خطبة : ( إلى النجاح )
عبدالله البصري
1435/11/09 - 2014/09/04 21:15PM
إلى النجاح 10 / 11 / 1435
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في أَوَّلِ هَذَا الأُسبُوعِ ، غَدَت جُمُوعٌ مِنَ الطُّلاَّبِ وَالمُعِلِّمِينَ إِلى مَدَارِسِهِم وَجَامِعَاتِهِم ، مُستَعِدِّينَ لِبَدءِ عَامٍ دِرَاسِيٍّ جَدِيدٍ ، وَكَم مِن أَموَالٍ أُنفِقَت وَجُهُودٍ بُذِلَت ، وَعُقُولٍ فَكَّرَت وَخَطَّطَت ، وَقُلُوبٍ يَعتَصِرُهَا الهَمُّ عَلَى مَا تَستَقبِلُ ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الجَمِيعِ وَهَدَفُهُم وَأَسمَى أَمَانِيِّهِم ، أَن يَحصُلَ لَهُمُ النَّجَاحُ وَيُحَقِّقُوهُ وَيَستَطعِمُوهُ ، نَعَم ، إِنَّ النَّجَاحَ في نِهَايَةِ كُلِّ عَامٍ هُوَ الهَدَفُ وَالغَايَةُ ، بَل إِنَّ النَّجَاحَ في الحَيَاةِ بِعَامَّةٍ ، هُوَ الغَايَةُ العُظمَى وَالمَطلَبُ الأَسمَى ، الَّذِي تَفرَحُ النُّفُوسُ بِنَيلِهِ وَتُسَرُّ لِتَحصِيلِهِ ، وَتَأسَى إِنْ هِيَ لم تَصِلْ إِلَيهِ أَو أَخفَقَت دُونَ بُلُوغِهِ ، غَيرَ أَنَّ هَذَا النَّجَاحَ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ مَا يُطلَبُ وَغَايَةُ مَا يُبتَغَى ، عَادَ مَحفُوفًا بِشَيءٍ مِن سُوءِ الفَهمِ لَدَى بَعضِ النَّاسِ اليَومَ ، فَضَاعَت مَعَالِمُهُ مِنَ بَصَائِرِهِم ، وَامَّحَت رُسُومُهُ مِن أَذهَانِ فِئَامٍ مِنهُم ، بَلِ اختَلَفَت مَعَايِيرُهُ لَدَى كِبَارِهِم قَبلَ صِغَارِهِم ، وَهَزُلَت مَقَايِيسُهُ حَتى قُصِرَ عَلَى شُهرَةٍ وَاسِعَةٍ تُحَصَّلُ ، أَو دَرَجَةٍ عِلمِيَّةٍ تُنَالُ ، أَو شَهَادَةٍ عَالِيَةٍ تُكتَسَبُ ، أَو وَظِيفَةٍ مَرمُوقَةٍ يُتَرَبَّعُ عَلَى كُرسِيِّهَا ، لِيُجمَعَ بِكُلِّ ذَلِكَ أَو بَعضِهِ أَكبَرُ مِقدَارٍ مِنَ المَالِ ، أَو يُكتَسَبَ بِهِ أَعرَضُ جَاهٍ وَأَوفَرُ مَدحٍ ، ثُم لا يُستَمَرُّ بَعدَ ذَلِكَ في التَّزَوُّدِ مِن عِلمٍ وَلا يُسعَى في إِتقَانِ عَمَلٍ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد عَادَ مِن غَيرِ المُستَنكَرِ أَن يَكُونَ خِرِّيجُو المَدَارِسِ وَالمَعَاهِدِ وَالجَامَعَاتِ في ازدِيَادٍ ، وَتَأثِيرُهُم في الوَاقِعِ في نَقصٍ وَضَعفٍ وَانحِدَارٍ ، بَل قَد لا يُرَى لِلآلافِ مِنهُم أَيُّ أَثَرٍ حَسَنٍ في تَغيِيرِ الوَاقِعِ .
أَجَل ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ قَصرَ نَجَاحِ المَرءِ عَلَى ظَوَاهِرَ يُتَمَدَّحُ بها أَمَامَ النَّاسِ ، مِن شَهَادَةٍ أَو وَظِيفَةٍ أَو مَنصِبٍ أَو جَاهٍ ، إِنَّهُ لَظُلمٌ لِهَذَا المَعنَى الجَمِيلِ وَخُرُوجٌ بِهِ عَن حَقِيقَتِهِ ، وَانحِرَافٌ بِهَذَا المَقصَدِ المُحَبَّبِ لِلنُّفُوسِ عَن سَبِيلِهِ ، وَمَن ظَنَّ أَنَّ نَجَاحَهُ في حُضُورِهِ بِجِسمِهِ عَلَى مَقعَدِ دِرَاسَتِهِ ، مُكتَفِيًا مِمَّا يُطرَحُ في فَصلِهِ أَو قَاعَةِ دَرسِهِ ، بِكُلَيمَاتٍ يَسِيرَةٍ يَحفَظُهَا ، أَو وُرَيقَاتٍ يُقَدِّمُهَا بِطُرُقٍ مُلتَوِيَةٍ ، حَيثُ تَكتُبُهَا لَهُ يَدٌ غَيرُ يَدِهِ ، وَيُفَكِّرُ بها عَقلٌ غَيرُ عَقلِهِ ، وَيَجتَهِدُ فِيهَا فِكرٌ غَيرُ فِكرِهِ ، فَقَد عَزَبَ عَنهُ مَعنَى النَّجَاحِ ، وَبَعُدَ عَنهُ بُعدَ السَّمَاءِ عَنِ الأَرضِ .
