حوار هادىء و انصات باهر

د عبدالعزيز التويجري
1443/08/07 - 2022/03/10 16:08PM
الخطبة الأولى: حوار هادئ وانصات باهر       18/8/ 1443ه
الحمد لله ذي العزة والجلال، غافر الذنب وقابلِ التوب شديد المِحال، وأشهد أن لا إله إلا الله أولاً وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ }
 عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْه، قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا، فَقَالُوا: من يَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي قَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَعَابَ دِينِنَا، فَيُكَلِّمْهُ! فَأَتَاهُ عُتْبَةُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ!: أَمَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا  أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْكَ، فَرَّقْتَ شَمْلَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، فإِنْ كَنتَ تريد مالا، جَمَعْنَا لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ وَإِنْ كَانَت  إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ، فَاخْتَرْ من نِسَاءِ قُرَيْشٍ ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : أَفَرَغْتَ يا أبا الوليد ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فاسمع مني فقرأ {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فأَنْصَتَ عُتْبَةُ وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْتَمِعُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغَ  {إن أعرضوا فقل أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَقال حَسْبُكَ، حَسْبُكَ،انشدك الرَّحِمَ إلا كففت، فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي وَاللهِ قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَاللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا السِّحْرِ وَلَا الْكِهَانَةِ. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي. خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ." . أخرجه الحاكم والبيهقي.
حوار هادئ وانصات باهر  نتج عنه تغيير للمفاهيم المغلوطه  والعقول النكوسة .
حوار في أعظم قضية، في توحيد الألوهية، ونقاش في أعمق تبيان، في بيان معنى الإسلام .. يتم الاقناع في كيفية إدارة الموقف وتحويله من استكبار إلى إذعان بإسلوب راق وحوار هادئ ..
مِنْ كُلِّ لَفْظٍ بَلِيغٍ راقَ جَوْهَرُهُ    **    كأنُهُ السَّيْفُ ماضِ وَهْوَ مَصْقُولُ
لم تبقِ ذكراً لذي نُطقٍ فصاحتهُ    **   وهل تضيءُ مع الشمسِ القناديلُ ؟
شُبه تُرمى وقذف وبهتان .. ثم يُفند ذلك في روعة إنصات، وحسن استماع حتى ينتهي المهرج من الهُراء ليجابه سيد البلغاء بكلمات عظيمات أصغت معها الحواس، فاهتدى العقل الحيران، واقتنع القلب بالاسلام .. إقناع في أعظم اسلوب  ..
حوار لكنه ليس في تنازل عن مبادئ الإسلام، حوار وإقناع لكن بالحجج والبراهين العظام ..
لاتنازل بل بيان وتبيان للإسلام ، الاستماع والانصات ليس معناه القبول والاذعان، وإنما احتواء، حتى إذا اذعنت الحواس وظنت أنها انتصرت أتتها الآيات الباهرات، والحجج الدامغات .. لتكسر القناعات التي ضلت وأظلت ..
أخرج الإمام مسلم في صحيحه أَنَّ ضِمَادًا الأزدي قَدِمَ مَكَّةَ ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ r ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، ثم قال: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ..
    تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ... تبارك الله منشي الدرّ في الكلم
المشاريع الكبار لا تحتاج إلى مهاترات ومجادلات .. الحق والعدل يظهر بحوار هادئ واعراض عن الجاهلين .
الإنصات والاستماع من شيم العظماء .. وكسب القلوب وتقبل الرسالة تظهر مع فن الاحتواء .
يدخل عليه الصلاة والسلام بيته يحمل هم الأمة بمشاكلها وإدارتها وترتيب شؤونها ، أمامه رسالة تعجز السماوات عن حملها .. وخلفه أعداء يتربصون به الدوائر .. فيجلس إلى زجته فتستفتح زوجته حديثها بقصص وأخبار ترويها زوجات عن تعامل أزواجهن، فتقص عائشة الصديقة أخبارهن على المعصوم ..فتقول كما في الصحيحين "جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا. فتسردُ أخبارهن واحدة تلو الأخرى، ورسول الله r مصغٍ يستمع حتى إذا وبلغت عائشةُ مسك الختام مع إم زرع، قالت، فقَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ r : «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ»
    نبـــيٌّ زكــيٌّ أريحـــيٌّ مهــــــــــــــــذبٌ   **    شريفٌ منيفٌ سِرْبهُ غيُر مهملِ
هذا هو سر القبول والرضى  الاستماع والاحتواء ..
تُثار مهاترات ومجادلات والنتيجة خصام ومفارقات ، لأن عنصر الانصات والاستماع وفهم المراد مفقود ..
يفترى على الشريعة الغراء، ويتهم حملتها، ويتقول على الله بلا علم .. لأن متقولها لم يقتطع من وقته لسماع الحق الناصع بلا تشويش، ولم يدرك سر التشريع برضى وتسليم .. (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ )
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات ..
 
الخطبة الثانية ..الحمدلله وكفى وسمع الله لمن دعا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله المصطفى أما بعد ..
وخير الاستماع واوجبه ما كان لله وآياته ورسوله {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} متى ما استمعوا آيات الله تذكروا، واتعظوا وازدجروا، قال ابن عطية: " كأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر.. هذه هي صفات المؤمنين ينصتون لآيات الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجوب بيوت الصحابة يستمع لآي القرآن، حين تصدح بها بيوتهم.. مر ببيت أبي موسى وهو يقرأ القرآن فجلس يستمع  وقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا مُوسَى، لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ".
 ومر ببيت أبي بكر وعمر ، فلما أصبح قال لأَبِي بَكْرٍ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ وَأَنْتَ تَخْفِضُ مِنْ صَوْتِكَ، فَقَالَ: ارْفَعْ قَلِيلاً، وَقَالَ لِعُمَرَ: مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ وَأَنْتَ تَرْفَعُ صَوْتَكَ. أخرجه أهل السنن.
ما أجمل البيوت وأهناها وأسعدها حين يكون القرآن صداها ، وما اتعس وأشقى بيوت يكون مزمار الشيطان يعلوا جنباتها ..
وإذا غلب الران على القلب اشمئز القلب، وضاق الصدر من سماع الحق والانصات له، فضلاً عن قبوله والاذعان له ، وهذه وربي آفة الاعراض عن دين الله والاستماع لآياته {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
وجماع الامر وختام المسك في وصية الله لنا (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
فاللهم أتم علينا نعمك ورزقنا علما وعملا وإيما وثباتا .. اللهم صل وسلم ..
المرفقات

1646928494_حوار هادئ وانصات باهر.docx

1646928499_حوار هادئ وانصات باهر.pdf

المشاهدات 1046 | التعليقات 0