حول شعيرة الاحتساب

ناصر محمد الأحمد
1437/07/12 - 2016/04/19 02:01AM
حول شعيرة الاحتساب
15/7/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: في وسط سوق المدينة مرَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه، فنالت أصابعه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله، فيرشده ويحذره في صورة ناصعة من الاحتساب على الغش التجاري: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟!، من غشَّ فليس مني" رواه مسلم.
وفي صورة أخرى من الاحتساب، في حماية لحق الفرد من الاعتداء ومن الظلم، يمشي في إحدى الطرقات فيرى رجلاً رافعاً سوطه يضرب خادمه فيقول له: "إعلم أبا مسعود، للهُ أقدر عليك منك عليه"، فيلتفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فيردُّ عليه: "أما لو لم تفعل للفحتك النار". رواه مسلم.
ويأتيه رجل مشرك في مكة يطلب أن يعينه على أبي جهل لمطله حقه وعدم وفائه له برد ماله، فيقوم معه وهو لا يعرفه، مع صعوبة الموقف لأجل عداوته الشديدة مع أبي جهل، فيطرق عليه بابه فيخرج وهو ممتلئ رعباً فيقول له: "أعط هذا الرجل حقه"، فيقول: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه. أخرجه ابن اسحاق.
أيها المسلمون: هذه الصور وغيرها كثير يبيِّن لنا عناية الشريعة في الحفاظ على حقوق الناس وعدم ظلمهم، أو الاعتداء على شيء من حقوقهم أو كرامتهم. وإذا كان هذا في حقوق الخلق فعناية الشريعة بحقوق الخالق أعظم، فالمقصد الأعلى من إيجاد البشرية هو تحقيق العبودية له سبحانه، وأكبر ركيزة تحقق هذه العبودية هي التناصح والتذكير والأمر والنهي، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهي المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد.
وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكَر). وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية. ولذا جعل الله خيرية هذه الأمة مرتبط بقيامها بهذه الشعيرة العظيمة، وحذر من عقوبة تركها أو التساهل فيها.
أيها المسلمون: من خلال النماذج السابقة يتبين لنا سعة مفهوم الاحتساب وتنوعه، وأهمية قيام الأخيار والمصلحين بما يقدرون عليه من ذلك، فما أحوجنا لسلوك خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم في شمولية احتسابه، والوقوف مع المظلوم حتى يأخذ حقه، ومع المعتدَى عليه حتى يُقتصَّ له، والتصدي للمفسد حتى يقف عن باطله، وعلى المنكَر حتى يزول، وعلى الغاشِّ حتى يتقن عمله.
أسأل الله أن يستعملنا في طاعته، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون: الأصل هو المخالطة والمجالسة والاجتماع، هذا هو الأصل، اجتماع أهل الإسلام واختلاطهم وتلاقيهم في المجالس والمجامع والمساجد والطرقات، هذا هو الأصل، يبذلون السلام، ويحسنون الكلام، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدلون على الخير، ويتناصحون ويزيلون الأذى عن الطريق، وينفعون ويأمرون ويُصلحون بين الاثنين.
ولما كان الاحتساب يُعنى بنشر الخير بين أفراد المجتمع وحفظهم من الفتن والمتقلبات، كان ذلك أقرب لفعل الرسل والأنبياء عليهم السلام، وقد ضَربوا صلوات الله وسلامه عليهم أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من أجل الدعوة واحتساب الأجر على الله، ولاقوا في سبيل الاحتساب والدعوة إلى الله تعالى ما لا يوصف، من الأذى القولي والفعلي والطرد والإهانة والقتل، ومع ذلك فما زال الأنبياء على دعوتهم والصبرُ عليها، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاق في سبيل الاحتساب ونشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل.
وقد علم الله تعالى أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالأمر الهين أو اليسير، بل تعترضه عقبات وصعوبات من نواحٍ متعددة. ونظراً لما يترتب على القيام بها من منافع وخيرات تعود على الفرد والجماعة في دروب الحياة جميعها، فقد بينت النصوص فضل هذه الفريضة وفضل القائمين بها، وحرَّضت على القيام بها أيما تحريض، كما حذَّرت من التقاعس عن القيام بأدائها أو معاندتها أو محاولة القيام بأي شيء يساعد على تعطيلها أو التضييق عليها أو على القائمين بها، حتى قُرنت عقاب المانعين لها بعقاب الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم).
وقد تعددت النصوص في بيان فضل القيام بهذه الفريضة، وفضل القائمين بها، وهي كثيرة وليس المقام مقام تعدادها، ويكفي هذه الفريضةَ شرفاً وفضلاً أن جعلها الله تعالى من الصفات اللصيقة التي مدح بها رسولَه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر)، كما وصف بها أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين فقال تبارك وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكَر)، ثم جاءت الآية الجامعة التي جعلت هذه الشعيرة عنواناً لخيرية هذه الأمة، فقال سبحانه وتعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر).
أيها المسلمون: إن هذه الفريضة على ما فيها من شرف وفضل وعلوِّ منـزلة، إلاّ أن هناك من يعاندها ويعمل بعكسها، فيكون من الآمرين بالمنكر بدلاً من الآمرين بالمعروف، ومن الناهين عن المعروف بدلاً من الناهين عن المنكر، وهذه حالة معكوسة وقلوب أصحابها منكوسة، لا تحب الخير أو تلتذُّ به، بل تزدريه، وتستعذب الشرور وترتاح لها، وقد قال الله تعالى في أشباههم: (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين).
لقد بينت النصوص صفة الذين يعارضون هذه الفريضة ويعاندونها فيأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ونعتَهم بالوصف الكاشف لهم المجلِّي لحقيقة إيمانهم فقال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُون). فكان الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف سمة بارزة وعلامة فارقة مميزة تدل على نفاق من اتصف بذلك رجلاً كان أو امرأة، وكان سالكاً طريق بني إسرائيل المغضوب عليهم والضالين: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون). فكان العصيان والعدوان وترك النصيحة والنهي عن المنكرات من أوصاف بني إسرائيل الذين لُعنوا بسببها على ألسنة أنبيائهم.
أيها المسلمون: لقد أدرك أعداء الأمة من خلال متابعة تاريخها وسيرتها على مرِّ الأزمان وكرِّ الدهور أن مجتمع المسلمين يكون في أمن وأمان وعفو وعافية متى ما كان عَلَم هذه الشعيرة مرفوعاً، وكذلك تكون دولتهم قوية منصورة، فهم ظاهرون على عدوهم مدة استمساكهم بها. لذلك عمل أعداء الأمة على توهين هذه الشعيرة في قلوب المسلمين عن طريق وسائل الإعلام المتعددة من مقروء ومسموع ومنظور، والتي بلغ تأثيرها بفعل التقدُّم التقني شأواً بعيداً، وراموا من خلال هذه الوسيلة إحداث تغيير جذري في العقائد والأفكار، وعاونهم في ذلك أتباع لهم وأشياع ممن رضوا بالدنية في دينهم مقابل عَرَض زائل حقير.
أيها المسلمون: وِلايةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الولايات الشرعية التي كان لها وجود حقيقي في النظام السياسي الإسلامي، لكن بمرور الأيام بدأ يضعف هذا الأمر وزاد هذا الضعف كثيراً بعد وقوع بعض دول المسلمين في قبضة الدول الكافرة زمن الاستعمار، وقد ألغيت هذه الولاية في أكثر البلاد الإسلامية إلاّ من رحم الله.
إن المحافظة على هذه الفريضة إنما هو لخيري الدنيا والآخرة، ونظرة واحدة يلقيها المرء إلى المجتمعات والدول التي أهملت أمر هذه الشعيرة كفيلة ببيان الدمار والدركات التي انحطت إليها تلك البقاع.

بارك الله ..


الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هم الأعين الساهرة والأم الرؤوم والأب العطوف، الأم الرؤوم التي يحزُّ في نفسها أن ترى أبناءها يتجرعون السم من أيدي ضعاف النفوس، ويكدّر نفسها أن تضيع زهرات أعمار شبابنا فيما لا يفيد، ويضيق صدرها وهي ترى الصلاة تقام ورجل واقف مكانه لا يتجه للمسجد، وتثير غيرتُها على الأعراض رؤيتها لبنات المسلمين بلباسهنّ المتبرج في مركز تجاري أو مطعم في وقت غير مناسب أو بلا محرم أو بلا أدب، بل بتبرج فاضح، وتثير حميتها رؤية الشباب المستهتر وتهافتهم على المعاكسات والنيل من أعراض نساء المسلمين، وتتحرك أشجانهم عندما يرون أبناء المسلمين ضحايا المسكرات والمخدرات. نعم يا عباد الله إنهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنهم أسود الحسبة، إنهم أبطال مراكز الهيئات.
يا هيئة الإرشاد وجهك مشرق والمكرمات روائحٌ وغوادي
أمر بمعروف ونهيٌ صادقٌ عن منكرٍ وتحللٍ وفسادِ
إنها هيئة التقويم والإصلاح هذه الهيئة عندما وضعت سفينة النجاة شعاراً لها لم تكن تمزح ولم تكن أهدافها فراغاً، بل كانت وما زالت كالقائد الذي يقود دفة الأمة إلى بر النجاة وأكرم به من بر، وشاطئ الأمان وأعظم به من شاطئ، حيث الأعراض مُصانة، والخمور مراقة، والمعاكس يُنصح، والأمن مستَتِبّ. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أمسكوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" رواه البخاري.
إسألوا أيها المسلمون من وقع في أيديهم من الفتيات وهنّ على حالة منكرة كيف انتشلوهنّ من بحور الظلمات؟ كيف صانوا أعراضهنّ؟ كيف أنقذوهنّ من براثن الكلاب المسعورة التي لا ترحم؟. لم يكن مَنْعُهنّ من التبرج في الأسواق تعدياً على حريتهنّ الشخصية أو تحكماً بهنّ، بل صيانة لهنّ وحفاظاً عليهنّ.
واسألوا الشباب كم تائبٍ تاب على أيديهم؟ وكم ضائع اهتدى بسببهم بعد الله؟ وكم حائر أخذوا بيده إلى الطريق القويم؟ كم مدمن للخمر انتشلوه حفاظاً على دينه وصحته؟ وكم من تارك للصلاة أرجعوه إلى دائرة الدين؟ كم من معاكس أوقفوه عند حده ومنعوه من اللعب بأعراض الناس؟ وكم من متشبه قوّموه وأرشدوه؟ كم من فرد كان على شفا الوقوع في الفاحشة والهاوية ووجدَ رجال الهيئة يبصّرونه بما ينفعه ويحذّرونه مما يضره؟ كم مروج للأشرطة الفاضحة والسموم المهلكة وقع في أيديهم فمنعوا شره عن المسلمين؟ كم وكم.
ألا ترونهم في الأسواق وفي أماكن التجمعات آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر؟ أهم ينتظرون مكافأة أو جزاءً؟ تكفيهم المكافأة التي وعدهم بها الله سبحانه: (وأولئك هم المفلحون) والمكافأة التي وعدهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً".
يا خيرنا يا ذخرنا يا فخرنا
حقٌ عليَّ بمثلكم أن أفخرا
كم من فتاةٍ قد حفظتم عرضها
توصونها باللين أن تتسترا
كم غافلٍ أرشدتموه إلى الهدى
إذ عاد من بعد الضلالة مُبصراً
هذه هي الهيئة وهؤلاء هم رجالها، الرجال الأبطال والجنود المجهولون، الذين واصلوا سهر الليل بكلل النهار، وأبت عليهم هموم الأمة ومصائب المجتمع وحراسة الفضيلة التمتع بما يتمتع به غيرهم من إجازات صيفية، وسياحة برية، ورحلات صيديه، بل وصلوات رمضانية وتهجدات ليلية، قلوبهم تتقطع حسرة وهم يرون الوفود تتجه في العشر الأواخر من رمضان إلى بيوت الله مصلّية عاكفة داعية وهم يجوبون الأسواق والمجمعات يحفظون أعراض المسلمين.
أيها المسلمون: وحتى تعلموا فضل جهاز الهيئة وجهودها الجبارة في المحافظة على أمن المجتمع وسلامة أعراض الناس وأديانهم إليكم بعض الأرقام وهي لعام واحد فقط: بلغت عدد القضايا التي يتعلق بالتخلف عن صلاة الجماعة والتأخر في إغلاق المحلات التجارية بعد الأذان، والإفطار في نهار رمضان والقمار أكثر من مائتين وثمانية وثلاثين ألف قضية. كل هذا في عام واحد. كم يحتاج هذا الجهد من وقت ورجال لولا فضل الله تعالى ثم هذه الجهود المخلصة؟.
أما القضايا الأخلاقية وتشمل بيوت الدعارة، وعمل قوم لوط، ومحاولة اغتصاب الأحداث، والزنى، ومعاكسات النساء، والخلوة المحرمة، وملاحقة ما يسمى بالجنس الثالث ومظاهره، فقد بلغ عددها أكثر من إحدى وأربعين ألف حالة ضبطت من قبل رجال الهيئة.
فضلاً عن قضايا المسكرات، وتشمل المسكر وحيازته وترويجه وتصنيعه والتعاون على الترويج والتصنيع وشم الروائح المسكرة. وقضايا المطبوعات وتشمل الصور الخليعة والصور المجسمة، ومطبوعات الأفكار الهدامة، والأشرطة الجنسية. ناهيك عن قضايا المخدرات وتشمل استعمالها أو حيازتها أو ترويجها أو التعاون على ذلك، كل هذه القضايا ضبطت بالآلاف.
هذا جزء يسير من جهود الهيئة، ويحق لنا أن نتساءل: كم يا ترى عدد الذين عملوا كل هذه الأعمال الجليلة وحققوا هذه الإنجازات الباهرة وكفّوا المجتمع من شرور كانت ستحصل، ومفاسد كادت تقع؟ ستستغرب لو أخبرتك بأن عدد أعضاء الهيئة أقل من ثلاثة آلاف في كل أنحاء البلاد المترامية، بإمكانيات محدودة جداً. ومع كل هذا استطاعوا أن يحققوا بفضل الله تعالى هذا الإنجاز الضخم، بسبب أنهم يعملون بصمت وإخلاص ويحملون هموم المجتمع ووقتهم متاح للجميع ولكل من يستنجد بهم.
أيها المسلمون: ومع هذا كله فإننا لا ندعي لهم العصمة، ولا ننفي الخطأ عنهم فالخطأ طبيعة ابن آدم، لكن لا سواء بين خطيئة مصر ومستكبر، وبين خطأ غير مقصود وقع سهواً وعفواً من مجتهد أقل أحواله أنه مأجور على خطأه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو على خطأه من أكثر الناس تحسراً وأسفاً، والوقوع في الخطأ حصل لأكمل جيل وأفضل رعيل، ومع ذلك قابلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المربي الأعظم بالصفح والعفو بل والاستغفار والاعتذار.
ألم يُسرِّب حاطب بن أبي بلتعة سراً من أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية الحربية إلى أعداءه. فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابة رضي الله عنهم به بطشاً وقتلاً واتهموه بالنفاق قال: "اتركوه إنه قد شهد بدراً". وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان في سيفه شيء من الرهق من شدة غيرته، فقتل أنفساً مسلمة لا تستحق القتل، ومع ذلك دافع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الأصوات المطالبة بعزله واعتذر له ولم يجرده من ألقابه، ولم يسلبه وسام سيف الله المسلول، ولم يعزله عن القيادة، علماً أن رجال الهيئة لم يتعرضوا لأحد بقتل، وإنما تعرضوا هم للقتل.
يا رب زلزل من يريد بجمعهم سوءاً وشُلَّ يمينه والمنخرا
هم للورى ركبُ النجاةِ تقدَّماً وبدونهم تمضي الركاب إلى الورا
أيها المحتسبون من رجال الهيئة: اصبروا وصابروا ورابطوا، واحتسبوا الأجر عند الله، فحسبكم دعوة أمٍّ لكم بالسداد بعد أن أنقذتم ابنتها من غائلة الانحلال، ودعوة أب أنقذتم ابنه من براثن الفساد، ودعوات أسرة سرتم بأبيهم إلى بر النجاة وأنقذتموه من التشرد والضياع، فكنتم وما زلتم كالأب الذي يتابع أبناءه فيقوّم من يخطىء، ويرشد من ينحرف، وكالأم التي يؤلمها أن يصيب فلذات أبنائها الشر.

اللهم ..
المشاهدات 1367 | التعليقات 0