إِنَّ النَّجَاحَ الحَقِيقِيَّ لا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ لِمَن جَاهَدَ وَجَدَّ وَاجتَهَدَ ، وَوَاصَلَ سَهرَ اللَّيلِ بِتَعَبِ النَّهَارِ ، وَأَضنَى العَقلَ بِدَوَامِ التَّفكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ ، وَأَكَلَّ القَلَمَ بِطُولِ البَحثِ وَالكِتَابَةِ ، وَنَاقَشَ وَنُوقِشَ وَذَاكَرَ وَاستَذكَرَ ، وَحَفِظَ وَرَاجَعَ وَاختُبِرَ وَاستَظهَرَ ، لا يُوصَلُ إِلى النَّجَاحِ وَتُدرَكُ قِمَّتُهُ ، إِلاَّ بِسُلُوكِ طَرِيقٍ فِيهِ شَيءٌ مِنَ المَشَقَّةِ وَقَدرٌ مِنَ العَنَتِ ، وَلا يُستَطعَمُ طَعمُهُ وَتُذَاقُ حَلاوَتُهُ ، إِلاَّ بِتَجَرُّعِ مَرَارَةِ التَّعَلُّمِ وَاحتِمَالِ شِدَّتِهِ ، وَمَن لم يَسقِ الغَرسَ وَيَتَعَاهَدِ الزَّرعَ ، نَدِمَ يَومَ الحَصَادِ وَلم يَذُقْ حُلوَ الثَّمَرِ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ العُقَلاءَ يَتَأَمَّلُونَ في العَوَاقِبِ الحَمِيدَةِ وَالمَآلاتِ الرَّشِيدَةِ ، فَيَصبِرُونَ وَيُصَابِرُونَ حَتى يَبلُغُوا النِّهَايَاتِ السَّعِيدَةَ ، وَأَمَّا الجُهَّالُ وَالمُغَفَّلُونَ فَلا يَرَونَ إِلاَّ الحَالَ الحَاضِرَةَ ، وَلا يَستَطعِمُونَ إِلاَّ اللَّذَّةَ العَاجِلَةَ ، وَبِهَذَا تَمُرُّ بِأَحَدِهِمُ السَّنَوَاتُ تِلوَ السَّنَوَاتِ ، وَتَرَاهُ يَغدُو وَيَرُوحُ لِيَتَعَلَّمَ ، فَتَشغَلُهُ بُنَيَّاتُ الطَّرِيقِ عَن هَدفِهِ وَتَصرِفُهُ عَن غَايَتِهِ ، فَلا يَشعُرُ إِلاَّ وَقَد مَضَت عَلَيهِ السُّنُونَ وَفَاتَتهُ الفُرَصُ ، وَإِذَا بِهِ يَخرُجُ مِن رِحلَتِهِ العِلمِيَّةِ الطَّوِيلَةِ ، بِنَتَائِجَ ضَئِيلَةٍ وَمَعلُومَاتٍ قَلِيلَةٍ .
إِنَّ النَّجَاحَ الَّذِي يَصبُو إِلَيهِ العُقَلاءُ ، هُوَ أَن يَكُونَ أَحَدُهُم مِن صُنَّاعِ الحَيَاةِ المُؤَثِّرِينَ في دَفعِ مَسِيرَتِهَا ، المُغَيِّرِينَ لِوَجهِهَا لِلأَحسَنِ وَالأَكمَلِ وَالأَجمَلِ ، لا أَن يَظَلَّ في صَفِّ المُستَمتِعِينَ بِرَخِيصِ الشَّهَوَاتِ ، المُنغَمِسِينَ في عَاجِلِ اللَّذَّاتِ ، وَالمَرءُ النَّاجِحُ هُوَ مَن يَصِلُ إِلى مَا يُرِيدُهُ اللهُ لا إِلى مَا تُرِيدُهُ نَفسُهُ ، وَيَسعَى فِيمَا يُرضِي خَالِقَهُ وَمَولاهُ ، قَبلَ أَن يَهتَمَّ لِرِضَا النَّاسِ أَو سُخطِهِم ، النَّاجِحُ مَن يَكُونُ قُدوَةً صَالِحَةً في مُجتَمَعِهِ ، أُسوَةً حَسَنَةً لِمَن حَولَهُ ، أَمِينًا في أَخذِهِ وَعَطَائِهِ ، مُوَفَّقًا في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، مُسَدَّدًا في تَعَامُلِهِ وَتَوَاصُلِهِ ، رَفِيعًا خُلُقُهُ غَزِيرًا أَدَبُهُ ، هَمُّهُ أَن يَحصُلَ الخَيرُ عَلَى يَدِهِ ، وَقَصدُهُ أَن يَنتَشِرَ بِسَبَبِهِ ، وإنَّ المَرءَ مَا لم يُضِفْ إِلى الحَيَاةِ جَدِيدًا مُفِيدًا ، فَإِنَّمَا هُوَ عِبءٌ عَلَيهَا وَمَشَقَّةٌ ، وَالَّذِينَ لا يَحمِلُونَ أُمَّتَهُم وَلا يُسعِدُونَ مُجتَمَعَاتِهِم ، وَلا يَرتَقُونَ بِأَوطَانِهِم وَلا يَرفَعُونَ شَأنَ بُلدَانِهِم ، فَإِنَّمَا هُم حِملٌ عَلَى أَكتَافِ أُمَّتِهِم ، وَثِقَلٌ عَلَى أَوطَانِهِم ، وَكُلفَةٌ عَلَى أَهلِيهِم وَعَنَاءٌ ، وَعَنَتٌ لِمُجتَمَعِهِم وَشَقَاءٌ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مَا يَنَالُهُ الطُّلاَّبُ مِن عُلُومٍ نَظَرِيَّةٍ ، وَمَا يَجمَعُونَهُ مِن مَعلُومَاتٍ قَيِّمَةٍ ، أَو يَطَّلِعُونَ عَلَيهِ وَيَعُونَهُ مِن أَفكَارٍ بَدِيعَةٍ ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لا يُعَدُّ مِنَ النَّجَاحِ الحَقِيقِيِّ في شَيءٍ ، مَا لم يَتَحَوَّلْ إِلى خَطَوَاتٍ عَمَلِيَّةٍ تُلمَسُ في حَيَاتِهِم ، وَحَقَائِقَ وَاقِعِيَّةٍ يَنفَعُونَ بها مَن حَولَهُم ، ذَلِكُم أَنَّ الأَفكَارَ مَهمَا كَانَت جَمِيلَةً ، وَالمَعلُومَاتِ مَهمَا كَانت جَلِيلَةً ، فَإِنَّهَا تَظَلُّ مَيِّتَةً لا حِرَاكَ فِيهَا ، حَتَّى تَنتَقِلَ مِن حَيِّزِ الفِكرِ المُجَرَّدِ بِضِيقِهِ ، إِلى فَضَاءِ الوَاقِعِ المَلمُوسِ بِسَعَتِهِ وَرَحَابَتِهِ ، نَعَم ، إِنَّ الأَفكَارَ لا تُرَادُ لِنَفسِهَا ، وَالمَعلُومَاتِ لا تُجمَعُ لِذَاتِهَا ، وَالمَعَارِفَ لا تُحفَظُ لِتُلقَى وَيُتَبَاهَى بِحِفظِهَا ، بَلِ المَقصُودُ الأَعظَمُ هُوَ الثِّمَارُ العَمَلِيَّةُ النَّاضِجَةُ ، وَالتَّأثِيرُ الوَاقِعِيُّ الصَّادِقُ ، وَنَفعُ الخَلقِ وَنَصرُ الحَقِّ .
عِبَادَ اللهِ ، كَثِيرُونَ مِن طُلاَّبِنَا مَن يَغدُونِ إِلى مَدَارسِهِم وَيَرُوحُونَ مِنهَا ، وَهُم لا يَعلَمُونَ مَاذَا يُرِيدُونَ ، وَلا يَهتَدُونَ إِلى المُرَادِ مِنهُم ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِن أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَى مَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَ التَّربِيَةِ وَالتَّعلِيمِ ، مِن آبَاءٍ وَمُعَلِّمِينَ وَمُرَبِّينَ ، أَن يُبَيِّنُوا لِلنَّشْءِ مَن هُم ؟ وَمَاذَا يُرَادُ مِنهُم ؟ وَمَا الغَايَةُ مِن خَلقِهِم وَمَا سِرُّ إِيجَادِهِم ؟ ثم لِيَسْعَ الجَمِيعُ بَعدَ ذَلِكَ مُتَعَاوِنِينَ ، في التَّخطِيطِ السَّلِيمِ لِتَعلِيمِ هَؤُلاءِ الأَبنَاءِ ، وَتَنظِيمِ أَوقَاتِهِم وَاستِثمَارِ سَاعَاتِ حَيَاتِهِم ، وَالحِرصِ عَلَى أَلاَّ تَضِيعَ في غَيرِ نَفعٍ وَجِدٍّ وَانضِبَاطٍ ، وَلْيَتَذَكَّرِ الجَمِيعُ أَنَّ النَّجَاحَ لا يُمكِنُ أَن يَتَحَقَّقَ في ظِلِّ مَا مُنِيَت بِهِ الأُمَّةُ اليَومَ مِن فَوضَوِيَّةٍ وَهَزْلٍ لَدَى الكِبَارِ قَبلَ الصِّغَارِ ، وَمَا شَاعَ في مَدَارِسِهَا مِن تَفَلُّتٍ مِنَ المَسؤُولِيَّةِ وَقِلَّةِ صَبرٍ لَدَى المُعَلِّمِ قَبلَ الطَّالِبِ ، فَلا بُدَّ مِن الجِدِّ وَالحَزمِ في كُلِّ الأُمُورِ ، وَأَخذِ النُّفُوسِ بِالقُوَّةِ وَلَو في الأَعَمِّ الأَغلَبِ ، وَعَدَمِ تَعوِيدِهَا عَلَى التَّرَاخِي وَالكَسَلِ وَتَركِ العَمَلِ ، فَالجِدُّ هُوَ الرُّوحُ الَّتِي تَسرِي في الأَعمَالِ فَتَبعَثُ فِيهَا الحَيَاةَ ، وَمَن قَرَأَ في سِيَرِ العُظَمَاءِ وَالنَّاجِحِينَ ، فَلَن يَجِدَ فِيهَا سِمَةً هِيَ أَعظَمَ مِنَ الجِدِّ وَالكَدِّ ، وَلا خُلُقًا هُوَ أَحسَنَ مِنَ العَزمِ وَالحَزمِ وَالصَّبرِ ، وَمَن تَأَمَّلَ حَيَاةَ الفَاشِلِينَ المُخفِقِينَ ، وَجَدَهَا مَلِيئَةً بِالفَوضَوِيَّةً وَعَدَمَ التَّخطِيطِ ، مُفعَمَةً بِإِضَاعَةِ الأَوقَاتِ وَالتَّسوِيفِ وَالتَّأجِيلِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاحرِصُوا عَلَى إِتبَاعِ الأَقوَالِ بِالأَفعَالِ ، وَاحذَرُوا مِنَ القَولِ بِلا فِعلٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِن أَشَدِّ المَقتِ وَالخَسَارَةِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا ما لا تَفعَلُون "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ . " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " وَاعلَمُوا أَنَّ النَّجَاحَ لَيسَ في كَثَرَةِ الحَرَكَةِ وَالخُرُوجِ وَالوُلُوجِ بِلا هَدَفٍ وَلا غَايَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ في اختِيَارِ العَمَلِ الأَفضَلِ وَالأَزكَى في كُلِّ وَقتٍ بِحَسَبِهِ ، إِذِ الحَرَكَةُ المُجَرَّدَةُ تَكُونُ في اتِّجَاهَاتٍ مُختَلِفَةٍ أَو مُتَضَادَّةٍ ، وَقَد تَكُونُ تَرَاجُعًا أَو دَوَرَانًا في المَكَانِ نَفسِهِ ، وَأَمَّا الحَرَكَةُ المُرَكَّزَةُ ، فَإِنَّهَا تَقَدُّمٌ لِلأَحسَنِ وَالأَكمَلِ ، وَسَيرٌ إِلى الأَمَامِ بِخُطُوَاتٍ مَدرُوسَةٍ ، وَاتِّجَاهٌ نَحوَ الهَدَفِ بِلا التِفَاتٍ وَلا تَقَاعُسٍ .
اليَومَ شَيءٌ وَغَدًا مِثلُهُ ** مِن نُخَبِ العِلمِ الَّتي تُلتَقَطْ
يُحصِّلُ المَرءُ بِهَا حِكْمةً ** وَإِنَّمَا السَّيلُ اجتِمَاعُ النُّقَطْ
فَإِيهًا ـ بَنِي الإِسلامِ ـ وَالهِمَّةَ الهِمَّةَ ، فَإنَّهَا الطَّرِيقُ إِلى القِمَّةِ ...
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ** تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأَجسَامُ
وَالصَّبرَ الصَّبرَ تَبلُغُوا ...
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبرِ أَن يَحظَى بَحَاجَتِهِ ** وَمُدمِنِ القَرعِ لِلأَبوَابِ أَن يَلِجَا
إِنَّهُ لَيسَ بَينَ النَّجَاحِ وَالإِخفَاقِ إِلاَّ صَبرُ سَاعَةٍ ، وَلْيَستَشعِرِ المَرءُ أَجرَ مَا يُقَدِّمُهُ بِعِلمِهِ لِلنَّاسِ مِن خَيرٍ ، وَثَوَابَ مَا يُهدِي إِلَيهِم مِن فَائِدَةٍ وَنَفعٍ ، وَلْيَعلَمْ أَنَّهُ مَا مِن نَجَاحٍ إِلاَّ وَفِيهِ نَوعُ مَشَقَّةٍ ، وَلَولا تِلكَ المَشَقَّةُ لَنَالَ كُلُّ النَّاسِ المَجدَ وَحَصَّلُوهُ .
لَولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ** الجُودُ يُفقِرُ وَالإِقدَامُ قَتَّالُ
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ المُعَلِّمِينَ وَالطُّلاَّبِ أَنَّ النَّجَاحَ قَد تَمَّ لِمَن قَبلَهُم ، وَأَنَّ الأَوَّلَ لم يَترُكْ لِلآخِرِ شَيئًا ، وَأَنَّهُ لَيسَ في الإِمكَانِ أَحسَنُ مِمَّا كَانَ ، وَإِنَّهُ حِينَ اجتَمَعَ هَذَا الشُّعُورُ البَائِسُ وَالظَّنُّ الهَزِيلُ مَعَ الكَسَلِ وَالخُمُولِ وَحُبِّ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ ، فَقَد جَعَلَ مِن مُعَلِّمِي هَذَا الزَّمَانِ وَطُلاَّبِهِ عَالَةً عَلَى الآخَرِينَ ، يَعتَدُونَ عَلَى جُهُودِهِم وَيَسرِقُونَهَا ، وَلا يُفسِحُونَ لِعُقُولِهِم المَجَالَ لِتُفَكِّرَ فَتُنتِجَ وَتُبدِعَ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَاستَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ ، فَإِنَّهَ وَحدَهُ المُعِينُ عَلَى بُلُوغِ كُلِّ مَقصِدٍ ، وَهُوَ المُوَفِّقُ وَالمُسَدِّدُ ، وَالمُستَعَانُ وَعَلَيهِ التُّكلانُ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِهِ ، وَمَتى استَعَانَ العَبدُ بِاللهِ وَاستَهدَاهُ ، مَنَحَهُ ـ تَعَالى القُوَّةَ وَهَدَاهُ ، وَمَتى تَوَكَّلَ عَلَيهِ يَسَّرَ لَهُ السُّبُلَ وَكَفَاهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا "
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في أَوَّلِ هَذَا الأُسبُوعِ ، غَدَت جُمُوعٌ مِنَ الطُّلاَّبِ وَالمُعِلِّمِينَ إِلى مَدَارِسِهِم وَجَامِعَاتِهِم ، مُستَعِدِّينَ لِبَدءِ عَامٍ دِرَاسِيٍّ جَدِيدٍ ، وَكَم مِن أَموَالٍ أُنفِقَت وَجُهُودٍ بُذِلَت ، وَعُقُولٍ فَكَّرَت وَخَطَّطَت ، وَقُلُوبٍ يَعتَصِرُهَا الهَمُّ عَلَى مَا تَستَقبِلُ ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الجَمِيعِ وَهَدَفُهُم وَأَسمَى أَمَانِيِّهِم ، أَن يَحصُلَ لَهُمُ النَّجَاحُ وَيُحَقِّقُوهُ وَيَستَطعِمُوهُ ، نَعَم ، إِنَّ النَّجَاحَ في نِهَايَةِ كُلِّ عَامٍ هُوَ الهَدَفُ وَالغَايَةُ ، بَل إِنَّ النَّجَاحَ في الحَيَاةِ بِعَامَّةٍ ، هُوَ الغَايَةُ العُظمَى وَالمَطلَبُ الأَسمَى ، الَّذِي تَفرَحُ النُّفُوسُ بِنَيلِهِ وَتُسَرُّ لِتَحصِيلِهِ ، وَتَأسَى إِنْ هِيَ لم تَصِلْ إِلَيهِ أَو أَخفَقَت دُونَ بُلُوغِهِ ، غَيرَ أَنَّ هَذَا النَّجَاحَ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ مَا يُطلَبُ وَغَايَةُ مَا يُبتَغَى ، عَادَ مَحفُوفًا بِشَيءٍ مِن سُوءِ الفَهمِ لَدَى بَعضِ النَّاسِ اليَومَ ، فَضَاعَت مَعَالِمُهُ مِنَ بَصَائِرِهِم ، وَامَّحَت رُسُومُهُ مِن أَذهَانِ فِئَامٍ مِنهُم ، بَلِ اختَلَفَت مَعَايِيرُهُ لَدَى كِبَارِهِم قَبلَ صِغَارِهِم ، وَهَزُلَت مَقَايِيسُهُ حَتى قُصِرَ عَلَى شُهرَةٍ وَاسِعَةٍ تُحَصَّلُ ، أَو دَرَجَةٍ عِلمِيَّةٍ تُنَالُ ، أَو شَهَادَةٍ عَالِيَةٍ تُكتَسَبُ ، أَو وَظِيفَةٍ مَرمُوقَةٍ يُتَرَبَّعُ عَلَى كُرسِيِّهَا ، لِيُجمَعَ بِكُلِّ ذَلِكَ أَو بَعضِهِ أَكبَرُ مِقدَارٍ مِنَ المَالِ ، أَو يُكتَسَبَ بِهِ أَعرَضُ جَاهٍ وَأَوفَرُ مَدحٍ ، ثُم لا يُستَمَرُّ بَعدَ ذَلِكَ في التَّزَوُّدِ مِن عِلمٍ وَلا يُسعَى في إِتقَانِ عَمَلٍ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد عَادَ مِن غَيرِ المُستَنكَرِ أَن يَكُونَ خِرِّيجُو المَدَارِسِ وَالمَعَاهِدِ وَالجَامَعَاتِ في ازدِيَادٍ ، وَتَأثِيرُهُم في الوَاقِعِ في نَقصٍ وَضَعفٍ وَانحِدَارٍ ، بَل قَد لا يُرَى لِلآلافِ مِنهُم أَيُّ أَثَرٍ حَسَنٍ في تَغيِيرِ الوَاقِعِ .
أَجَل ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ قَصرَ نَجَاحِ المَرءِ عَلَى ظَوَاهِرَ يُتَمَدَّحُ بها أَمَامَ النَّاسِ ، مِن شَهَادَةٍ أَو وَظِيفَةٍ أَو مَنصِبٍ أَو جَاهٍ ، إِنَّهُ لَظُلمٌ لِهَذَا المَعنَى الجَمِيلِ وَخُرُوجٌ بِهِ عَن حَقِيقَتِهِ ، وَانحِرَافٌ بِهَذَا المَقصَدِ المُحَبَّبِ لِلنُّفُوسِ عَن سَبِيلِهِ ، وَمَن ظَنَّ أَنَّ نَجَاحَهُ في حُضُورِهِ بِجِسمِهِ عَلَى مَقعَدِ دِرَاسَتِهِ ، مُكتَفِيًا مِمَّا يُطرَحُ في فَصلِهِ أَو قَاعَةِ دَرسِهِ ، بِكُلَيمَاتٍ يَسِيرَةٍ يَحفَظُهَا ، أَو وُرَيقَاتٍ يُقَدِّمُهَا بِطُرُقٍ مُلتَوِيَةٍ ، حَيثُ تَكتُبُهَا لَهُ يَدٌ غَيرُ يَدِهِ ، وَيُفَكِّرُ بها عَقلٌ غَيرُ عَقلِهِ ، وَيَجتَهِدُ فِيهَا فِكرٌ غَيرُ فِكرِهِ ، فَقَد عَزَبَ عَنهُ مَعنَى النَّجَاحِ ، وَبَعُدَ عَنهُ بُعدَ السَّمَاءِ عَنِ الأَرضِ .
إِنَّ النَّجَاحَ الحَقِيقِيَّ لا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ لِمَن جَاهَدَ وَجَدَّ وَاجتَهَدَ ، وَوَاصَلَ سَهرَ اللَّيلِ بِتَعَبِ النَّهَارِ ، وَأَضنَى العَقلَ بِدَوَامِ التَّفكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ ، وَأَكَلَّ القَلَمَ بِطُولِ البَحثِ وَالكِتَابَةِ ، وَنَاقَشَ وَنُوقِشَ وَذَاكَرَ وَاستَذكَرَ ، وَحَفِظَ وَرَاجَعَ وَاختُبِرَ وَاستَظهَرَ ، لا يُوصَلُ إِلى النَّجَاحِ وَتُدرَكُ قِمَّتُهُ ، إِلاَّ بِسُلُوكِ طَرِيقٍ فِيهِ شَيءٌ مِنَ المَشَقَّةِ وَقَدرٌ مِنَ العَنَتِ ، وَلا يُستَطعَمُ طَعمُهُ وَتُذَاقُ حَلاوَتُهُ ، إِلاَّ بِتَجَرُّعِ مَرَارَةِ التَّعَلُّمِ وَاحتِمَالِ شِدَّتِهِ ، وَمَن لم يَسقِ الغَرسَ وَيَتَعَاهَدِ الزَّرعَ ، نَدِمَ يَومَ الحَصَادِ وَلم يَذُقْ حُلوَ الثَّمَرِ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ العُقَلاءَ يَتَأَمَّلُونَ في العَوَاقِبِ الحَمِيدَةِ وَالمَآلاتِ الرَّشِيدَةِ ، فَيَصبِرُونَ وَيُصَابِرُونَ حَتى يَبلُغُوا النِّهَايَاتِ السَّعِيدَةَ ، وَأَمَّا الجُهَّالُ وَالمُغَفَّلُونَ فَلا يَرَونَ إِلاَّ الحَالَ الحَاضِرَةَ ، وَلا يَستَطعِمُونَ إِلاَّ اللَّذَّةَ العَاجِلَةَ ، وَبِهَذَا تَمُرُّ بِأَحَدِهِمُ السَّنَوَاتُ تِلوَ السَّنَوَاتِ ، وَتَرَاهُ يَغدُو وَيَرُوحُ لِيَتَعَلَّمَ ، فَتَشغَلُهُ بُنَيَّاتُ الطَّرِيقِ عَن هَدفِهِ وَتَصرِفُهُ عَن غَايَتِهِ ، فَلا يَشعُرُ إِلاَّ وَقَد مَضَت عَلَيهِ السُّنُونَ وَفَاتَتهُ الفُرَصُ ، وَإِذَا بِهِ يَخرُجُ مِن رِحلَتِهِ العِلمِيَّةِ الطَّوِيلَةِ ، بِنَتَائِجَ ضَئِيلَةٍ وَمَعلُومَاتٍ قَلِيلَةٍ .
إِنَّ النَّجَاحَ الَّذِي يَصبُو إِلَيهِ العُقَلاءُ ، هُوَ أَن يَكُونَ أَحَدُهُم مِن صُنَّاعِ الحَيَاةِ المُؤَثِّرِينَ في دَفعِ مَسِيرَتِهَا ، المُغَيِّرِينَ لِوَجهِهَا لِلأَحسَنِ وَالأَكمَلِ وَالأَجمَلِ ، لا أَن يَظَلَّ في صَفِّ المُستَمتِعِينَ بِرَخِيصِ الشَّهَوَاتِ ، المُنغَمِسِينَ في عَاجِلِ اللَّذَّاتِ ، وَالمَرءُ النَّاجِحُ هُوَ مَن يَصِلُ إِلى مَا يُرِيدُهُ اللهُ لا إِلى مَا تُرِيدُهُ نَفسُهُ ، وَيَسعَى فِيمَا يُرضِي خَالِقَهُ وَمَولاهُ ، قَبلَ أَن يَهتَمَّ لِرِضَا النَّاسِ أَو سُخطِهِم ، النَّاجِحُ مَن يَكُونُ قُدوَةً صَالِحَةً في مُجتَمَعِهِ ، أُسوَةً حَسَنَةً لِمَن حَولَهُ ، أَمِينًا في أَخذِهِ وَعَطَائِهِ ، مُوَفَّقًا في ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، مُسَدَّدًا في تَعَامُلِهِ وَتَوَاصُلِهِ ، رَفِيعًا خُلُقُهُ غَزِيرًا أَدَبُهُ ، هَمُّهُ أَن يَحصُلَ الخَيرُ عَلَى يَدِهِ ، وَقَصدُهُ أَن يَنتَشِرَ بِسَبَبِهِ ، وإنَّ المَرءَ مَا لم يُضِفْ إِلى الحَيَاةِ جَدِيدًا مُفِيدًا ، فَإِنَّمَا هُوَ عِبءٌ عَلَيهَا وَمَشَقَّةٌ ، وَالَّذِينَ لا يَحمِلُونَ أُمَّتَهُم وَلا يُسعِدُونَ مُجتَمَعَاتِهِم ، وَلا يَرتَقُونَ بِأَوطَانِهِم وَلا يَرفَعُونَ شَأنَ بُلدَانِهِم ، فَإِنَّمَا هُم حِملٌ عَلَى أَكتَافِ أُمَّتِهِم ، وَثِقَلٌ عَلَى أَوطَانِهِم ، وَكُلفَةٌ عَلَى أَهلِيهِم وَعَنَاءٌ ، وَعَنَتٌ لِمُجتَمَعِهِم وَشَقَاءٌ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مَا يَنَالُهُ الطُّلاَّبُ مِن عُلُومٍ نَظَرِيَّةٍ ، وَمَا يَجمَعُونَهُ مِن مَعلُومَاتٍ قَيِّمَةٍ ، أَو يَطَّلِعُونَ عَلَيهِ وَيَعُونَهُ مِن أَفكَارٍ بَدِيعَةٍ ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لا يُعَدُّ مِنَ النَّجَاحِ الحَقِيقِيِّ في شَيءٍ ، مَا لم يَتَحَوَّلْ إِلى خَطَوَاتٍ عَمَلِيَّةٍ تُلمَسُ في حَيَاتِهِم ، وَحَقَائِقَ وَاقِعِيَّةٍ يَنفَعُونَ بها مَن حَولَهُم ، ذَلِكُم أَنَّ الأَفكَارَ مَهمَا كَانَت جَمِيلَةً ، وَالمَعلُومَاتِ مَهمَا كَانت جَلِيلَةً ، فَإِنَّهَا تَظَلُّ مَيِّتَةً لا حِرَاكَ فِيهَا ، حَتَّى تَنتَقِلَ مِن حَيِّزِ الفِكرِ المُجَرَّدِ بِضِيقِهِ ، إِلى فَضَاءِ الوَاقِعِ المَلمُوسِ بِسَعَتِهِ وَرَحَابَتِهِ ، نَعَم ، إِنَّ الأَفكَارَ لا تُرَادُ لِنَفسِهَا ، وَالمَعلُومَاتِ لا تُجمَعُ لِذَاتِهَا ، وَالمَعَارِفَ لا تُحفَظُ لِتُلقَى وَيُتَبَاهَى بِحِفظِهَا ، بَلِ المَقصُودُ الأَعظَمُ هُوَ الثِّمَارُ العَمَلِيَّةُ النَّاضِجَةُ ، وَالتَّأثِيرُ الوَاقِعِيُّ الصَّادِقُ ، وَنَفعُ الخَلقِ وَنَصرُ الحَقِّ .
عِبَادَ اللهِ ، كَثِيرُونَ مِن طُلاَّبِنَا مَن يَغدُونِ إِلى مَدَارسِهِم وَيَرُوحُونَ مِنهَا ، وَهُم لا يَعلَمُونَ مَاذَا يُرِيدُونَ ، وَلا يَهتَدُونَ إِلى المُرَادِ مِنهُم ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِن أَوَّلِ مَا يَجِبُ عَلَى مَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَ التَّربِيَةِ وَالتَّعلِيمِ ، مِن آبَاءٍ وَمُعَلِّمِينَ وَمُرَبِّينَ ، أَن يُبَيِّنُوا لِلنَّشْءِ مَن هُم ؟ وَمَاذَا يُرَادُ مِنهُم ؟ وَمَا الغَايَةُ مِن خَلقِهِم وَمَا سِرُّ إِيجَادِهِم ؟ ثم لِيَسْعَ الجَمِيعُ بَعدَ ذَلِكَ مُتَعَاوِنِينَ ، في التَّخطِيطِ السَّلِيمِ لِتَعلِيمِ هَؤُلاءِ الأَبنَاءِ ، وَتَنظِيمِ أَوقَاتِهِم وَاستِثمَارِ سَاعَاتِ حَيَاتِهِم ، وَالحِرصِ عَلَى أَلاَّ تَضِيعَ في غَيرِ نَفعٍ وَجِدٍّ وَانضِبَاطٍ ، وَلْيَتَذَكَّرِ الجَمِيعُ أَنَّ النَّجَاحَ لا يُمكِنُ أَن يَتَحَقَّقَ في ظِلِّ مَا مُنِيَت بِهِ الأُمَّةُ اليَومَ مِن فَوضَوِيَّةٍ وَهَزْلٍ لَدَى الكِبَارِ قَبلَ الصِّغَارِ ، وَمَا شَاعَ في مَدَارِسِهَا مِن تَفَلُّتٍ مِنَ المَسؤُولِيَّةِ وَقِلَّةِ صَبرٍ لَدَى المُعَلِّمِ قَبلَ الطَّالِبِ ، فَلا بُدَّ مِن الجِدِّ وَالحَزمِ في كُلِّ الأُمُورِ ، وَأَخذِ النُّفُوسِ بِالقُوَّةِ وَلَو في الأَعَمِّ الأَغلَبِ ، وَعَدَمِ تَعوِيدِهَا عَلَى التَّرَاخِي وَالكَسَلِ وَتَركِ العَمَلِ ، فَالجِدُّ هُوَ الرُّوحُ الَّتِي تَسرِي في الأَعمَالِ فَتَبعَثُ فِيهَا الحَيَاةَ ، وَمَن قَرَأَ في سِيَرِ العُظَمَاءِ وَالنَّاجِحِينَ ، فَلَن يَجِدَ فِيهَا سِمَةً هِيَ أَعظَمَ مِنَ الجِدِّ وَالكَدِّ ، وَلا خُلُقًا هُوَ أَحسَنَ مِنَ العَزمِ وَالحَزمِ وَالصَّبرِ ، وَمَن تَأَمَّلَ حَيَاةَ الفَاشِلِينَ المُخفِقِينَ ، وَجَدَهَا مَلِيئَةً بِالفَوضَوِيَّةً وَعَدَمَ التَّخطِيطِ ، مُفعَمَةً بِإِضَاعَةِ الأَوقَاتِ وَالتَّسوِيفِ وَالتَّأجِيلِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاحرِصُوا عَلَى إِتبَاعِ الأَقوَالِ بِالأَفعَالِ ، وَاحذَرُوا مِنَ القَولِ بِلا فِعلٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِن أَشَدِّ المَقتِ وَالخَسَارَةِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا ما لا تَفعَلُون "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ . " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " وَاعلَمُوا أَنَّ النَّجَاحَ لَيسَ في كَثَرَةِ الحَرَكَةِ وَالخُرُوجِ وَالوُلُوجِ بِلا هَدَفٍ وَلا غَايَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ في اختِيَارِ العَمَلِ الأَفضَلِ وَالأَزكَى في كُلِّ وَقتٍ بِحَسَبِهِ ، إِذِ الحَرَكَةُ المُجَرَّدَةُ تَكُونُ في اتِّجَاهَاتٍ مُختَلِفَةٍ أَو مُتَضَادَّةٍ ، وَقَد تَكُونُ تَرَاجُعًا أَو دَوَرَانًا في المَكَانِ نَفسِهِ ، وَأَمَّا الحَرَكَةُ المُرَكَّزَةُ ، فَإِنَّهَا تَقَدُّمٌ لِلأَحسَنِ وَالأَكمَلِ ، وَسَيرٌ إِلى الأَمَامِ بِخُطُوَاتٍ مَدرُوسَةٍ ، وَاتِّجَاهٌ نَحوَ الهَدَفِ بِلا التِفَاتٍ وَلا تَقَاعُسٍ .
اليَومَ شَيءٌ وَغَدًا مِثلُهُ ** مِن نُخَبِ العِلمِ الَّتي تُلتَقَطْ
يُحصِّلُ المَرءُ بِهَا حِكْمةً ** وَإِنَّمَا السَّيلُ اجتِمَاعُ النُّقَطْ
فَإِيهًا ـ بَنِي الإِسلامِ ـ وَالهِمَّةَ الهِمَّةَ ، فَإنَّهَا الطَّرِيقُ إِلى القِمَّةِ ...
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ** تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأَجسَامُ
وَالصَّبرَ الصَّبرَ تَبلُغُوا ...
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبرِ أَن يَحظَى بَحَاجَتِهِ ** وَمُدمِنِ القَرعِ لِلأَبوَابِ أَن يَلِجَا
إِنَّهُ لَيسَ بَينَ النَّجَاحِ وَالإِخفَاقِ إِلاَّ صَبرُ سَاعَةٍ ، وَلْيَستَشعِرِ المَرءُ أَجرَ مَا يُقَدِّمُهُ بِعِلمِهِ لِلنَّاسِ مِن خَيرٍ ، وَثَوَابَ مَا يُهدِي إِلَيهِم مِن فَائِدَةٍ وَنَفعٍ ، وَلْيَعلَمْ أَنَّهُ مَا مِن نَجَاحٍ إِلاَّ وَفِيهِ نَوعُ مَشَقَّةٍ ، وَلَولا تِلكَ المَشَقَّةُ لَنَالَ كُلُّ النَّاسِ المَجدَ وَحَصَّلُوهُ .
لَولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ** الجُودُ يُفقِرُ وَالإِقدَامُ قَتَّالُ
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ المُعَلِّمِينَ وَالطُّلاَّبِ أَنَّ النَّجَاحَ قَد تَمَّ لِمَن قَبلَهُم ، وَأَنَّ الأَوَّلَ لم يَترُكْ لِلآخِرِ شَيئًا ، وَأَنَّهُ لَيسَ في الإِمكَانِ أَحسَنُ مِمَّا كَانَ ، وَإِنَّهُ حِينَ اجتَمَعَ هَذَا الشُّعُورُ البَائِسُ وَالظَّنُّ الهَزِيلُ مَعَ الكَسَلِ وَالخُمُولِ وَحُبِّ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ ، فَقَد جَعَلَ مِن مُعَلِّمِي هَذَا الزَّمَانِ وَطُلاَّبِهِ عَالَةً عَلَى الآخَرِينَ ، يَعتَدُونَ عَلَى جُهُودِهِم وَيَسرِقُونَهَا ، وَلا يُفسِحُونَ لِعُقُولِهِم المَجَالَ لِتُفَكِّرَ فَتُنتِجَ وَتُبدِعَ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَاستَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ ، فَإِنَّهَ وَحدَهُ المُعِينُ عَلَى بُلُوغِ كُلِّ مَقصِدٍ ، وَهُوَ المُوَفِّقُ وَالمُسَدِّدُ ، وَالمُستَعَانُ وَعَلَيهِ التُّكلانُ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِهِ ، وَمَتى استَعَانَ العَبدُ بِاللهِ وَاستَهدَاهُ ، مَنَحَهُ ـ تَعَالى القُوَّةَ وَهَدَاهُ ، وَمَتى تَوَكَّلَ عَلَيهِ يَسَّرَ لَهُ السُّبُلَ وَكَفَاهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا "
المرفقات
إلى النجاح.doc
إلى النجاح.doc
إلى النجاح.pdf
إلى النجاح.pdf
المشاهدات 3743 | التعليقات 3
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
دمت بحفظ الله
ومن النجاح خطبة "إلى النجاح" اللهم ارزقنا وشيخنا وكل الأخوة النجاح في الدنيا والفوز في الآخرة !
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق