خطبة : ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرا )
عبدالله البصري
إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرا 19/ 4 / 1445
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أُيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، المُؤمِنُ مَجبُولٌ عَلَى الخَيرِ ، حُبًّا لَهُ وَبَحثًا عَنهُ ، وَطَلَبًا لِمَا يُوصِلُهُ إِلَيهِ لِيَفعَلَهُ وَيَبذُلَهُ ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " المُؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفي كُلٍّ خَيرٌ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ في قَلبِ كُلِّ مُؤمِنٍ نَصِيبًا مِنَ الخَيرِ ، لَكِنَّ الفُرَصَ قَد لا تَتَهَيَّأُ لَهُ عَلَى الدَّوَامِ ، وَقَد لا تُوَاتِيهِ قُدُرَاتُهُ وَيَعجِزُ ، غَيرَ أَنَّ مِن رَحمَةِ اللهِ وَوَاسِعِ فَضلِهِ وَكَرِيمِ إِحسَانِهِ ، أَنَّهُ مَتَى نَوَى المَرءُ الخَيرَ وَأَرادَهُ بِصِدقٍ وَقَصَدَهُ ، ثم مَنَعَهُ مِنهُ مَانِعٌ ، أَو حَالَ بَينَهُ وَبَينَهُ عُذرٌ قَاطِعٌ ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ تَبلُغُ بِهِ مَا يَبلُغُ عَمَلُهُ ، عَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِن غَزوَةِ تَبُوكَ ، فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ فَقَالَ : " إِنَّ بِالمَدِينَةِ أَقوَامًا مَا سِرتُم مَسِيرًا وَلا قَطَعتُم وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُم " وَفي رِوَايَةٍ : " إِلاَّ شَرِكُوكُم في الأَجرِ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَهُم بِالمَدِينَةِ ؟! قَالَ : " وَهُم بِالمَدِينَةِ ، حَبَسَهُمُ العُذرُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثم بَيَّنَ ذَلِكَ : فَمَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَم يَعمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عندَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِندَهُ عَشرَ حَسَنَاتٍ إِلى سَبعِ مِئَةِ ضِعفٍ إِلى أَضعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَمَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَم يَعمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِندَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِعَمَلِهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِنَّمَا الدُّنيَا لأَربَعَةِ نَفَرٍ : عَبدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلمًا ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفضَلِ المَنَازِلِ ، وَعَبدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلمًا وَلم يَرزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَو أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلم يَرزُقْهُ عِلمًا ، فَهُوَ يَخبِطُ في مَالِهِ بِغَيرِ عِلمٍ ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلا يَعلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَخبَثِ المَنَازِلِ ، وَعَبدٍ لم يَرزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلا عِلمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَو أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزرُهُمَا سَوَاءٌ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدقٍ ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ " رَوَاهُ مُسلمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنوِي أَن يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ فَغَلَبَتهُ عَينُهُ حَتى يُصبِحَ ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى ، وَكَانَ نَومُهُ صَدَقَةً عَلَيهِ مِن رَبِّهِ " رَوَاهُ النَّسَائي وَابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . اللهُ أَكبَرُ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهَا النِّيَّاتُ الطَّيِّبَةُ وَالمَقَاصِدُ الحَسَنَةُ ، تَفتَحُ لِلخَيرِ أَبوَابًا ، وَتَكُونُ لِلتَّوفِيقِ أَسبَابًا ، وَيَحصُلُ بِهَا الأَجرُ وَإِنْ قَلَّ العَمَلُ ، وَيُنَالُ بِهَا الثَّوَابُ وَإِنْ لم تُسعِفِ القُوَى ، فَمَا أَجمَلَ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ وَمَا أَعظَمَ أَثَرَهَا ! وَمَا أَحرَى المُسلِمَ لِذَلِكَ أَن يُصلِحَ قَصدَهُ ، وَأَن يَنوِيَ الخَيرَ جُهدَهُ ، فَتِلكَ هِيَ بِدَايَةُ التَّوفِيقِ وَمِفتَاحُ الهِدَايَةِ ، وَقَد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالنِّيَّاتِ " نَعَم ، أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَعجِزُ المَرءُ عَن عَمَلِ الخَيرِ الَّذِي يَصبُو إِلَيهِ لاعتِلالِ صِحَّتِهِ ، وَقَد يُحَالُ بَينَهُ وَبَينَ مَا يُرِيدُ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ وَضَعفِ حِيلَتِهِ ، لَكِنَّ العَلِيمَ الخَبِيرَ المُطَّلِعَ عَلَى خَبَايَا النُّفُوسِ وَخَفَايَا الصُّدُورِ ، يَرفَعُ أَصحَابَ النِّيَّاتِ الصَّادِقَةِ إِلى مَا تَمَنَّوهُ تَبَعًا لِطِيبِ مَقَاصِدِهِم وَإِن ضَعُفَت وَسَائِلُهُم ، فَيَلحَقُ الفَقِيرُ مِنهُم وَإِنْ لم يَكُنْ لَدَيهِ مَالٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ بِالغَنِيِّ البَاذِلِ ، وَيُدرِكُ المَعذُورُ القَاعِدُ مَنزِلَةَ المُجَاهِدِ وَإِن لم يَلحَقْ في الوَاقِعِ بِهِ ، وَعَلَى قَدرِ النِّيَّاتِ تَكُونُ الأُعطِيَاتُ ، وَمَن نَظَّفَ قَلبَهُ وَحَرِصَ عَلَى سَلامَةِ صَدرِهِ ، وَصَفَّى نَيِّتَهُ وَأَصلَحَ قَصدَهُ ، فُتِحَت لَهُ أَبوَابُ التَّيسِيرِ ، وَلا وَاللهِ ، لا يُغلَقُ بَابٌ عَلَى العَبدِ فَيَصدُقُ في نِيَّتِهِ وَيُحسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ ، إِلاَّ فَتَحَ اللهُ لَهُ أَبوَابًا أَوسَعَ وَأَرحَبَ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " إِنْ يَعلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُم خَيرًا يُؤتِكُم خَيرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُم وَيَغفِرْ لَكُم " وَإِذَا صَلَحَتِ نِيَّةُ العَبدِ وَسَلِمَ قَصدُهُ ، أَنزَلَ اللهُ عَلَيهِ السَّكِينَةَ ، وَفَتَحَ لَهُ أَبوَابَ الغَنَائِمِ ، وَبَصَّرَهُ بِالحَقِّ وَوَفَّقَهُ إِلَيهِ وَأَعَانَهُ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحًا قَرِيبًا . وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأخُذُونَهَا " وَقَالَ سُبحَانَهُ : " وَلَو عَلِمَ اللهُ فِيهِم خَيرًا لأَسمَعَهُم " وَقَالَ تَعَالى : " رَبُّكُم أَعلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُم إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ أَمرَ النِّيَّةِ عَظِيمٌ ، حَتى إِنَّ الرَّجُلَينِ لَيَعمَلانِ عَمَلاً وَاحِدًا لا فَرقَ بَينَهُمَا فِيهِ في الظَّاهِرِ ، لَكِنَّهُ يَكُونُ لأَحَدِهِمَا رِفعَةً وَأَجرًا ، وَعَلَى الآخَرِ وَبَالاً وَوِزرًا ، عَن أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَأَيتَ رَجُلاً غَزَا يَلتَمِسُ الأَجرَ وَالذِّكرَ ، مَا لَهُ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " لا شَيءَ لَهُ " فَأَعَادَهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَالنَّبيُّ يَقُولُ : " لا شَيءَ لَهُ " ثم قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ خَالِصًا وَابتُغِيَ بِهِ وَجهُهُ " رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَقَالَ الأَلبَانيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفي الصَّحِيحَينِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِسَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ : " إِنَّكَ لَن تُنفِقَ نَفَقَةً تَبتَغِي بِهَا وَجهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرتَ عَلَيهَا ، حَتى مَا تَجعَلُ في في امرَأَتِكَ " بَل وَأَعجَبُ مِن ذَلِكَ أَنَّهُ حَتى النَّومُ الَّذِي يَرتَاحُ فِيهِ الإِنسَانُ ، هُوَ عِبَادَةٌ يُؤجَرُ عَلَيهَا إِذَا كَانَ قَد نَوَى بِهِ التَّقَوِّيَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ ، وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ أَبُو مُوسَى مُعَاذًا : كَيفَ تَقرَأُ أَنتَ ؟! قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ : أَقرَأُ وَأَنَامُ ثُمَّ أَقُومُ ، فَأَتَقَوَّى بِنَومَتي عَلَى قَومَتي ، ثُمَّ أَحتَسِبُ نَومَتي بِمَا أَحتَسِبُ بِهِ قَومَتي .
وَإِنَّهُ كَمَا تَزِيدُ النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ صَاحِبَهَا خَيرًا ، فَإِنَّ النِّيَّةَ السَّيِّئَةَ تَزِيدُ صَاحِبَهَا سُوءًا ، قَالَ تَعَالى : " في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا " وَفي قِصَّةِ أَصحَابِ الجَنَّةِ الَّذِينَ أَضمَرُوا النِّيَّةَ بِحِرمَانِ المَسَاكِينِ ، عَاقَبَهُمُ اللهُ فَتَحَوَّلَ بُستَانُهُم إِلى سَوَادٍ وَجَنَّتِهِم إِلى رَمَادٍ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " إِنَّا بَلونَاهُم كَمَا بَلَونَا أَصحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقسَمُوا لَيَصرِمُنَّهَا مُصبِحِينَ . وَلا يَستَثنُونَ . فَطَافَ عَلَيهَا طَائِفٌ مِن رَبِّكَ وَهُم نَائِمُونَ . فَأَصبَحَت كَالصَّرِيمِ " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ وَلْنُصلِحْ نِيَّاتِنَا ؛ فَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَن نَوَى خَيرًا حَصَلَ لَهُ الخَيرُ ، وَمَن نَوَى شَرًّا حَصَلَ لَهُ شَرٌّ وَكَانَ عَمَلُهُ وَبَالاً عَلَيهِ .
المرفقات
1698920137_إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرا.docx
1698920138_إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرا.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق