ختام رمضان 1432هـ
الشيخ عصام بن عبدالمحسن الحميدان
بسم الله الرحمن الرحيم
ختام رمضان 1432هـ
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه، فجعل الصوم حصناً للمؤمنين وجنة، وفتح لهم أبواب الجنة، والصلاة والسلام على محمد رسول الله القائم بالكتاب والسنة، وعلى آله وصحبه أهل العقول الثاقبة والنفوس المطمئنة.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
أيها المسلمون: نحن في ختام شهر رمضان المبارك، والختام يدل على التمام، الختام وقت الوداع، الختام وقت المحاسبة، الختام دليل العمل من عدمه؛ فإنه لا يقيم العمل ولا العمر ولا الشخص حتى يختم عمله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالخواتيم"(رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له"(رواه أحمد بسند صحيح).
لم يتبق من شهر رمضان إلا القليل، فكيف يستدرك المؤمن بوقت قليل ما فاته من أول الشهر؟ وهل هناك فرصة للاستدراك؟ نعم: فإن هناك أناساً يبدأون في الأخير ويسبقون الأُوَل؛ كما قيل: من لي بمثل سيرك المدلل*** تمشي رويداً وتجي في الأول
يمكن التدارك بحجم العمل أي كثرته، أو عظمه في الإسلام، والمهم عدم التسويف والتأجيل:
وسِر عن قريبٍ واستجب واجتنب *** غداً وشمّر عن الساق اجتهاداً بنهضةِ
وكن صارماً كالسيف فالموت في *** عسى وإياك مهلاً فهي أخطر علةِ
وجذّ بسيف العزم سوف فإن تجُد *** تجد ثمراً فالنفس إن جُدتَ جدَّتِ
لم يتبق وقت للتسويف، لم يتبق وقت للتأجيل، هي أيام، يمكننا أن نعمل فيها الكثير بتصحيح النية وإخلاصها أولاً، وتنقية القلب من الحسد على نعم الله لخلقه، والحقد الدنيوي، والكبر والتعالي، والغضب والعصبية، والسخرية والتنقص لعباد الله، ثانياً، والتوبة النصوح ثالثاً التي تتضمن الندم والحزن على التقصير، والإقلاع عن الذنب وعدم الإصرار ونية العودة في المستقبل؛ فإن حققنا هذه الثلاثة أمور فربما سبقنا من تعبد من أول الشهر إلى الآن وهو مقصِّرٌ في هذه الأمور الثلاثة.
إننا -أيها الإخوة- في أفضل ليالي العام كله، إننا في أيام النفحات، إننا في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر العظيمة إلى آخر الشهر، إننا في ليالي نزول الملائكة وجبريل -عليه السلام-، إننا في استقبال ختام الشهر الذي توزع فيه الجوائز ويجزى العاملون فيه، نسأل الله -تعالى- من فضله، وعلى وشك استقبال آخر ليلة منه حيث يغفر لجميع الصائمين فيه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ويغفر لهم في آخر ليلة، قالوا: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا ولكن العامل إنما يوفى أجره عند انقضاء عمله".
نسأل الله -تعالى- أن يغفر لنا ذنوبنا كلها ويجعلنا فيه من المقبولين.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها *** والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها *** والزعفران حشيش نابت فيها
ولا شك أن هناك أناساً دخل عليهم رمضان ويوشك أن يخرج ولم يشعروا به، بل لم يعيشوا إلا تنويعاً في الأكل، واختلاف توقيت الدوام والنوم، وهؤلاء هم الغافلون عن حكمه وفضله ونفحاته؛ قال صلى الله عليه وسلم: "فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"(رواه ابن ماجه)، وهؤلاء الغافلون لا نقول إنهم محرومون من الأجر مطلقاً؛ بل فضل الله -تعالى- واسع ورحمته وسعت كل شيء، وما داموا قد صاموا فهم حول فضل الله حاموا، ولكن لينتبه لأمور:
أن الرحمة لا تشمل بعض الناس؛ فلا تنال الكافر ولا المنافق، وإن كانت وسعت كل شيء.
