خُذِ الْعَفْوَ
سالم بن محمد الغيلي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن حبيبنا وقدوتنا محمد بن عبدالله خاتم النبيين واشرف المرسلين وقدوة الناس اجمعين صلوات ربي وسلامه عليه ماتعاقبت الأيام والليالي .
- }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{ ]سورة آل عمران: 102[
- }يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{ ]سورة النساء:1[
- }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا{ ]سورة الأحزاب:70[
عباد الله:
إن الله اختار لنا الإسلام وجعله ايسر الأديان , جعله الله ايسر الأديان التي شرعها وما جعل علينا فيه حرج } وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ{ ]سورة القمر:22[ , }.. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ..{ ]سورة الحج:78[, وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ... الحديث) صحيح البخاري.
وكان من قبلنا إذا أرادوا أن يتوب فعليه أن يقتل نفسه , أما دين الإسلام فلي عليه ذلك , عليه أن يترك الذنب ويندم على فعله ويعزم على عدم الرجوع إليه ويستغفر ربه ويرد المظالم إلى أهلها , قال الله عز وجل : } ..فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { ]سورة البقرة:54[.
وإن من يسر الله على الناس ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف في بعض آية منها يقول الله تعالى : } خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ { ]سورة الأعراف:199[, هذا منهج عظيم لو جعله المسلم في حياته لعاش عيشة السعداء مرتاح الضمير طيب النوايا, وما اختلف الناس إلا على فهم هذه الآية , كلفوا أنفسهم مالا يطيقونه وحكموا على الناس بأهوائهم ومزاجاتهم وفهمهم فأخطأوا الاحكام وظلموا الأنام واكثروا في الخصام, الله عز وجل يقول: خذ العفو , يا أيها الناس خذوا العفو من الناس, لا تبحثوا عن النيات ولا تنقبوا عن المقاصد ولا تفتشوا عن خبايا القلوب , خذ العفو ليس لك من الناس إلا الظاهر , خذ العفو لا تفسر نوايا الناس وماذا يقصدون, خذ العفو اترك القلوب ومافيها لله فالله وحده يعلم مافي القلوب, خذ العفو كن سهلًا بسيطًا في التعامل مع الناس لا تشدد ولا تشك ولا تبغض بمجرد سوء ظنك أو بمجرد هواك أو بعل تفسير النوايا وخبايا القلوب, خذ العفو كن انسانًا عفويًا يقبل اليسير ويترك التجسس والتحسس مالم يظهر لك قصد متعمد , خذ العفو لا تقل ماذا يقصدون؟ ماذا ينوون؟ ايش المقاصد؟ وماهي النوايا ؟ هذه ليست إليك فالله وحده هو الذي يتولى السرائر , أما أنت فليس لك من الناس إلا ماظهر, هكذا المسلم هكذا يجب أن يكون بين اقاربه واهله واخوته وجيرانه واهله حتى يحبوه ويقبلوه ويقتربوا منه ويصلوه, لا كما يفعل المتكبرون العتاة المتعالمون... يهرب منه القريب والبعيد لسوء فهمه وخسة طبعه ورداءة طويته , دائمًا يقول: ماذا تقصدون؟ ماهي نواياكم؟ ماذا وراءكم؟ والله تعالى امرنا بأخذ العفو بالحكم على الظاهر , في صحيح البخاري (سَمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ الزُّبيرِ يَقولُ على المِنبرِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، قالَ: واللهِ ما أَمرَ بها أنْ تُؤخَذَ إلَّا مِن أخلاقِ النَّاسِ، واللهِ لآخُذنَّها مِنهُم ما صَبَّحتُهمْ.) صحيح الادب المفرد للالباني.
والحديث هنا لا يخص أهل الشر وأهل النفاق وأهل المكر الذين يبطنون مالا يظهرون, ليس الحديث عنهم فإن لهم شأن آخر , إنما الحديث عن الاهل والجيران والأقارب , يجب أن نترك الناس على عفويتهم وعلى سجيتهم ونقبل منهم ماظهر والنوايا أمرها إلى الله لا نفسرها ولا نصل إليها, الناس يختلفون في الفهم وفي اسلوب حياتهم وكلامهم, فخذ الناس على ظاهرهم وفسر اساليبهم وافعالهم كما يريدون وكما يفهمون وليس كما تفهم أنت وتظن أنت, وهذا مسلك عظيم لو فعله الناس لسلموا من مشاكل واختلافات لا تعد, فقد يتكلم المسلم بكلام ويقصد شيئًا ثم يأتي من يسمعه ويفسره بفهمه وبطريقته, ويصدر بعد ذلك أحكامًا لا تصح ولا يوثق بها, وتدخل الناس في مشاكل واختلافات وتباعد , إذا دعوتهُ فلم يأتِ .. فتقول: لعله اعذره شيء, طرقت عليه الباب ولم يرد فقل: لعل لديه عذر لا نعرفه, اتصلت عليه ولم يرد فقل لنفسك: لعله بعيد عن هاتفه أو مشغول, وهكذا تمضي الحياة بسهولة وبساطة وعفوية .
(عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ، {خُذِ العَفْوَ} وأْمُرْ بالعُرْفِ قالَ: ما أنْزَلَ اللَّهُ إلَّا في أخْلَاقِ النَّاسِ، قالَ: أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَأْخُذَ العَفْوَ مِن أخْلَاقِ النَّاسِ، أوْ كما قالَ). صحيح البخاري.
فلنتأمل ياعباد الله كم في هذه الآية من المعجزات وكم فيها من الفضائل وكم فيها من المحامد, فما بال الناس ... يسيء إليه قريبه أما بظلم أو بكلمة سيئة أو موقف صعب حالة غضب ثم لا يعفو عنه , بل يقطعه ويركه ويهجره والله أمر أمر بالعرف بين الناس أن لا ينقطع, ما بال الناس يحتاج أحدهم إلى قريبه أو جاره أو صديقه في موقف من المواقف فيعتذر منه لسبب من الاسباب قد تكون صحيحة ثم هذا يظمرها في نفسه حتى تأتي فرصة من الفرص يحتاج إليه فيقول له: تذكر زمان؟ تذكر الموقف الفلاني؟ لما سألتك لما احتجتك هل تذكر؟ فهذه بتلك واحدة بواحدة, والله تعالى أمر بالعرف بين الناس أن لا ينقطع, بعضهم يعاون قريبه أو جاره في زواج أو موقف بمبلغ معين, فإذا جاءت المناسبة عنده وعاونه ذاك بأقل مما دفع له يغضب ويزعل بل يقطعه وقد حصل ذلك بين اناس نعرفهم تقاطعوا سنوات بسبب ان الثاني لم يرد نفس المبلغ للأول, والله أمر بالعرف بين الناس أن لا ينقطع.
اللهم صلنا بوصلك وامددنا بمددك وزدنا من فضلك , اللهم اغننا بفضلك عمن سواك واغننا بحلالك عن حرامك واغننا بطاعتك عن معاصيك , الف بين قلوبنا واصلح ذات بيننا وألهمنا رشدنا.
اقول ماتسمعون....
الخطبة الثانية
الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
عباد الله:
ويقول الله عز وجل في الآية : } وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ { ]سورة الأعراف:199[, كانت الجاهلية الأولى تحدي ورد أفعال وواحدة بواحدة حتى أن أحدهم يقول:
الآ لا يجهلنَّ أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ولو عاش الناس بهذه النفسيات والأفهام الجاهلية لما زالت العداوات ولما تواصل الناس ولما حصلت الألفة والتقارب, فالله تعالى اخبرنا أن في الناس جاهلين يجهل عليك في القول , يجهل عليك في الفعل , يجهل عليك في التعامل, يجهل عليك في الطريق, فماذا تفعل ؟ ما موقفك؟ تحاسب هذا؟ وتحلق بذاك؟ وتغضب على أولئك وتقطع أولادك؟ ستتعب وتتعب غيرك, والله رزقك العقل فأستجب لأمره واعرض عن الجاهلين.
من جهل عليك واخطأ عليك فقل له سامحك الله, عفا الله عنك, غفر الله لنا ولك, (قَدِمَ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنِ بنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ علَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيْسٍ، وكانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وكانَ القُرَّاءُ أصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ ومُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أوْ شُبَّانًا، فَقالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أخِيهِ: يا ابْنَ أخِي، هلْ لكَ وجْهٌ عِنْدَ هذا الأمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لي عليه، قالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لكَ عليه، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فأذِنَ له عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه قالَ: هِيْ يا ابْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ ما تُعْطِينَا الجَزْلَ ولَا تَحْكُمُ بيْنَنَا بالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ به، فَقالَ له الحُرُّ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}، وإنَّ هذا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللَّهِ ما جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عليه، وكانَ وقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.) صحيح البخاري.
قال تعالى: }دْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ{ ] سورة فصلت:34[ , من يصل إلى هذه المرتبة إلا المؤمنون الوقّافون عند كلام الله تعالى, ولذا اخبرنا الله تعالى أنه لا يصل إلى هذه المرتبة العالية من التعامل إلا صاحب الصبر وصاحب الحظ العظيم قال تعالى: }وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{ ] سورة فصلت: 35 [, }وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا{ ]سورة الإسراء:53[ ,
لا ترد السيئة بالسيئة ولا القبح بالقبيح , إذا كنت مؤمنًا تقف عند قول الله عز وجل: }وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {
اللهم اشرح صدورنا وزيِّن اخلاقنا , اللهم إنا نسألك كلمة الحق في الرضا والغضب , اللهم سدد اقوالنا وافعالنا واحسن عاقبتنا في الأمور كلها واجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
وصلوا وسلموا...
والله أعلم
جامع القرية 1438/10/20هـ
جامع القو 1438/7/17هـ