ختام الشهر
الخطيب المفوه
1432/09/26 - 2011/08/26 02:27AM
ختام الشهر
الدكتور سعد الدريهم
إِنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فَلا مُضلَّ له ، ومن يضلل ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .الدكتور سعد الدريهم
أيها الأحبة في الله، إن هذا الشهر الكريم، الذي نتفيأ ظلاله، ونرد موارده العذبة، ونستروح العاطر من عبقة، إنه يستعتبكم، فهل فيكم من معتب له، وقائمٍ بما يزيل عتبه، نعم أيها الأحبة، إنه يستعتبكم على تقصير فئام من الصوام، في فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركانه العظام؛ إنه فرض الزكاة التي استخف بها بعض المسلمين، فلم يخرجوها، أو أخرجوها ناقصة عن مقدارها؛ فأحدث ذلكم خللاً في المجتمع في تماسكه ووحدة بنائه، التي جاء الإسلام بإرسائها، وأكد على ذلك في رسالته للعالمين، بل إن فرض هذه الفريضةِ العظيمة فريضة الزكاة، هي من الرحمات التي جاء بها الإسلام ونبيُّ الإسلام؛ ليرفع ضعف الفقير بقوة الغني . ولا تسل عن سعادة المجتمع، وهو يمتثل هذا الخلق العظيم، وتلك السنة النبيلة، ولا تسل عن تعاسة الأمة إن هي تنكبت سبل الرشاد؛ فأحجمت ولم ترفع به رأساً؛ لا ريب أنها تسعى لهلاكها ودمارها؛ حسياً ومعنوياً، ولا بد أن تدركوا أيها الجمع الكريم، أنه ما احتاج محتاج إلا بتقصير مقصر، وما أكثر المقصرين في هذه الأزمان، وعندما يحدث التقصير من أصحاب الدثور، الزاهدين في الأجور، يعتري المجتمع الخللُ والتمايز بين أفرادة، فالغني لا يرحم، والفقير لا يحب، بل قد يسرف فيحقد، ولا خير في مجتمع يعيش بين هذين الخلقين الذميمين، وفي أتون ذلك تنتشر الجريمة، وتتحكم في المجتمع الأمراض الخلقية ..
عندما تقلب الطرف أيها المحب، في ثروات الأمة تجد أن الأرقام تتخلف عن عدها أو إحصائها، وقل مثل ذلك عن زكاتها وصدقاتها، ولو أخرجت على وجهها لما رأيت ذا فاقة بين أظهرنا؛ لهذا نرى قلة البركات في هذه الثروات، وفي ملاكها إلا من رحم الله، وقليل ما هم، وهنا لا بد من كلمة تقرع آذان هؤلاء المترفين؛ لتوقفهم على حقيقة مهمة جداً، وهي أن ما بخلوا به، وهو جزء لا يكاد يذكر مما هو في خزائنهم، لا بد أن يخرج، رضوا أم كرهوا؛ فإن كان عن طيب نفس واستشعاراً لهذه الفريضة بورك لهم فيه، وكان نماء لما خلفه، $ ما نقص مال من صدقة #، وإن كانت الأخرى لا ريب أنه المحق لبركة هذا المال وزوالُه، ولا خالطت الزكاة مالاً إلا أذهبته وأهلكته، كما قال الحبيب ج، وكما قيل :
جمع الحرام إلى الحلال ليكثره جاء الحرام على الحلال فبعثره
فحري بمن يُكن صدرُه شهادةَ الحق أيها الجمع الكريم، أن يعرف حق الرب فيما يملكه من مال، وأن يضعه حيث أمره؛ لينال رضوان الرب ومغفرته، ولا يعزب عنك وأنت في لجة التفكير والتقدير الإخلاص، ولا خير في عمل لا إخلاص فيه، وعليك بقرابتك ذوي الحاجة؛ ليكون رفدك صدقة وصلة، ولا بد أن تدرك أيها المحب، أن إخراج المال ثقيل على النفوس، ولكن بسؤال الله أن يقيك شح النفس؛ تسلم بإذن الله من غائلته، وتنال بذلك الفلاح والنجاح؛ وبهذا ندرك فقه ذلك الرجل الصالح الذي ما كان يزيد في طوافه عن قوله: اللهم قني شح نفسي؛ لأن العاقبة، â `tBur s-qム£xä© ¾ÏmÅ¡øÿtR šÍ´¯»s9'ré'sù ãNèd šcqßsÎ=øÿßJø9$# ÇÒÈ á [ الحشر : 9].
والخطاب القرآني بالإنفاق أيها الجمع الكريم، جاء شاملاً لكل ذي جدة؛ فلا تحرموا أنفسكم من فضل الله سبحانه وتعالى، والتعرضِ لنفحاته، وذلك بالإنفاق ولو بالقليل من المال، $ والصدقة تطفئ غضب الرب، وتقي مصارع السوء #، وكلنا يجد ما ينفق؛ لعلنا نفوز بدعوة ملك مقرب كريم من الرب الجواد الكريم : $اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً#، والله أسأل أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شح أنفسنا.
ونحن نوصي أيها الجمع الكريم، بهذه القربات، نريد بذلك مبادرة هذه الأيام الفاضلة؛ أيام شهر رمضان المبارك، حيث لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وبدأنا نعالج غصص فراقه، وهي فرقة مؤلمة لمن ألف فعل الطاعات وترك المنكرات، حتى أضحت هجيراه في ليله ونهاره، نسأل الله لنا وله الثبات على ذلك حتى الممات، ومن كان دون ذلك مقصراً؛ فنقول له: مادامت الروح تتردد ، والنفَس يدخل ويخرج، والأيام الفاضلة الزاكية بين يديك؛ فثمة فسحة، وثم وقت للرجوع للرب الجليل التواب الرحيم، والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية :، ولا ريب أن من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى، فاحرص، فربما تكون المغفرة لك في آخر ساعة من هذا الشهر، وعندها تكون من السعداء. حقاً ..
أيها الجمع الكريم، إن وداع هذا الشهر، يبعث في النفوس كوامن الحزن، ولكنها سنة الله بانتهاء كل شيء، فالله كتب لكل شيء نهاية، حتى أنت أيها الإنسان لك نهاية، ولك أجل لا تستأخر عنه ساعةً ولا تستقدم، ولكن مما يجبر مصابَ الإنسان بفقد شهرِه شهر رمضان المبارك، أن الأعمال التي تشرع في هذا الشهر: من صيام، وقيام، وأنواع الطاعات مشروعة طيلة العام، ولكنها تريد منك حزماً وعزماً، ونية صادقة .. ورب الشهور واحد سبحانه وتعالى، قريب منك: متى طلبته وجدته، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء.. من انطرح بين يديه كان به حفياً، ومن التجأ إليه كان به رضياً، والموفق من أدام القرع لبابه، والمحروم من حجب عنه فلم يلذ بعتباته، ولم يطلب النوال من جنابه ..
ونحن على مشارف هذا الشهر الكريم مودعين أيها الجمع الكريم، يجدر بنا ألا نبرح مكاننا هذا، حتى نعوج على أمر ذي نسب وسبب بالشهر الكريم، بل مسماه مشقوق من مبناه، ذلكم أيها الجمع، زكاة الفطر من رمضان، التي شرعت في نهاية شهر رمضان الكريم : طهرة للصائمين من اللغو الرفث، وطعمة للمسكين، وهي واجبة على من وجدها فاضلة عن قوته وقوت أهله ليلة العيد، والأصل في وجوبها قول الحق تبارك وتعالى: â ô‰s% yxn=øùr& `tB 4’ª1t“s? ÇÊÍÈ tx.sŒur zOó™$# ¾ÏmÎn/u‘ 4’©?|Ásù ÇÊÎÈ á[ الأعلى : 14، 15 ]، وقولُ ابن عمرم: $ فرض رسول الله ج زكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة #، والحديث مروي في صحيح البخاري، وللصائم أن يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين، وأهل زكاة الفطر هم الفقراء والمساكين، ولا تصرف لغيرهم من أهل الزكاة الثمانية، ومقدارها : صاع بالصاع النبوي عن كل أحد، ومقدار الصاع بالمقاييس المحدثة كيلوان ومئة وستة وسبعون جراماً، ولا يجزئ إخراجها نقداً، وهو قول الجمهور؛ سئل الإمام أحمد: عن إخراج المال، قال: أخاف ألا يجزئه، فقالوا: إن الخليفة عمر بن عبدالعزيز: يرى إخراج المال؟ فقال: اتباع السنة أولى، نقول: قال رسول الله ج، ويقولون: قال فلان! وإخراجها نقداً يخرجها عن كونها شعرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية، وفي ذلك تغييب لمعلم من معالم الدين، وشعيرة من شعائر الصيام .
إنك أيها المحب، عندما تنظر في تتابع الفرائض في هذا الشهر الكريم، بين صيام وقيام وإنفاق، تدرك سر الدعاء من الملك الكريم جبريل والتأمين من قبل الأمين محمد ج على من أدرك هذا الشهر فلم يغفر له، لا ريب أن من اكتنفه صيام وقيام وإنفاق، في أيام وليال مباركات، ولم يستروح قلبه عبقها، ويكتسي فؤاده طهرها، لا إخاله إلا قد تودع منه، وكان حرياً بما أصابه من دعاء هذين الصالحين، والله نسأل أن يجعلنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم، وألا يجعل فينا ولا منا ولامعنا شقياً ولا محروماً.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله ، كما يجب علينا من حمده وتعظيمه ، ونشكره على إحسانه وتكريمه . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ المحذر من نزغات الشيطان وتوهيمه ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليماً .
وبعد:
فيأيها الأحبة في الله، يقول الحبيب ج : $ العبوا بني أرفده ؛ حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة ؛ إني بعثت بحنيفية سمحة # ، فقائل هذه الكلمات كما علمتم من قال الله عنه: â y7¯RÎ)ur 4’n?yès9 @,è=äz 5OŠÏàtã ÇÍÈ á [ القلم : 4]، وقال عن قيله : â $tBur ß,ÏÜZtƒ Ç`tã #“uqolù;$# ÇÌÈ á [ النجم : 3 ]، لكن ربما غاب عنكم ملابسات هذا القول، ودوافعه، ولكن إذا أدركتم ذلك، لا ريب أنكم ستزدادون حباً لهذا النبي الكريم ج ، وبتعاليمه تمسكاً ولزوماً، وهذا سيأخذ بكم إلى اطراح سلوك الجفاة الغلاة، الذين لا يوجد في قواميسهم سوى المنع والتثريب، والآصار والأغلال، التي أخذت بخناق الناس؛ فلم تجعل لهم متنفساً .. وهؤلاء بفعلهم قد نقلوا الناس من دائرة المباح إلى غائلة الوزر الصراح، والخير كل الخير في اتباع الهدي النبوي، وها نحن نلوذ به في هذه العجالة؛ لعلنا نقف على ما اختلفنا فيه من الحق، وليكن من خلال الحديث النبوي الذي ذكرت بعضاً منه في صدر هذه الخطبة.. لنعش تداعياته؛ لتروا عظم خلق هذا النبي الكريم ج ، وقبل سرد الحديث أو قفكم على بني رفدة .. من هم؟ وما الذي صنعوه؟ فبنو رفدة أيها الأحبة، هم أهل الحبشة، وهذا لقب لهم، وكان من أمرهم ما قصه علينا أصحاب الصحاح في أسفارهم ، وهو أنه في يوم عيد كان النبي ج يقاسم زوجته عائشة بهجة العيد في بيتها ، ويعيش معها فرحته؛ إذ سمع جلبة وهزيجاً ؛ فإذا هم الأحباش قد دخلوا ساحة المسجد ومعهم حرابهم، وجعلوا يرقصون في المسجد على طريقتهم ، ويهزجون بلغتهم، وكان موقفاً طريفاً ومبهجاً؛ فأقبل النبي ج على زوجه عائشة ونادها : يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم ؟ قالت : نعم ، وددت أني أراهم ، فوقف لها رسول الله ج على باب حجرته ، وجاءت هي من ورائه ، فوضعت ذقنها على كتفه ، وألصقت خدها بخده، وألقى عليها رداءه يسترها به ، وهي تنظر إلى لعب الحبشة ، والنبي ج ينظر معها إليهم ، ويغريهم بمزيد من الحماس في استعراضهم قائلاً : دونكم بني أرفدة ، وازداد حماسهم بهذه اللفتة النبوية ؛ فتكلموا بكلام لم يفهمه عنهم ، فقيل له : يقولون : محمد عبد صالح بأبي هو وأمي ج، وبينما هم كذلك إذ دخل عمر س المسجد ، فرأى مشهداً لم يعهده، فسارع إلى الإنكار ، وأهوى بيده إلى حصباء المسجد يرميهم بها مستنكراً فعلهم ذلك في ساحة مسجد رسول الله ج ، فقال له الرسول ج : دعهم يا عمر ، فإنهم بنو أرفدة ، أي : هذا حالهم وشأنهم، ثم أقبل عليهم قائلاً : أماناً بني أرفدة ، ثم جعل يستثيرهم قائلاً : العبوا بني أرفدة؛ حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحةً ، إني بعثت بحنيفية سمحاء.
واستمر اللعب والأهازيج والاستعراض بالمهارات الحربية الحبشية بالحراب، ورسول الله ج واقف لعائشة ينتظر فراغها من الاستمتاع بالمشاهدة...
ولك أيها المحب، أن تتعجب من هذا البعد العجيب في سماحة النبي ج ، وليونته وسهولته، وتساءل أين الأمة عن سماحة هذا النبي ج ؟ لم لم ترفع بها رأساً ؟ ولم جعلت من هذا الدين آصاراً وأغلالاً ؟ بينما تكتنف جنباته المرونة والحياة ، لا أخفيكم أنه حديث لذيذ يغنيك عن التعليق؛ لتدرك البون الشاسع بين واقعنا ومنهاجه ج ، أنحن أتقى من محمد ؟! أنحن أغير من محمد؟! أنحن نحمل الهموم كما يحملها محمد ج ؟! لا وربي، بل ولا عشر معشاره ج ؛ إذن لماذا نحيد عن منهاج محمد ج ؟! ونكلف الأمة من أمرها شططاً ؟!.
انظر يا رعاك الله .. هنا احتفال ورقص، وفي يوم من أيام الله؛ إنه يوم عيد! وفي أطهر بقاع الدنيا بعد بيت الله الحرام ! إنه في مسجد رسول الله ! ويحضره خير من وطئ الثرى ! إنه رسول الله ج ، وليس ذلك وحسب، بل إنه ليشجع من يقومون بهذا ويستحثهم، وليس ذلك وحسب، بل إنه لينكر على من رام تعطيل مراسم هذا الاحتفال والرقص، ويأمره بتركهم على سجيتهم، وليس ذلك وحسب بل إنه ليترك لأهله المجال للترفيه عن أنفسهم بهذا الرقص وتلك الأهازيج ، ولا ينصرف حتى تنصرف الصديقة بنت الصديق ل؛ إنه لمشهد كريم من نبي كريم، يجلي عظمة هذا الدين وسماحته ، وعظمة هذا النبي ونبل أخلاقه ، فافرحوا أيها الأحبة في الله ، بعيدكم ما اجتنبتم معصية من أمركم بالفرح به، واجعلوا هذا الحديث العظيم نصب أعينكم في كل ما تأتون وتذرون ، واعلموا أن في ديننا فسحة، وفيه عظمة ..
والله أسأل لي ولكم مغفرة الذنوب وتكفير السيئات؛ وأن يعيد علينا رمضان أعواماً عديدة وأزمنة مديدة في حياة سعيدة..