خزائن الناجحين.

عاصم بن محمد الغامدي
1437/08/20 - 2016/05/27 08:14AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله الملكِ المعبود، الرحيمِ الودود، ذي العطاء والمنِ والجود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له
يَأَتِيْكَ مِن ألْطَافِهِ الفَرَجُ الذِيْ ... لَمَ تَحْتَسِبْهُ وأنْتَ عَنْهُ غَافِلُ
يا مُوْجِدَ الأشْيَاءِ مَن ألَقْى إلَى ... أبْوَابِ غَيرِك فَهُو غِرٌ جَاهِلُ
ومَن اسْتَرَاحَ بِغَيرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا ... أحَدًا سِوَاكَ فَذَاكَ ظِل زَائِلُ
وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أكرمه ربه بالحوض المورود، والمقام المحمود، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصيته للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} فلنتق الله عباد الله ولنحرص على ارتداء لباس التقى، والطهر من دنس الذنوب بالتوبة والأعمال الصالحة {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.
عباد الله:
الحياة نعمة عظيمة، ومنحة من الله كريمة، تختلف أحوال الناس في التفاعل معها، والاستفادة منها.
والناجحون آثارهم مشهودة، ولو تأملنا في أحوالهم قديمًا حديثًا، لوجدناهم يشتركون في أمر لا يفارق أحدًا منهم، وهو أول ما ينبغي لطالب الفلاح الاهتمام به.
هذا الأمر عبَّر عنه ابن الجوزي رحمه الله بقوله: "اعلم -يا بني- أنّ الأيامَ تُبْسَطُ سَاعَاتٍ، والساعاتِ تبسطُ أنفاسًا، وكلُّ نَفَسٍ خِزَانَةٌ، فاحذر أن يذهب نَفَسٌ بغير شيء، فترى في القيامةِ خزانةً فارغةً فتندمْ". [صيد الخاطر 1/505].
ولهذا كان بعض السلف يقول: "لو كان الوقت يشترى بالمال لأنفقت كل أموالي غير خاسر أشتري بها أوقاتًا لخدمة الإسلام والمسلمين".
وكان بعضهم يوصي زواره بما يحفظ أوقاتهم، فقال لهم مرة: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن إذا كان بمفرده، ومتى اجتمعتم قطعتم الطريق بالحديث.
ومن اهتمامهم بأوقاتهم، وَرَدَ أَنَّ بَعضَهم خَرَجَ يتنزه فِي بعْضِ النَّوَاحِي هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ، فَوَضَعُوا سُفْرَةً لَهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ راعٍ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُم: هَلُمَّ! قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: أَفِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الصَّائِفِ الْحَارِّ وَأَنْتَ فِي هَذَا الشِّعْبِ؟! قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ أُبَادِرُ الأَيَّامَ الْخَالِيَةَ. [حفظ العمر 1/42].
ويقول عبد الرحمن ابن الإمام أبي حاتم الرازي صاحب التفسير العظيم: "ربما كان يأكل وأقرأ عليه ويمشي وأقرأ عليه ويدخل الخلاء وأقرأ عليه ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه ".
وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة".
وهذا ابن رجب رحمه الله يقول: "لقد كتبت بإصبَعِي هذا أكثر من ألفي مجلد"، وقُسمت كتبه بعد موته على عمره فكان نصيبُ اليوم من الكتب تسعةَ كتب.
هؤلاء قوم فهموا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". [ أخرجه الترمذي وصححه الألباني].
أيها المسلمون:
الوقتُ أصلُ النِّعم، وهو ميدان حياة الإنسان، وساحة ظلِّه وبقائه، والعاقل من يَغتنم وقته فيما يَنفعه وينفع أمَّته؛ لأنَّه يَعلم أنَّ ما مضى منه لا يعود أبدًا، وأنَّ الليلَ والنهارَ يتعاقبان ويأكلانِ من أعمارنا، فلا بدَّ لنا أن نَعمل فيهما ما خُلقنا لأجله، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.
وقال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أو الدُّخَانَ، أو دَابَّةَ الْأَرْضِ، أو الدَّجَّالَ، أو خاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أو أَمْرَ الْعَامَّةِ " [رواه مسلم].
فمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْعُمْرَ بِضَاعَةٌ يَسِيرَةٌ يُسَافِرُ بِهَا إِلَى الْبَقَاءِ الدَّائِمِ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُضَيِّعْهُ، وَمَنْ قَلَّ عِلْمُهُ وَضَعُفَ إِيمَانُهُ بِالْجَزَاءِ، فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ الرَّاحَةَ بِالْبَطَالَةِ، وَيُقْنِعُهُ مَا يَرْجُو النَّجَاةَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَلا يَنْظُرُ فِي فَوْتِ الدَّرَجَاتِ، وقد قيل فيما مضى: تَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ، فَوُلِدَ بينهما الفقر. [حفظ العمر لابن الجوزي 35].
عباد الله:
الاهتمام بالوقت دليل الصلاح، وقرينة على الخير، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم من طال عمره، وحسن عمله". [رواه الترمذي وصححه الألباني].
ولأهمية الوقت، أَقسَم اللهُ به في مختلف أطواره؛ بليله ونهاره، وفجره وصباحه، وعصره وضَحَائه، وفي ذلك بيانٌ لأهميته وعِظَم مكانه؛ فهو ميدان العاملين، وساحة النَّاجحين والخاسرين.
وحث عليه الصلاة والسلام أمته على الاهتمام بالوقت، واستثماره قبل فواته، فقال في الحديث الصحيح: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شغلك، وشبابَك قبل هرمك، وغناكَ قبل فقرك".[رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي]، ويقول عليه الصلاة والسلام: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".[رواه البخاري].
"السنَة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل".
وهذه أيام الإجازة قد أظلتنا، فماذا أعددنا فيها لأنفسنا وأهلينا وأولادنا؟
هل من العقل أن تنقضي بلا فائدة ظاهرة، أو ربح بيّن؟
هل من الحكمة أن تمرَّ وما حفظنا فيها آية من كتاب الله أو حديثًا من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
هل أحسن الذي يقضيها فيما يغضب الله تعالى من أسفار ورحلات؟
أما آن لهدر الأوقات أن يتوقف، وتضييع الساعات أن يتمهل؟
كم من الخير يمكن غرسه في أولادنا في مثل هذه الأيام، ونغفل عنه؟
عباد الله:
صح عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نخلةٌ فِي الْجَنَّةِ".
فَالْعَجَبُ ممن يُضَيِّعُ زَمَانَهُ فِي غَيْرِ الْغَرْسِ، وَلَوْ أَنَّهُ ذَاقَ طَعْمَ النَّخِيلِ لاسْتَكْثَرَ مِنْه، إِنَّ مِثْلَ عَمَلِ الْخَيْرِ فِي الْعُمْرِ كَمِثْلِ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: كُلَّمَا زَرَعْتَ حَبَّةً أَخْرَجَتْ لَكَ أَلْفَ أَلْفِ ثمرة، فهَلْ تُرَاهُ يَفْتُرُ مَعَ سَمَاعِ هَذَا الرِّبْحِ!
وَلْيَتَفَكَّرِ الإِنْسَانُ فِي صَائِمٍ جَلَسَ وَقْتَ الْعِشَاءِ لِيُفْطِرَ مَعَ مَنْ كَانَ مُفْطِرًا وَكِلاهُمَا يَشْبَعُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ ذَهَبَ تَعَبُ الصَّوْمِ وَرَاحَةُ الإِفْطَارِ لكنْ تَبَايَنَ الْحَالُ فِي الثَّوَابِ.
أيها المسلمون:
طولَ الأملِ من أكبر أسباب تضييع الوقت، يروى أن مَعْرُوفًا الْكَرْخِيَّ أقام الصَّلاةَ، ثُمَّ قَالَ لبعض من معه: تَقَدَّمْ فقال: إِنْ صَلَّيْتُ بِكُمْ هَذِهِ الصَّلاةَ لَمْ أُصَلِّ بِكُمْ غَيْرَهَا.
فَقَالَ مَعْرُوفٌ: وَأَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ أَنْ تُصَلِّيَ صَلاةً أُخْرَى؟ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طُولِ الأَمَلِ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ خَيْرَ الْعَمَلِ. [حفظ العمر لابن الجوزي ص 58].
ومن الأسباب تعليل النفس بكثرة الأشغال، وأن الفراغ منها سيكون نقطة البداية والانطلاق، وهذا من حيل إبليس، ولو نطق أهل القبور لوجدنا أن مَا فِيهِمْ أَحَدٌ إِلا وَلَهُ حَوَائِجُ مَا قَضَاهَا، يَقُولُ: سَأَفْعَلُ. [حفظ العمر لابن الجوزي ص59].
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدًا ... نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد أيها الإخوة المسلمون:
فإن الحديث عن الوقت واستغلاله، لا يعني أن يدعَ الإنسان راحته، أو يترك الاستجمام مع أهله وأولاده، بل العاقل من أخذ من يوم فراغه زادَا لِباقي أيامه، والصحابة رضي الله عنهم مع شدة اهتمامهم بالوقت كان عندهم وقتٌ للتروّحِ والترفيه.
وقد أنعم الله على كثير من أولياء الأمور في زماننا، بحسن التعامل في الإجازات، مع أهليهم وأولادهم، فهم يعلمونهم بترفيههم، ويزيدونهم رقيًا في أوقات راحتهم.
أحدهم في كل عامٍ يرتب لأولاده برنامجًا حفظ القرآن، ويجعل مكافأة لمن ينتهي من الجزء الذي عليه.
وآخر يخرج بهم بنفسه إلى بعض المنتجعات، يروّح عنهم ويدخل السرور على قلوبهم، ولا يلقي بهم إلى رفاق السوء يتخطفونهم من بين يده، ولا يعلم في أي بقاع الأرض يهلكون.
وثالث استغل رغبة أولاده في القراءة فاشترى لهم من الكتب والقصص النافعة المفيدة ما يسد نهمهم ويرفع حصيلتهم.
وكثيرون فرحوا بأن شهر رمضان يأتي وهم في تفرغ للعبادة، ورتبوا مع أزواجهم وأهليهم طريقة استغلاله، حتى يكون شاهدًا لهم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، بل بعضهم رتب وقت الذهاب للعمرة من ألان، ليستعد كل أفراد الأسرة لذلك ذهنيًا ونفسيًا.
فالبدار البدار لنكون من هؤلاء فنفلح، والحذارِ الحذار من التخلف عن ركبهم فنكلح.
الْيَوْمَ الرِّهَانُ، وَغَدًا السِّبَاقُ، وَالْغَايَةُ الْجَنَّةُ، وَالْهَالِكُ مَنْ دَخَلَ النَّارَ، نعوذ بالله من النار، وكونوا أيها الكرام من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا بتوفيقك، وأيدنا بتأييدك، واجعلنا ممن طالت أعمارهم، وحسنت أعمالهم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن وعبادتك.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من عتقائك من النار.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا ممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا كما تحب وترضى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
20/8/1437هـ[/align]
المشاهدات 928 | التعليقات 0