حلف الفضول والهبة الشعبية

د مراد باخريصة
1435/02/16 - 2013/12/19 06:24AM
حلف الفضول والهبة الشعبية
في السنة الخامسة عشر من عمر النبي صلى الله عليه وسلم وقعت حرب قوية ومعركة عنيفة بين قريش ومن حالفها من قبائل العرب وبين كنانة ومن حالفها من القبائل العربية.
كانت حرب ضروس ومعركة مستعرة انتهكت فيها الحرمات وديست فيها الأعراف والاتفاقيات ووطئت فيها القوانين والمعاهدات حتى سميت هذه الحرب بحرب الفجار بسبب فجورهم فيها وانتهاكهم لحرمة الحرم واستمرار القتال في الأشهر الحرم.
بعد وقوع هذه الحرب الدامية واستمرار نزيف الدم وانتهاك الحرم تداعت القبائل من كل مكان لوقف هذا العدوان وإيقاف هذه الانتهاكات ووضع حد لهذه الخروقات فتداعى بنوهاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم وغيرهم وغيرهم من قبائل العرب ورجالها واجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي لأنه كان ذو نسب وشرف فيهم.
في هذا الاجتماع العظيم تداولت القبائل أمر الحرب وشأن الوضع الدائر في مكة يومئذ فتعاهدوا في ذلك الاجتماع واتفقوا على اتفاقيات عظيمة وأجمعوا على نقاط مهمة كانت نبراساً لهم وخطوطاً عريضة لمن جاء بعدهم ودستوراً واضحاً لهم ولغيرهم.
وقد حضر هذا الحلف وذلك الاتفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ممن شهد هذا الاجتماع العظيم والاتفاق الكبير وكان عمره يؤمئذ حوالي خمسة عشر عاماً.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه الله بالرسالة وبعد مرور أكثر من خمسة وعشرين عاماً على حضوره لذلك الحلف يقول عليه الصلاة والسلام " لَقَدْ شَهِدْتُ فِى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِى الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ ".
لقد اتفقت القبائل العربية الأصيلة في ذلك الاجتماع الحاشد على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.
عباد الله: لم تكن حرب الفجار وحدها هي التي دعت القبائل إلى عقد ذلك الاتفاق وإبرام هذا الاجتماع وإنما هي سلسلة أحداث وعدة وقائع فجرت مشاعر الناس وهزت كيانهم وجعلتهم يشعرون بضرورة توحيد المواقف ورص الصفوف وجمع الكلمة وإزالة الظلم عن المظلومين.
لقد حدث حدثٌ خطير هو الذي فجّر الشرارة وحرك المياه الراكدة وجعل الناس يجمعون على إزالة الباطل ورفع الظلم أتدرون ماذا حدث؟
لقد جاء رجل من اليمن من منطقة زبيد فقدم إلى مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي وأخذ منه الحمولة كاملة ولكنه لم يعطه مقابلها شيئاً وماطله في الثمن وحبس عنه حقه ..
بل ولم يكتفي بهذا الظلم والمنع وإنما استعدى عليه الأحلاف والأوباش من بني عبدالدار وسهم وبني مخزوم ليثنوه عن الوصول إلى حقه ويحولوا بينه وبين المطالبة بثمن بضاعته ..
وعندما أحس الرجل بأذيتهم له ووقوفهم ضده ذهب إلى قبائل قريش الأخرى يستعين بهم عليهم علّهم أن يكفوا هؤلاء الأوباش والسفهاء عن حربه وأذيته وإلحاق الضرر به
ولكن القبائل تخاذلت عنه ولم تأبه به ولم تلتفت إلى كلامه وتركته يشكو حاله لنفسه فلما يئس منهم وعرف أنه لا سبيل له إلى ماله وقبض ثمن بضاعته فما كان من هذا الرجل اليمني المظلوم المغلوب على أمره إلا أن صعد على جبل من جبال مكة الشاهقة يسمى جبل أبي قيس فنادى بصوته كله بأشعار يصف فيها الظلم الواقع عليه ويرفع بهذه الأبيات صوته وهو يقول:
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومِ بِضَاعَتُهُ ... بِبَطْنِ مَكّةَ نَائِي الدّارِ وَالنّفَرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ ... يَا لَلرّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
أقائم من بني سهم بِذِمَّتِهِمْ ... أم ذَاهِب فِي ضلال مَال مُعْتَمر
إنّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمّتْ كَرَامَتُهُ ... وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ
فلما سمع الناس هذه الأبيات المؤثرة تداعوا إلى هذا الرجل فجاء إليه الزبير بن عبد المطلب ثم اجتمع الناس عليه واحداً تلو الآخر فلما سمعوا شكوى الزبيدي واستمعوا إلى المظلمة الواقعة عليه جاءوا كلهم إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي نزعاً
وعلى إثر هذا تداعوا لحلف الفضول وأبرموا هذا الاتفاق العظيم والحلف الكبير الذي أشتهر في التاريخ وسمي بحلف الفضول.
عباد الله: إن هذا الحدث التاريخي العظيم يفيدنا ويعلمنا أن الأمور لا تُستفحل والأحداث لا تنفجر إلا بعد فصول من المعاناة وسنوات من القهر وسلسلة طويلة من الصفعات وأحداث عريضة من المآسي والمكابدات فيأتي حدث فيفجر الشرارة ويؤزم الموقف ويشعل النار وهذا ما حدث هنا في حضرموت بالأخص وفي الجنوب بشكل خاص وفي اليمن كله بشكل عام.
حدثت مظالم عظيمة ونهب كبير استبيحت الأراضي العامة وبسط بعض المتنفذين نفوذهم على كثير من الممتلكات والأراضي العامة بل والخاصة وفرضوا أنفسهم عليها بالقوة وسرح عشرات الألاف من الموظفين والعاملين من مهامهم ووظائفهم وأعطوا رواتب زهيدة لا تكفي لحاجتهم وحاجة أسرهم وعوائلهم
وهيمنت بعض القوى المتنفذة على المناصب القيادية المهمة وتم الاستيلاء على كثير من الثروات النفطية والمعدنية والسمكية وذهبت إلى جيوب قلة قليلة وعصابة مقيتة استأثرت بكل شيء وأغرقت البلاد بسيول جارفة من المفسدات والمخدرات والقات وتفشى الفساد في معظم أجزاء الدولة ومفاصلها واستشرى الفقر والتدهور الاقتصادي والحرمان بين معظم الناس ووصل البلد إلى حافة المجاعة وهاوية الفقر وهمشت المرافق الحيوية كالموانئ والمطارات وغيرها في كثير من المحافظات الجنوبية.
وقبل هذا كله غيب الدين ونحي بعد أن استبشر الناس خيراً بتطبيقه بعد الوحدة
هذه المظالم كلها كان العقلاء والعلماء والوجهاء والخطباء ينصحون أهل الشأن فيها ويتكلمون معهم بخصوصها سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً ولكنهم لا يرعوون ولا يستمعون ولا يحبون الناصحين.
فدب اليأس في النفوس وبدأ الناس يتكتلون تحت شعارات مختلفة لرفع هذا الظلم والعدوان ثم حدث مؤخراً الانفلات الأمني والقتل المستمر والاستهداف المتكرر ثم جاء الحدث الأخير بمقتل رئيس اتحاد قبائل حضرموت فكانت شرارة الانطلاقة وبداية التأزم خاصة وأن الناس جميعاً شعروا أنه استهداف لهم كلهم وليس استهداف لشخص هذا الرجل أو لقبيلته فقط لأنه يشغل منصب رئيس مجلس اتحاد قبائل حضرموت كلها.
وعلى إثر هذا اجتمع الناس واحتشدت كل القبائل في حضرموت بل ومن غير أهل حضرموت ورأوا أنه لابد من إيقاف هذا المسلسل الإجرامي والعدوان المستمر على البلد وأهله وثرواته وخرجوا من الاجتماع باتفاقيات مباركة باركها الكل واستحسنها الجميع وأيدتهم عليها كل الفصائل والأحزاب والقوى والشخصيات والوجهاء والعلماء والجهات الرسمية وغير الرسمية فكان الاجتماع أشبه ما يكون بحلف الفضول.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة : 105].
وقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة : 2]. للمزيد ...
المشاهدات 1683 | التعليقات 0