْصِبَتَهَا وَرَثَتُهُ، بَلْ يَجْنِي أَسْهُمَهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، وَوَرْدَةٌ فَوَّاحَةٌ لَا يَشْتَمُّهَا مَنِ اسْتَنْشَقَهَا بَلْ حَتَّى مَنِ اقْتَرَبَ مِنْهَا، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"؛ فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالْأَثَرِ الطَّيِّبِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ؛ سَبَبُهَا وَهُوَ الْمُتَوَفَّى أَوَّلًا، وَالْقَائِمُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ، ثُمَّ الْمُجْتَمَعُ مِنْ حَوْلِهِ وَمَنْ سَمِعَ أَوْ رَأَى.

 

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ فَيَجْعَلَ لَهُ أَثَرًا طَيِّبًا فِي حَيَاتِهِ؛ فَيَصِيرَ ذَلِكَ أَثَرًا حَسَنًا بَعْدَ مَمَاتِهِ يَمُدُّ بِهِ عُمْرَهُ وَيَزِيدَ بِهِ فِي حَسَنَاتِهِ؛ وَهَذِهِ النَّمَاذِجُ -وَإِنْ مَاتَتْ أَجْسَادُهُمْ- فَحَسَنَاتُهُمْ لَمْ تَمُتْ، وَإِنْ وَارَى التُّرَابُ أَجْسَامَهُمْ، فَأَفْعَالُهُمُ الطَّيِّبَةُ وَآثَارُهُمُ الْحَسَنَةُ لَا زَالَتْ تَرْسُمُ صُوَرًا ذِهْنِيَّةً لَدَى الْمُجْتَمَعِ يَذْكُرُونَهُ فِيهَا بِخَيْرٍ وَيَحْتَذُونَ بِهَا.

 

كَمَا أَنَّ الْأَثَرَ الطَّيِّبَ هُوَ اسْتِمْرَارٌ لِلْعَطَاءِ وَبَقَاءٌ لِلْخَيْرِ وَمُسَاهَمَةٌ فَاعِلَةٌ فِي رِسَالَةِ الْبَلَاغِ الَّتِي عُنِيَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَعَهِدَهُ إِلَيْهَا نَبِيُّهَا الْكَرِيمُ؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[آلِ عِمْرَانَ: 110]، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الطَّيِّبَةَ تَدْفَعُ بِالْمُجْتَمَعِ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَالتَّمَسُّكِ بِجَمِيلِ الْقِيَمِ وَمَكَارِمِ الصِّفَاتِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِمَّا مُسْتَرِيحٌ مِنْ عَنَائِهَا وَبَلْوَائِهَا أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ؛ فَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَجْلِبْ لِنَفْسِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ سِوَى الْمَأْسَاةِ وَالْمُعَانَاةِ؛ فَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ ثَمَرَةً طَيِّبَةً أَوْ أَثَرًا حَسَنًا يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ" (الْبُخَارِيُّ: (6512)، وَمُسْلِمٌ: (950)).

 

وَيَجِبُ أَنْ يُدْرِكَ أُولَئِكَ الْمُسِيؤُونَ أَنَّ آثَارَهُمُ السَّيِّئَةَ مَدْعَاةٌ لِبُغْضِ الْعِبَادِ لَهُمْ، وَسَبَبٌ فِي دُعَائِهِمْ عَلَيْهِمْ مِمَّنِ اكْتَوَى بِنَارِ سُلُوكِهِمُ الْخَاطِئِ؛ نَاهِيكَ أَنَّ مِنَ الْخَلْقِ مَنْ سَيُحْيِي آثَارَهَمُ الْقَبِيحَةَ وَيُمَارِسُهَا وَيُرَوِّجُ لَهَا، وَالنَّتِيجَةُ: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[النَّحْلِ: 25]، وَقَوْلُهُ: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 13].

 

فَجَرِيمَةُ الْقَتْلِ أَثَرٌ سَيِّئٌ لِابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ (قَابِيلَ)؛ فَهُوَ أَوَّلُ مُبَاشِرٍ لَهُ، وَعَنْهُ أَخَذَتِ الْبَشَرِيَّةُ، وَمِنْ حِينِهَا يَجْنِي عَوَاقِبَ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَتِلْكَ الْجَرِيمَةِ، وَيَحْمِلُ وِزْرَهَا وَوِزْرَ مَنْ قَارَفَهَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ النَّسَائِيِّ (3996)).

 

فَقُلِّي بِرَبِّكَ: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ أَمْضَى عُمْرَهُ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ وَفَكِّهَا وَصَوْنِ الْأَنْفُسِ وَرِعَايَتِهَا، وَإِطْعَامِ الْبُطُونِ وَرَيِّهَا، وَكُسْوَةِ الْأَجْسَادِ وَسَتْرِهَا؟! لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ.

 

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَصْنَامُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ فَقَدْ كَانَتْ أَثَرَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيِّ الْقَبِيحَ الَّذِي جَلَبَهَا إِلَيْهَا؛ فَكُلُّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَمَعَهُ كَانَ لِجَالِبِهَا أَوْفَرُ الْإِثْمِ وَالنَّصِيبِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَرَأَيْتُ فِيهَا أَبَا ثُمَّامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ الْجَامِعِ (2398)).

 

فَقُلِّي بِاللَّهِ عَلَيْكَ: هَلْ يَسْتَوِي الْخُزَاعِيُّ وَمَنْ أَوْقَفَ حَيَاتَهُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ دَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْحِيحِ عَقَائِدِ النَّاسِ لِرَبِّهِمْ دَعْوَةً وَحِوَارًا وَتَأْلِيفًا وَغَيْرِهَا؟! لَا يَسْتَوُونَ مَثَلًا.

 

وَهَكَذَا مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ وَمَارَسَهَا وَدَعَا إِلَيْهَا، ثُمَّ مَاتَ دُونَ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا وَيُحَذِّرَ مِنْ فِعْلِهَا؛ فَهِيَ أَثَرٌ سَيِّءٌ يُرَافِقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَجْنِي وِزْرَهَا إِلَى يَوْمِ بَعْثِهِ.

هَلْ يَسْتَوِي وَمَنْ صَرَفَ عُمْرَهُ فِي دَعْوَةِ الْعِبَادِ إِلَى سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ هَدْيِهِ الْمُبِينِ وَعْظًا وَنُصْحًا وَكِتَابَةً وَغَيْرِهَا؟!

 

وَمِثْلُهُ صَاحِبُ الْأَغَانِي الْمَاجِنَةِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ الْهَابِطَةِ وَالصُّوَرِ الْخَلِيعَةِ وَانْتِشَارِهَا فِي أَجْهِزَةِ الْعَالِمِينَ، فَذَلِكَ الْإِثْمُ الْمُبِينُ، وَالْأَكْبَرُ مِنْهُ إِذَا مَاتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ مِنْهَا؛ فَهِيَ أَثَرٌ سَيِّءٌ يُلَاحِقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَجْلِبُ عَلَيْهَا وِزْرَ مَنْ سَمِعَهَا وَشَاهَدَهَا، نَاهِيكَ عَنِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تُرَافِقُهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَى رَبِّهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَهَا؛ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[النَّحْلِ: 25].

 

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ أَمْضَى عُمْرَهُ فِي تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَسَاهَمَ فِي تَعْلِيمِهَا وَنَشْرِهَا فَيَجْرِي أَجْرُهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا؟! لَا يَسْتَوُونَ أَبَدًا.

 

وَهَكَذَا مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا أَوْ أَوْقَفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقْفًا، وَمَنْ أَجْرَى نَهْرًا أَوْ كَفَلَ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا أَوْ نَشَرَ عِلْمًا أَوْ طَبَّقَ سُنَّةً وَعَلَّمَهَا أَوِ امْتَثَلَ سُلُوكًا وَنَشَرَهُ؛ فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا آثَارٌ طَيِّبَةٌ وَذِكْرَى حَسَنَةٌ يَجْرِي لِصَاحِبِهَا ثَوَابٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ؛ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ...

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، هَدَى وَوَفَّقَ مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ، وَصَرَفَ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى بِعَدْلِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ وَأَكْرَمِ رُسُلِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ؛ ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ حِرْصَنَا عَلَى الْأَثَرِ الْجَمِيلِ وَالسُّمْعَةِ الطَّيِّبَةِ وَالسِّيرَةِ الْحَسَنَةِ يَنْبَغِي أَلَّا يَحْمِلَنَا ذَلِكَ عَلَى تَجَاهُلِ الْإِخْلَاصِ وَتَغَافُلِ النِّيَّاتِ وَإِصْلَاحِ وَمُرَاقَبَةِ السَّرَائِرِ وَالطَّوِيَّاتِ، أَوْ يَحْمِلَنَا ذَلِكَ لِلتَّطَلُّعِ إِلَى ثَنَاءِ الْآخَرِينَ أَوِ ابْتِغَاءِ الْأَجْرِ مِنْهُمْ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نَتَائِجَ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ وَلَا مَرْجُوَّةٍ فِي الدُّنْيَا؛ وَيَكُونَ دَافِعُنَا لِلْإِحْسَانِ هُوَ ابْتِغَاءُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَائِدُنَا لِلْجَمِيلِ هُوَ رَجَاءُ مَا عِنْدَ اللَّهِ؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[الْمُزَّمِّلِ: 20]، وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الْإِنْسَانِ: 9].

 

فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى إِحْسَانِكَ وَمَعْرُوفِكَ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْكَ وَدُعَاؤُهُمْ لَكَ فَذَلِكَ مِنْ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَامَةً عَلَى إِخْلَاصِ عَبْدِهِ وَقَبُولِهِ مِنْهُ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ" (صَحِيحِ مُسْلِمٍ، (2642)).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)[يس: 12]، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَصْمَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ عُمْرِكَ، وَاللَّوْحَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ حَيَاتِكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ زَوَالِهَا.

 

إِنَّ مِنَ الْحِرْمَانِ الْعَظِيمِ وَالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ مُجَرَّدَ رَقْمٍ فِي قَائِمَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الْبَشَرِ، لَيْسَ لَهُمْ وَزْنٌ فِي قِيَمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَا يُشَكِّلُونَ ثِقَلًا فِي مَسِيرَةِ السُّلُوكِ.

 

غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ *** وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا

إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ *** وَإِنْ أَسَاؤُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَيْسَ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ قِيمَةٌ إِذَا رَضِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَيْشَ فِي غَيَاهِبِ السُّكُونِ؛ فَإِذَا لَمْ تَزِدْ شَيْئًا عَلَى الْحَيَاةِ كُنْتَ زَائِدًا عَلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ أَثَرًا قَبْلَ مَمَاتِهِ دُفِنَ وَلَا شَيْءَ يُذْكَرُ وَرَاءَهُ؛ دُونَ أَنْ يُسَجِّلَ عَنْهُ التَّارِيخُ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَاتَ؛ بِخِلَافِ النَّاجِحِ فِي الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ كَيْفَ يَصْنَعُ لَهُ مَجْدًا تَلِيدًا وَتَارِيخًا زَاخِرًا.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَ الْجَمِيعَ لِمَرْضَاتِهِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا وَيَهْدِيَ بِنَا، وَيَجْعَلَنَا سَبَبًا لِمَنِ اهْتَدَى. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَعَمَلَ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ.

 

اللَّهُمَّ نَصْرًا تُعِزُّ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَحِزْبَهُ. اللَّهُمَّ وَلِّ عَلَيْنَا خِيَارَنَا، وَلَا تُوَلِّ عَلَيْنَا شِرَارَنَا. اللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ وَغَضَبِكَ.

 

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90].

 

عِبَادَ اللَّهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ...

المرفقات

أثرا-طيبا-وذكرى-حسنة-بعد-موتك-نسخة-مشكو

أثرا-طيبا-وذكرى-حسنة-بعد-موتك-نسخة-مشكو

أثرا-طيبا-وذكرى-حسنة-بعد-موتك-غير-مشكول

أثرا-طيبا-وذكرى-حسنة-بعد-موتك-غير-مشكول

المشاهدات 5528 | التعليقات 0