خطبة ( أفلا شققت عن قلبه ) مختصرة...
سعيد الشهراني
الخطبة الأولى :
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه. أما بعدُ:
أيها المسلمون : أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
عباد الله : عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟)، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ، فَقَالَ: (أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟، أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟)، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
واللهِ إنَّه لدرسٌ كبيرٌ، وصرخةُ نذيرٍ، من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ لحبيبِه وابنِ حبيبِه أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رضيَ اللهُ عنهما، درسٌ لم يكنْ يحتملُ التَّاجيلَ ولا المجاملاتِ، درسٌ لا ينبغي فيه الإطالةُ ولا المُقدِّماتُ، إنَّها النِّياتُ وما أدراكَ ما النِّياتُ، وهل يعلمُ النِّياتِ إلا ربُّ الأرضِ والسَّماواتِ، فهو العزيزُ العظيمُ الرَّحيمُ الغفورُ، الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ.
فهل لنا بعدَ هذا الموقفِ الرَّهيبِ، أن نطعنَ في نيَّةِ صديقٍ أو قريبٍ ..
إساءةُ الظَّنِّ بما في قلوبِ الآخرينَ، يُحزِنُ أفئدتَنا؟، ويُفسدُ فرحتَنا؟، ويُطفيءُ ابتسامتَنا؟، ونَفقِدُ بسببِه أحبَّتَنا؟، وأعظمُ من ذلكَ معصيةِ ربِّنا وخالقِنا، الذي أوصانا وقالَ لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا)، ولذلكَ لا تجدُ مؤمناً حقيقيَّاً في إيمانِه، إلا وهو سليمُ الصَّدرِ لإخوانِه، يلتمسُ لهم المُبرِّراتِ والأعذارَ، ولو من قاعِ المُحيطاتِ والبحارِ.
أفلا شَققتَ عن قلبِ أخيكَ، لترى لماذا لم يَزُركَ في بيتِكَ شهراً كاملاً، أو لم يتَّصلْ بكَ ولو على الأقلِ مُجامِلاً، ألا يمكنُ أن يكونَ مشغولاً في معاشِه، أو يكونَ طريحاً على فراشِه، فتلومُ وأنتَ الملومُ، وتَعتِبُ وعليكَ العتبُ، وحتى لو كانَ أخوكَ مُقصِّراً للخيرِ مانعاً، فلا تكنْ أنتَ لصلةِ الرَّحمِ الواجبةِ قاطعاً، فإيَّاكَ أن تسمعَ كلامَ عدوِّكَ الشَّيطانِ، فإنَّه يسعى بالتَّفرقةِ بينَ الأخوانِ، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)
أفلا شَققتَ عن قلبِ صاحبِكَ، لتعرفَ لماذا قالَ تلكَ الكلمةَ، أو لماذا فعلَ تلكَ الحركةَ، ألا يمكنُ أن يكونَ مازحاً، أو يكونَ ناصحاً، قد يكونَ أخطأَ واستعجلَ، وأنتَ للعفوِ والمغفرةِ أهلٌ، أو قد يكونَ خانَه التَّعبيرُ والكلامُ، أو قد يكونَ سُوءُ فِهمٍ منكَ فلا يُلامُ .
أفلا شَققتَ عن قلبِ زوجتِكَ، لتعلمَ لماذا لم تسمعْ لكلامِك، أو لماذا أساءتْ إلى مقامِك، ألا يمكنُ أن تكونَ في قِمةِ الغضبِ، أو تكونَ هذه آثارُ الجُهدِ والتَّعبِ، أيُعقلُ أن تَنسى عِشرةَ السَّنواتِ، بسببِ موقفٍ أو بعضِ كلماتٍ، اسمع كيفَ علَّمَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ هذا الرَّجلَ حُسنَ الظَّنِّ بأهلِه في أعظمِ مَقامٍ للشَّكِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَمَا أَلْوَانُهَا؟)، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: (هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟)، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: (وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ).
وما أجملَ ظَنَّ أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضيَ اللهُ عنه في عائشةَ رضيَ اللهُ عنها في حادثةِ الإفكِ، فعندما دخلَ على امرأتِه أمِّ أيوبَ، قالتْ له: يا أبا أيوبَ، ألا تسمعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟، قَالَ: بلى، وَذَلِكَ الكذبُ، أكنتِ يا أمَّ أيوبَ فاعلةً ذَلِكَ؟، قَالَتْ: لا واللهِ مَا كنتُ لأفعلُه، قَالَ: فعائشةُ واللهِ خيرٌ منكِ، فأنزلَ اللهُ تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الكريمِ المنانِ، باسطِ يديه إلى خلقِه بالإحسانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا مُحمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، وعلى من تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ .. أما بعدُ:
أيُّها الحبيبُ .. أفلا شققتَ عن قلوبِ النَّاسِ حولَكَ لترى ما فيها لكَ من الاحترامِ والتَّقديرِ، والحبِّ الخالصِ الكبيرِ، وتعلمَ ما فيها لكَ من القَدرِ العظيمِ، والمقامِ الكريمِ، ولكنَّ كثيراً من النَّاسِ لا يستطيعُ التَّعبيرَ عن مشاعرِه الجَليلةِ، ولا يستطيعُ النُّطقَ بكلماتِه الجميلةِ، إمَّا حياءً أو خجلاً، وإما خوفاً أو وَجلاً، ولذلكَ ترى مشاعرَهم في قَسَماتِ وجوهِهم، وفي نظراتِ عيونِهم، دونَ نُطقِ ألسنتِهم، فترى حُبَّهم مواساةً في الأتراحِ، ومساندةً في الأفراحِ، ويبذلونَ من أجلِك الأرواحَ، حُبَّاً صامتاً عمليَّاً لا قوليَّاً.
فأحسنَ الظَّنَ بما في قلوبِ المسلمينَ، ولا تتَّهم ما لا تراهُ العينُ، واسمع إلى اعتذارِ النَّملةِ الرَّزينِ، (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، فاعتذرتْ عنهم أنَّهم إن حَطموكم فليسَ عن قَصدٍ منهم ولا شُعورٍ، فما أجملَ هذا الشُّعورَ.
فانظرْ إلى قلوبِ النَّاسِ نظرةً نظيفةً، واحملْ ما فيها على النَّوايا الشَّريفةِ، واجعل مشاعرَك تجاهَهم خالصةً عفيفةً، يذهبُ ما في قلبِك من الشَّكِ والرَّيبِ، وتحلو حياتُكَ بالسَّعادةِ وتطيبُ، وإذا ما أخطأَ عليكَ حبيبٌ يوماً واعتذرَ، فتذكَّرْ ما في العفوِ من الشَّهامةِ والأجرِ، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد .....