خصوص الذنب، وعموم العقاب

محمد مرسى
1436/01/26 - 2014/11/19 21:24PM
في القرآن الكريم آيات كثيرة ترشد إلى أن الإنسان لا يتحمل عقاب ذنب فعله إنسان غيره، ولا يحاسب على جرم ارتكبه شخص آخر، من تلك الآيات قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عليها وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الأنعام:164]، وقوله سبحانه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، ونحو ذلك من الآيات التي تقرر هذا المعنى.
بالمقابل ثمة آيات أُخرى، تفيد أن العقاب يلحق بمن ليس له يد في فعله أو ارتكابه، نقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خاصة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، ونحو هذا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، فهاتان الآيتان تدلان على أن العقاب يعمُّ الناس جميعًا، مع أن الذنب والمعصية لم يكن منهم جميعًا، بل كان من فئة خاصة ومحددة، فئة الظالمين في الآية الأولى، وفئة المترفين في الآية الثانية.
وقد يبدو للقارىء العَجِل أن بين هذه الآيات تعارضًا وتناقضًا، من جهة أن بعضها يخصص العقاب بفاعل الذنب فحسب، والبعض الآخر يعمم العقاب على الفاعلين وعلى غير الفاعلين، وذلك لا يستقيم في شرائع البشر، فكيف يستقيم في شريعة خالق البشر؟! هذا وجه التعارض بين الآيات الآنفة الذكر.
وقد أجاب أهل العلم على هذا السؤال جوابًا يزيل الإشكال، ويرفع ما يبدو من تعارض وتناقض بين تلك الآيات، فقالوا: "إن الأصل في العقاب أن يكون خاصًا، لكن لما كان الناس يعيشون في مجتمع واحد، ويتقاسمون معًا أفراح الحياة وأتراحها، كان عليهم أن يتحملوا المسؤولية الجماعية في بناء هذا المجتمع، ووضعه على مساره الصحيح، فإذا حاول البعض أن يخرق هذا المسار، أو أن يغير من اتجاهه، فإنه يتعين على الآخرين الأخذ على يده، وإعادته إلى جادة الصواب والرشاد، فإذا لم يفعلوا ذلك كان عليهم أن يتحملوا نتيجة ذلك التقصير".
إذًا العقاب من حيث الأصل شخصي وفردي وهو جار كذلك، إذا لم يكن للذنب المُرتكب تأثير على المجتمع، أما إذا كان الذنب يتعدى حدود الشخص وحدود الفرد، فإن على المجتمع في مثل هذه عليه الحالة أن يتحرك ليحفظ جانبه، ويحمي أمنه، فإن لم يفعل ذلك كان مقصرًا، وبالتالي عليه أن يتحمل عاقبة هذا التقصير.
ونمثل لذلك بمثال يقرِّب الأمر، ويوضح المسألة، فنقول: "إن الولد إذا فعل فعلًا مضرًا بالآخرين، كأن يسب أو يشتم أهل الحي الذي يقيم فيه، أو يسرق بيتًا من بيوت ذلك الحي، أو يفعل شيئًا من هذا القبيل، فلا يمكن والحالة هذه أن نحاسب الولد فحسب، من غير أن نحاسب أباه أيضًا، فإن أباه مشارك له في كل ما فعل، ويتحمل قسطًا من المسؤولية، والمحاسبة على فعل ولده؛ لأنه قصر في توجهيه توجيهًا سلميًا، وأهمل تنشئته تنشئة صالحة، وبالتالي كان عليه أن يتحمل جزاء ما قام به ولده"، وليس له أن يقول: "إن هذا من فعل ولدي، ولا أتحمل جزاء ما فعل".
وعلى هذا النحو يقال -فيما نحن بصدده من الآيات-: "وذلك أن الناس إذا قصَّروا في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك مدعاة لعموم العقاب، وسببًا لنزول العذاب، وليس لهم أن يقولوا: "ليس الذنب ذنبنا، وليس من العدل عقابنا"؛ لأنَّا نقول: ما داموا مسلمين، ويعيشون في هذا المجتمع معًا، ويتحملون جزءًا من التبعة والمسؤولية، كان عليهم ألا يدعوا الظالم يتمادى في ظلمه، وألا يتركوا أهل الغيِّ يسترسلون في غيهم، بل عليهم أن يأمروا بكل ما هو معروف، وأن ينهوا عن كل ما هو منكر، فإذ هم لم يفعلوا ذلك، فعليهم أن يتحملوا عاقبة أمرهم".
قال ابن العربي القرطبي مقررًا هذا المعنى: "إن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاصٍ، هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضيَ بمنـزلة العامل".
وهذا المعنى الذي قررناه آنفًا، تشهد له أحاديث عديدة، تشد من أزره، وتأخذ بيده إلى مصافِّ السنن الكونية التي أقام الله عليها أمر الحياة، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قبل وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
فمن تلك الأحاديث التي تؤكد على هذا الواجب الاجتماعي؛ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» (صحيح البُخاري؛ برقم: 2493)، ومعنى (استهموا): اقترعوا، أي: اقترعوا من يجلس في أعلى السفينة، ومن يجلس في أسفلها.
قال القرطبي بعد أن ساق هذا الحديث: "ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمَّت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر وعدم التغيير".
ومنها ما ورد في (الصحيحين) عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فزعًا، وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج...»، قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» (صحيح البُخاري؛ برقم: 7135). و(الخبث): الزنى.
ومنها ما صحَّ عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم من ضل إذا اهتديتم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (رواه أصحاب السنن إلا النسائي).
ومنها ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]، إلى قوله: {فَاسِقُونَ} [المائدة:81]، ثم قال: «كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا» (رواه أبو داود)، ومعنى (لتأطرنه): أي لتحملنه على الحق والصواب، ولو عن غير إرادة منه.
وفي لفظ آخر عند الترمذي: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» (قال الترمذي: حديث حسن).
وفي مسند الإمام أحمد أن عديًّا رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذَّب الله الخاصة والعامة».
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، قال: "أمر الله المؤمنين أن لا يُقرُّوا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بالعذاب"، قال ابن كثير معقباً على قول ابن عباس: "وهذا تفسير حسن جدًا".
وقد يقال أيضًا: "إن الآيات التي خصت الجزاء بفاعل الذنب فحسب دون غيره محمولة على عذاب الآخرة، فالأمر يومئذ ينطبق عليه قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، وينطبق عليه كذلك قوله سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل:111]، فكل إنسان يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، مرتهن بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
أما الآيات التي نصت على عموم العذاب، فمحمولة على العقاب الدنيوي، وينطبق عليها الآيات الناصة على عموم العقاب، كقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
يرشد لهذا المعنى ما ثبت في (الصحيحين) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «إذا أنزل الله بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم» (صحيح البُخاري؛ برقم: 7108)، فالعذاب في الدنيا مشترك، أما في الآخرة فالحساب يكون بحسب الأعمال والنيات.
ويرشد له أيضًا ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب جسمه، وتحركت أطرافه في منامه، فقالت: يا رسول الله! صنعت شيئًا في منامك لم تكن تفعله، فقال: «العجب: إن ناسًا من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش، قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم، فقلنا: يا رسول الله! إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر، والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم» (صحيح مسلم؛ برقم: 2884)، فالمَهْلَك واحد للجميع، أما المرجع والمآب فبحسب الأعمال والنيات.
والمهم في الأمر؛ أن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويبذلوا غاية الوسع في القيام بهذا الواجب الاجتماعي، ولا ينبغي أن يَدَعُوا أهل الفساد يمرحون في المجتمع ويسرحون من غير أن يأخذوا على أيديهم، فإن لم يفعلوا ذلك، فإن العذاب لا شك نازل بهم، فهذه سنة الله في الأولين والآخرين {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]
نقلاً عن الشبكة الإسلامية
المشاهدات 2147 | التعليقات 0