حلق الشعر بين الرجل والمرأة

د. محمود بن أحمد الدوسري
1438/12/15 - 2017/09/06 18:48PM

سلسلة "وليس الذكر كالأنثى" (1)

حلق الشَّعر بين الرجل والمرأة

د. محمود بن أحمد الدوسري

6/1/1438

      أيها الإخوة الكرام .. قال الله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36], هذه الآية الكريمة هي سنة كونية من سنن الله تعالى, فقد حَكَم الله تعالى وقضى أن الذكر ليس كالأنثى, فهذا عنوان السلسلة المباركة, أمَّا فصولها؛ فكثيرة ومتنوعة, فالاختلاف بين الذكر والأنثى واسع ومتشعب, وهذا الاختلاف من أجل التمايز والتعايش والتكامل وليس من أجل التنافر بينهما, وهذه سلسلة بعنوان هذه الآية الكريمة: "وليس الذكر كالأنثى" نطرح فيها مسائل وقضايا تخص الرجل والمرأة؛ تطبيقاً وتفصيلاً للآية الكريمة, على حد قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12], ونبدأها اليوم بمسألة حلق الشعر.

      فالرجل يجوز له - ابتداءً - أن يحلق شعر رأسه، وليس ذلك بمكروه، وهو مذهب الجمهور، إذا لم يكن قصده من الحلق التشبه بالخوارج في سيماهم. وتربيةُ الشَّعر وإطالتُه وإكرامُه أفضلُ من حلقه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَعَلَ ذلك، والاقتداء به أفضل، وهذا هو مذهب الشَّافعية، وأحمد في أصحِّ الرِّوايتين، وهو اختيار الشَّوكاني(1).

       أيها الأحبة .. الله تبارك وتعالى كَرَّم الإنسان، ونهاه عن كلِّ ما فيه مُثْلَةٌ أو تشويه، بل دعاه إلى أن يكون نظيفاً، ويتجمَّل بكلِّ ما هو مباح، من دون تغييرٍ لِخَلْقِ الله تعالى، أو انتهاكٍ لحرمته, ولمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ شَعْرِهِ، وَتُرِكَ بَعْضُهُ، نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ، أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ» (2). قال النَّووي رحمه الله: «قال أصحابنا: حَلْق الرَّأس جائز بكلِّ حالٍ، لكن إنْ شقَّ عليه تعهُّده بالدَّهن والتَّسريح اسْتُحِبَّ حَلْقُه، وإن لم يَشُقَّ اسْتُحِبَّ تركُه»(3).

      معشر الشباب .. إنَّ إطالة الشَّعر ثابتةٌ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كانت له أَرْبَعُ غَدَائِرَ، أي: ضفائر, وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعهَّده ويدَّهنه بالزَّيت. وإنَّ ما نراه اليوم من إطالة بعض الشَّباب لشعرهم زاعمين أنَّهم في ذلك يتَّبعون سنَّة نبيِّهم؛ فهذا نوع من الخداع والتَّدليس؛ إذْ يجب على مَنْ أراد أن يُطيل شعره اقتداءً بسنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يُطبِّق السُّنَّة كاملة بإطالة الشَّعر وإطلاق اللِّحية معاً، وألاَّ يفعل ما يخالف السُّنَّة من نمصٍ وترقيق للحواجب، وألاَّ يُبالغَ في التَّجمُّل والتَّزيُّن لدرجة تصل إلى التَّشبُّه بالنِّساء، وأن يُراعيَ البيئة التي يوجد فيها، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجتمعٍ لا يستهجن هذا الفعل، ومعلوم أنَّ إطالة الشَّعر مستهجنة في بعض المجتمعات، بل يُعتبر رمزاً على التَّخنُّث أو الشُّذوذ.

      معشر الفضلاء .. أما شعر المرأة فهو يختلف عن شعر الرَّجل؛ حيث إنَّها مُطالبةٌ بالعناية بشعرها؛ لأنَّه زينةٌ لها تُطلب منها، بل الشَّعر للمرأة من أهمِّ الخصال التي تُبرز جمالَها، وتُرغِّب الرَّجل فيها؛ لذا نجد كثيراً من الشُّعراء يصفونه بأوصافٍ عديدة تدلّ على أهميَّته للمرأة.

      وإنْ سأل سائل: ما حكم ما يفعله بعض الشباب من حلق بعض الرأس وترك بعضه؟

      عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقَزَعِ). قَالَ قُلْتُ لِنَافِعٍ: وَمَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ) (4). إذاً؛ القزع هو حلق بعض الرأس وترك بعضه، سمي قزعاً تشبيهاً بقزع السحاب إذا كان قطعاً متفرقة في السماء، فيكون أخذ بعض الرأس وترك بعضه مثل قطع السحاب؛ لأنه أخذ بعضه وترك بعضه.

      والقزع ليس خاصاً بالحلق، بل يكون أيضاً بتخفيف بعض الأجزاء من الشعر دون بعض, وأما حلق بعض الرأس للحاجة؛ كالحجامة, فهذا لا بأس به؛ لأن ذلك المكان أُزيل من أجل الحجامة، وكذلك لو أزيل من أجل مرض؛ كقروح أو جروح مثلاً, وأريد إزالة ما حوله لمعالجته وعدم اتصال الشعر به، فلا بأس بذلك(5). قال النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة, إلاَّ أن يكون لمداواةٍ ونحوِها... ومذهبُنا كراهته مطلقاً للرجل والمرأة) (6).

      والسؤال هنا: ما علة النهي عن القزع؟

      السبب في النهي عن القزع: أنه تشويه للخلق, وقيل: إنه زي أهل الشرك,  وقيل: إنه زي اليهود(7).

      والقزع أنواع – كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (وهو أنواع:

1- أن يحلِقَ غير مرتِّب، فيحلقُ من الجانب الأيمن، ومن الجانب الأيسر، ومن النَّاصية، ومن القَفَا.

2- أن يحلقَ وسطَه ويترك جانبيه.

3- أن يحلقَ جوانبه ويتركَ وسطه، قال ابن القيم رحمه الله: «كما يفعله السُّفَل»(8).

4- أن يحلقَ النَّاصيةَ فقط ويتركَ الباقي... وعلى هذا فإذا؛ رأينا شخصاً قَزَّع رأسه فإِننا نأمره بحلق رأسه كلِّه، ثم يُؤمر بعد ذلك إِمَّا بحلقهِ كلِّه أو تركه كلِّه) (9).

      عباد الله .. ذهب بعض العلماء السابقين القول بكراهية القزع دون تحريمه, لكن هؤلاء قيَّدوه بعد التشبه بالكفار, ولكنَّ الواقع اليوم يُخرِجه من الكراهية إلى التحريم؛ حيث تتحقق فيه علَّة التحريم؛ من تغيير خلق الله تعالى, ومن التشبه بالكفار في عاداتهم وأخلاقهم وتصرفاتهم(10).

      وفي سؤال وجه للجنة الدائمة:

      س: ما حكم من ترك بعض شعر الرأس أطول من بعض (التواليت)؟

      فممَّا أجابت به اللجنة: (قال في شرح الإقناع: فيدخل في القزع حلق مواضع من جوانب الرأس, أو أن يحلق وسطه ويترك جوانبه؛ كما تفعله عامة النصارى، أو حلق جوانبه وترك وسطه؛ كما يفعله كثير من السفهاء، وأن يحلق مقدمه ويترك مؤخره، وسئل أحمد عن حلق القفا فقال: "هو من فعل المجوس, ومن تشبه بقوم فهو منهم". وبهذا يُعلم أنه لا يجوز ترك بعض شعر الرأس أطول من بعض) (11).

      أيها المسلمون .. والشعر في البدن - عموماً - ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: ما أمرت الشريعة بتركه، ونهى عن الأخذ منه.

الثاني: ما أمرت الشريعة بأخذه.

الثالث: ما سكتت عنه الشريعة، فلم تأمر بأخذه ولم تنه عنه. فما أمر الشريعة بتركه؛ كاللحية والحاجبين، فلا يؤخذ منه شيء. وما أمرت بأخذه، فيزال أو يؤخذ منه بقدر ما ورد الشرع به؛ مثل الإبط والعانة، والشارب للرجل. وما سُكِتَ عنه فإنه عفو؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ, وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِى كِتَابِهِ, وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(12). ويدخل في ذلك: شعر الأنف والصدر والساقين والساعدين(13).

     اللهم بارك لنا في الكتاب والسنة, وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

      الحمد لله ...

     أما بالنسبة لحلق رأس المرأة فله ثلاثة أحوال:

      الأوَّل: حَلْقُه عند المصيبة: فلا خلاف في حرمته؛ لما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ(14)، والحَالِقَةِ(15)، والشَّاقَّةِ(16)» (17). فكل هذا مُحَرَّم لما فيه من الجزع والاعتراض على القضاء والقدر.

      الثَّاني: حَلْقُه لضرورةٍ من مرضٍ ونحوه: الضَّرورات تُبيح المحظورات، وهو محلُّ اتِّفاقٍ، فلا ضرر ولا ضرار.

     الثَّالث: حلقه بعد حجٍ أو عمرةٍ، أو بدون ضرورة: لم يختلف أهل العلم في منع النِّساء من الحَلْق عند التحلل من النسك, ولكن منهم: مَنْ يُحرِّم ذلك, ومنهم: مَنْ يقول بالكراهة. وقال بحرمة حلقه بعض المالكيَّة والشَّافعية والحنابلة, وهو الرَّاجح(18).

      واستدلوا: بما جاء عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليْسَ عَلَى النِّسَاءِ الحَلْقُ، إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ»(19). فنفى الحلقَ عن النِّساء، وأثبتَ لهنَّ التَّقصير؛ مع أنَّه صلّى الله عليه وسلّم دعا للمحلِّقين - بالرَّحمة والمغفرة - ثلاثاً في النُّسك، إلاَّ أنَّه نهى النِّساء عن الحلق، ممَّا يُؤكِّد أنَّ المرأة لا يجوز لها الحلق في النُّسك، وفي غيره من باب أولى، إلاَّ لضرورة من مرضٍ ونحوه.

      قال ابن حجر رحمه الله: «كما يحرم على المرأة الزِّيادة في شعر رأسها، يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة»(20).

   وعن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»(21). وجه الدَّلالة: تحريم حلق المرأة شعر رأسها؛ لأنَّه يُخرجها إلى التَّشبُّه بالرِّجال، وهو مُثْلَةٌ في حقِّها, فكيف بالتَّشبه بالكافرات اللاَّئي يحلقن شعر رؤوسهن كالرجال, فالحرمة أشد وأفظع وأغلظ, ومن تشبَّه بقوم فهو منهم.

     كما أنَّ حَلْق المرأة شعر رأسها أمَرٌ مخالف للفطرة، بل يدعو إلى اشمئزاز زوجها منها، وربَّما كراهيتها، ممَّا يهدِّد العلاقة الزَّوجية بينهما، والإسلام حريص على الحفاظ على جوِّ الألفة والمودَّة بين الرَّجل وزوجه؛ لذا يتَّخذ من التَّدابير والأسباب ما يحفظ هذه الألفة بينهما.

ــــــــــــ

 (1) انظر: المجموع (1/295)؛ المغني (1/89)؛ نيل الأوطار (1/126).

(2) صحيح - رواه أبو داود,  (4/83)، (ح4195).

(3) صحيح مسلم بشرح النووي, (7/167).

(4) رواه البخاري, (3/1217), (ح5983)؛ ومسلم, واللفظ له, (2/925), (ح5681).

(5) انظر: شرح سنن أبي داود, للشيخ عبد المحسن العباد (23/341).

(6) شرح النووي على مسلم, (14/101).

(7) انظر: الديباج على مسلم, (5/158).

(8) تحفة المودود بأحكام المولود, (ص 59).

(9) الشرح الممتع على زاد المستقنع, (1/167).

(10) انظر: شرح النووي على مسلم, (14/101).

(11) فتاوى اللجنة الدائمة, المجموعة الأولى(5/176), السؤال الخامس من الفتوى (رقم 667).

(12) حسن – رواه الترمذي, (1/460), (ح1830).

(13) انظر: موقع الإسلام سؤال وجواب, (5/7732).

(14) (الصَّالقة): بالصَّاد والسِّين لغتان، وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة.

(15) (الحالقة): هي التي تحلق شعرها عند المصيبة.

(16) (الشَّاقَّة): هي التي تشقُّ ثوبها عند المصيبة. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (2/110).

(17) رواه البخاري، (1/386)، (ح1296)؛ ومسلم، (1/100)، (ح104).

(18) انظر: الخرشي على خليل (2/335)؛ الفواكه الدواني (2/401)؛ الإنصاف (1/123).

(19) صحيح - رواه أبو داود (2/203)، (ح1984).

(20) فتح الباري, (10/375).

(21) رواه البخاري، (4/1873)، (ح5885).

 

المشاهدات 2885 | التعليقات 0