خدمة كتاب الله + وفاة شيخ قراء الحرمين
إبراهيم بن سلطان العريفان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إخوة الإيمان والعقيدة ... القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ، هُوَ أَصْدَقُ الْحَدِيثِ، وَأَشْرَفُ الذِّكْرِ، وَفَضْلُهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ.
هُوَ الْكِتَابُ الْمُبِينُ، وَالْحِصْنُ الْحَصِينُ، وَالْحِرْزُ الْمَكِينُ، مِنَ الْأَبَالِسَةِ وَالشَّيَاطِينِ. فِيهِ عَجَائِبُ لَا تَنْقَضِي، وَزُكَاءٌ لَا يَنْتَهِي، لَا يَمَلُّ مِنْهُ قَارِئُوهُ، وَلَا يَسْأَمُ مِنْهُ سَامِعُوهُ.
هَذَا الْكِتَابُ الْمُبِينُ جَاوَزَتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ فَضْلٍ، وَحَازَ أَهْلُهُ أَعْلَى نُزُلٍ، فَخَيْرُ النَّاسِ فِي دُنْيَا النَّاسِ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ).
تِلَاوَتُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَلَا تَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ ( الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ ).
حَازَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ ( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ).
هَذَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، كما أخبرنا الصادق المصدوق ﷺ.
عباد الله ... شَرَفٌ وَرِفْعَةٌ وَكَرَامَةٌ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) وقال ﷺ ( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ ) ( يُقَالُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ – يوم القيامة - اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ).
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَلَقَدْ عَرَفَ قِيمَةَ الْقُرْآنِ سَلَفُكُمْ، فَتَفَانَوْا فِي خِدْمَتِهِ، وَأَمْضَوُا الْأَعْمَارَ فِي تِلَاوَتِهِ، وَتَصَبَّرُوا عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ.
خَدَمُوا كَلَامَ رَبِّهِمْ فَجَمَعُوهُ، وَفِي دُفٍّ وَاحِدٍ كَتَبُوهُ، ثُمَّ فِي الْآفَاقِ نَشَرُوهُ، وَبِتَجْوِيدِهِ وَأَدَائِهِ كَمَا سَمِعُوهُ نَقَلُوهُ.
خَدَمُوا كِتَابَ رَبِّهِمْ حُبًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَتَبَارَكَتْ جُهُودُهُمْ، وَأَثْمَرَ بَذْلُهُمْ.
قَامُوا بِذَلِكَ حِسْبَةً لِلَّهِ -تَعَالَى-، لَا يَرْجُونَ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا، وَلَا مَدْحًا وَلَا ظُهُورًا، فَبَلَغَ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْجُهُودِ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَدَخَلَ كُلَّ بَيْتِ مَدَرٍ وَوَبَرٍ.
خَدَمُوا كِتَابَ اللَّهِ بِتَعَلُّمِهِ ثُمَّ تَعْلِيمِهِ، فَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ -رَغْمَ مَشَاغِلِهِ وَتَقَدُّمِ سِنِّهِ- يُخَصِّصُ كَثِيرًا مِنْ وَقْتِهِ فِي تَدْرِيسِ الْقُرْآنِ.
فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَكَثَ يُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَأَسَّسَ مَدَارِسَ التَّحْفِيظِ فِي الْكُوفَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ انْتَشَرَ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي الْعِرَاقِ، وَمَا وَرَاءَهَا عَلَى أَيْدِي طُلَّابِهِ الْحَفَظَةِ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَهَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -أَحَدُ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ- شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، وَلِيَ أَبُو مُوسَى إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ فِي عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَأَسَّسَ فِيهَا حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ، قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَعَثَنِي الْأَشْعَرِيُّ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ الْأَشْعَرِيَّ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ.
تَخَرَّجَ عَلَى يَدَيْ أَبِي مُوسَى الْمِئَاتُ مِنْ حَفَظَةِ الْقُرْآنِ، مَلَئُوا الْآفَاقَ تَعْلِيمًا وَتَبْلِيغًا، وَاسْتَمَرَّ فِي خِدْمَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَهَذَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ -أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ- أَقْرَأَ النَّاسَ الْقُرْآنَ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ، إِلَى زَمَنِ الْحَجَّاجِ، قَرَأَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ، وَالْأَبْنَاءُ، وَالْأَحْفَادُ، وَتَخَرَّجَ عَلَيْهِ آلَافُ الْحُفَّاظِ، كَانَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ هَمَّهُ وَمَشْرُوعَهُ فِي الْحَيَاةِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ، قَالَ تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ: “كَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ يُحْمَلُ فِي الطِّينِ فِي الْيَوْمِ الْمَطِيرِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي الْمَسْجِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لقد خَدَمَ سَلَفُكُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمُ الْقُرْآنَ فِي تَفْسِيرِ مُفْرَدَاتِهِ، وَبَيَانِ مَعَانِيهِ، وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهِ، وَإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِ، وَإِعْرَابِ كَلِمَاتِهِ، وَكَشْفِ إِعْجَازِهِ، فَخَلَّفُوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِرْثًا عَظِيمًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، لَمْ تَعْرِفْهُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ عَبْرَ غُبَّرَاتِ التَّارِيخِ.
اعْتَبَرُوا خِدْمَةَ الْقُرْآنِ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ وَأَشْرَفِهَا، وَأَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَأَعْلَاهَا، فَهُوَ خَيْرُ دَارٍ، وَحَسَنَاتٌ جَارِيَةٌ لِصَاحِبِهِ، حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَتَارِيخُ الْإِسْلَامِ مَلِيءٌ بِصَفَحَاتٍ مُشْرِقَةٍ مِنْ صُوَرِ السَّخَاءِ فِي خِدْمَةِ الْقُرْآنِ، مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَثْرِيَاءِ، بِمَا رَصَدُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْقَافِ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... القرآن خير كله وخيرية هذه الأمة في القرآن، فالفضل عظيم والمكانة رفيعة، ولقد بذلت بلادنا الحبيبة جهوداً طيبة تشكر وتذكر في خدمة كتاب الله عز وجل ونالت هذا الشرف العظيم بفضل الله عز وجل، منذ عهد الإمامين الإمام محمد بن عبدالوهاب والإمام محمد بن سعود رحمهما الله تعالى إلى يومنا هذا وبلادنا تعيش على خدمة كتاب الله تطبيقاً وتعلماً وتعليماً ودعماً ودعوة ونشراً.
عباد الله ... قضى الله وقدر في فجر يوم الاثنين الماضي بوفاة شيخ قراء الحرمين الشيخ المقرئ الحافظ خليل عبدالرحمن قارئ. وهو باكستاني الجنسية، قد هاجر إلى مكة المكرمة ودرَّس القرآن في المسجد الحرام، ويعتبر من أوائل من أسس حلقات القرآن الكريم في مكة، ثم انتقل إلى المدينة النبوية واستقر في طيبة الطيبة واختارها مقاماً له وتفرغ لتعليم القرآن الكريم، وتخرج على يديه مجموعة كبيرة من حفظة كتاب الله تعالى، منهم من أصبح إمام للحرمين مكة والمدينة. فأين إعلامنا من هؤلاء النبلاء، ليعرفوا العالم بسيرهم الطيبة.
لم يذكر الإعلام عن خبر وفاته، وإن ذكروه ذكروه على استحياء – فحسبنا الله ونعم الوكيل.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، لَقَدْ وَصَفَ نَبِيُّنَا ﷺ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ رِفْعَةٌ لِأَهْلِهِ، وَهَذِهِ الرِّفْعَةُ شَامِلَةٌ لِلرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكُلُّ مَنْ خَدَمَ كِتَابَ اللَّهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ الرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ
إِنَّ بِلَادَنَا يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ هِيَ مَأْرِزُ الْإِيمَانِ، وَفِيهَا قِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا نَزَلَ الرُّوحُ الْأَمِينُ بِخَيْرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَعْظَمِهَا؛ لِذَا قَامَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ لِلْقُرْآنِ مَزِيدُ عِنَايَةٍ بَيْنَ أَهْلِهَا، حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، وَوُزَرَاءَ وَمَسْئُولِينَ، وَأَهْلِ جَاهٍ وَمُوسِرِينَ.
حَفِظَ اللَّهُ لِبِلَادِنَا أَمْنَهَا وَإِيمَانَهَا، وَكَفَاهَا عَدَاءَ كَيْدِ الْمُتَرَبِّصِينَ، وَشَرَّ نَفَثَاتِ الْمُنَافِقِينَ.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين