ختام العشر ــ يوم عرفة ـ ويوم النحر
عبدالعزيز بن محمد
أيها المسلمون: أعمارُنا كنزٌ ثمين.. تَمْضِيْ وتَرْحَلُ في عَجَل. أوقاتُنا لحظاتُنا أيامُنا ساعاتُنا، إن طابَ فيها زرْعُنا طاب الثمر. إن جَدَّ فيها سعينا سَرَّ الخَبَر. إن بُدِّدَتْ في غفلةٍ، أو بُعْثِرَت في باطِلٍ طال الضرر.
إنَّ الحــياةَ قــليلةٌ لذاتُها ** والموتُ فيها هادِمُ اللـــذات
ما اقصرَ الأعمارَ عند رحيلنا ** فكأنها ومض من اللحظات
وفي الحياةِ.. يَمنُحُنا الكريمُ بِمَنِّهِ أوقاتَ بِرٍّ وافرِ البركاتِ. أيامُنا أيامُ عشرٍ فُضِّلَت.. فاستثمرِ الأوقاتَ بالحسناتِ. أقسم الله ولا يقسم الله إلا بعظيم.. أقسم بهذه العشرِ المباركات.. {والفجر * وليالٍ عشر} أيامٌ وهبها الله لعباده لينالوا بصالح العمل فيها عظيم الثوابِ ورفيعَ الدرجات «مَا مِنْ أيَّامٍ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّام» قالوا: يَا رسولَ اللهِ، وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ» رواه البخاري
* ولا تزالُ هذه الأيامُ تتوالى، ولا يزالُ بِرُّها وبركتها، وخيرها ومضاعفتها، حتى تُختَتَمُ بأفضلِ أيامِ الدنيا وأجلها. بتاسِعِها يومِ عرفةَ.. وعاشرِها يومِ النحر يومِ الحج الأكبر.
تاسعها يومُ عرفة.. يومُ رِقةِ القلوبِ وانكسارها، وخشوعها واستكانتها، يومُ المسألةِ والتضرع، يومُ بسط الرجاء وحسنِ الظن بالله. يومٌ يقف فيه الحجاجُ على صعيد عرفات شعثَ الرؤوسِ غُبراً. قد استووا في مظاهرهم، تجردوا من كل لباسٍ يتمايزون فيه.. فلا لباسَ فخرٍ يُرتدى.. ولا لباس خيلاء يُكتسى.. وإنما هو الإزارُ والرداء.. استوى فيه الغني والفقير، والكبير والصغير، والمأمورُ والأمير، والحرُّ والعبدُ، والأبيضُ والأسودُ، والعربي والأعجمي. كلهم قد استووا في موقفٍ لا يتكبر فيه إلا شقي، ولا يتبختر فيه إلا خائب.
يقفون على عرفاتٍ.. مُلَبينَ داعينَ ذاكرين، خاشعين راجين خائفين، وذلك يومٌ عظيمٌ ويومٌ مشهود، يَطَّلِعُ فيه على أهل الموقفِ فيباهي بهم ملائكتَه، وتظمُ فيه مغفرةُ الله لعبادِه المؤمنين.
إنهُ يومُ عرفة.. يومٌ لأهل الإيمانِ ذخرٌ يُرتَجى. عَنِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟) رواه مسلم
ويفيضُ عفو اللهِ وفضلُهُ على المؤمنينَ في سائرِ الأمصار.. فَيَنَالهُمْ من عفو الله وعتقه ما تقرُّ به عيونهم.. قال ابن رجب رحمه الله : (ويوم عرفة هو يومُ العتق من النار، فيعتق الله تعالى من النار من وَقَفَ بِعَرَفَة وَمَنْ لَم يَقِفْ بها من أهل الأمصارِ من المسلمين؛ فلذلك صارَ اليومُ الذي يَلِيْهِ عِيداَ لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، مَنْ شَهِدَ الموسمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لم يَشْهَدْه، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة( ا.هـ العتقُ لأهل الموقف أقربُ وأحرى. ولما شرع الله للحجاجِ الوقوفَ بعرفة.. شرع لغيرِهم صيامَ ذلك اليوم.. لينالوا من الله أعظم الرضا. قال أبو قتادة رضي الله عنه: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صَومِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالبَاقِيَةَ». رواه مسلم إنه فضلُ اللهِ على عباده وإنها البُشرى من الله لهم {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} بارك الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين، وتبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله..
أيها المسلمون: ولما كان يومُ عرفةَ يومُ مغفرةٍ وعتقٍ من النار.. كان حريٌّ بالمسلم أن يتعرض لمغفرة الله وعتقه.. وأن يَتَحَبَّبَ إلى الله بصالحِ العمَلِ وحُسنِ العبادةِ وخالصِ الدعاءِ، وصدقِ المسألة. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمر عبادَه بدعائه، ووعدهم الإجابة. أرشدهم إلى بابه وهو الغني.. ودلهم على سؤاله وهو الكريم {وَإذا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
* إنه الدعاء.. ابتهالٌ وتضرع، وانكسارٌ وعبودية. ومن لزم الدعاء غَنِم.. يُعْطَى السائلُ مَسْأَلَتَه. وينالَ بُغْيَتَه. ومن استغنى عن الدعاء افتقر.. ومن رغب عن الدعاءِ وُكِلَ إلى نفسه.
في يوم عرفةَ.. يطيبُ الدعاءُ وتُرجى الإجابة. وحري بالمسلم أن يُظْهِرَ لله فَقْرَه.. وأن يبسط بين يدي الله مسألته، فما للعبد عن الله غنى، وما له من دون الله معين. يسألُهُ صلاحاً لنفسه وصلاحاً لدينه، وصلاحاً لولده وصلاحاً لدنياه. يسأله من خيري الدينا والآخرة، يسألُه نصراً وعزاً للإسلام والمسلمين. يسألُ ربَّهُ ويسألَه، ويُقَدِّمُ بَيْنَ يدي مناجاتِه، استجابةٍ للهِ وتَوْبةٍ، وإخلاصاً لله وإخباتاً. يَعْرِضُ مَسْألتَه بانكسارِ قَلْبٍ وَصِدْقِ تَضَرُّع {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
عباد الله: وختامُ أيامِ العشرِ يومُ النحر.. وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فَقَالَ (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ) رواه البخاري
قال ابن القيم رحمه الله: (خير الأيام عند الله يومُ النحر، وهو يوم الحج الأكبر)
يوم الحج الأكبر.. فَمُعْظمَ أعمالِ الحجِّ تفعلُ في ذلك اليوم.. رمي الجمرةِ، وذبح الهدي، والحلق أو التقصير والطواف والسعي. وفيه يُصَلِّي المسلمون في أصقاعِ الأرض صلاةَ العيد.
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ..) رواه البخاري ومسلم وبعد صلاة العيدِ يذبحُ المسلمونَ أضَاحِيَهُم، يذبح المسلمُ المُقتدِرُ أضحيةً عنه وعن أهل بيته، وهي قُرْبَةٌ مِن أعظمِ القُرُبات التي يضاعفُ الله فيها للمخلصين الحسنات. {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
اللهم..
منصور بن هادي
عضو نشطنفع الله بكم وبما تقدمون خطبة رائعة ما شاء الله تبارك الرحمن
تعديل التعليق