وثانياً: أن الصوم الذي صامه الغافلون خرقوه باللهو والمعاصي فنقص أجره أو ذهب؛ فلماذا نجعل أنفسنا على خطر؟ ورحمة الله وفضله يمكن أن تشملنا ويمكن ألا تشملنا
وثالثاً: أن رحمة الله -تعالى- التي وسعت كل شيء، سيكتبها الله ويفرضها لمن اجتهد دون غيره، ومن لم يجتهد فلن تفرض له ولكنه تحت المشيئة؛ قال الله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، ثم ماذا؟ (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ)؛ فهل نحن من المتقين المؤمنين المتبعين للرسول؟
نعم هناك من جد واجتهد فليبشر بفضل الله وعطائه وكرمه وجوده، يبشر بالمغفرة؛ "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، يبشر بالعتق من النار؛ "وآخره عتق من النار"، يبشر بشفاعة الصيام؛ "يقوم الصيام أي رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه"، يبشر بالأجر غير المحدود؛ "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، يبشر بدخول الريان؛ "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة".
وأرى أن البشارة في هذه الأيام هي الواجبة، نبشر أنفسنا بالفضل والرحمة والمغفرة، ومن تفاءل بالخير وجده، وإن التفاؤل والتبشير يبعث على العمل ويشجع المتثاقل ويقوي المجدّ، ودائماً يقدم القرآن الكريم البشارة على النذارة؛ قال الله -سبحانه-: (بَشِيرًا وَنَذِيرًا)، وقال: (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، وقال: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقال: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ)، وقال: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا"(رواه البخاري)، وقال: "إنما بعثتم ميسرين".
فهنيئاً لمن صام، وهنيئاً لمن قام، وهنيئاً لمن تصدق، وهنيئاً لمن بر، وهنيئاً لمن قرأ القرآن، وهنيئاً لمن دعا إلى الله، وهنيئاً لمن أعان مسلماً، وهنيئاً لمن اعتكف، وهنيئاً لمن تعلّم أو علّم.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أيه المسلمون: وما دمنا في البشارة فلنتذكر أن الله -تعالى- يقول: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)؛ فكل من صام وقام فهو عامل فلن يضيع عمله، وأن الله يقول: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فمن صام وقام اتبعهم بإحسان فله الجنة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى؛ قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى"؛ فمن صام وقام أطاع رسول الله فيدخل الجنة.
وما دمنا في البشارة فلنتذكر أن النصر والظفر والتمكين، والتوفيق والبركة في المال والأهل والولد والوقت والعمر، مرتبطة بالطاعة، وهذا هو التفسير الإسلامي للتاريخ والواقع؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، ونحن في شهر رمضان قد هيأنا أنفسنا بالطاعة وتطهرنا من الذنوب؛ فحققنا الشرط وبقيت النتيجة وهي واقعة بإذن الله، في بركة ونصر ورزق.
وما دمنا في البشارة فلنتذكر أننا دعونا الله -تعالى- بدعوات كثيرة في رمضان، ودعا لنا أناس كثيرون، والملائكة كانت تدعو للصائمين، ولا ريب أننا سنجد أثر هذه الدعوات في حياتنا.
معاشر الصائمين: ما ذا بقي في آخر الشهر؟ بقي أمران: الأول: الشكر. فكل ما أتينا به من طاعة فهو من فضل الله -عز وجل- ومنّه لا فضل لنا فيه، فنحمد الله الذي أحيانا حين حرم آخرين، ووفقنا حين خذل آخرين، وهدانا حين أضل آخرين، وأعاننا حين أعجز آخرين، وعلّمنا حين أجهل آخرين، وأمننا حين أخاف آخرين، وأغنانا حين أفقر آخرين.
الثاني: عدم المنة؛ (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ فالمنة تبطل العمل؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، ومن عدم المنة الخوف من عدم القبول؛ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، يخافون أن لا تتقبل منهم، جزاؤهم؛ (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)؛ قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
المرفقات
1742813097_ختام رمضان.docx
1742813098_ختام رمضان.pdf