حلب .. وأصحاب الأخدود

المهذب المهذب
1438/03/17 - 2016/12/16 03:26AM


غلام الأخدود 17/3/1438هـ (مستفادة من أكثر من خطبة)
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة المؤمنون.. يا من تفطّرت قلوبكم كمداً وحزناً على مصاب إخوانكم في حلب وبلادِ الشام، تعالوا نَرِد بقلوبنا على كلامِ الله تعالى، على قصّةً من قَصَص القرآن؛ نتربى على دروسها، ونتعزّى بعِبَرها وعظاتها.. نعيش في هذه الجمعة مع قصةِ غلامٍ من أهل نَجْرَانَ، آمَنَ بِعيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَجْرَى اللهُ عَلَى يَدَيْهِ الكَرَامَاتِ، وَرَزَقَهُ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ إِلَى المَمَاتِ، غلامٌ صدع بِالحَقِّ، فكان سَبَباً فِي إِيمَانِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ، أَحْرَقَ مَلِكٌ طَاغِيَةٌ رِجَالَهَا وَأَطْفَالَهَا وَنِسَاءَهَا بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، أَشَارَ القُرْآنُ إِلَى قصتهم فِي سُورَةِ البُرُوجِ، ورواها الإمام مسلمٌ في صحيحه عن صهيبٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِك: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلاَماً فَطِناً لَقِناً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فإني أخاف أن أموت فينقطعَ منكم هذا العلم، ولا يكونُ فيكم من يَعْلَمُه, فَبَعَثَ الملك إِلَيْهِ غُلاَماً يُعَلِّمُهُ فَكَانَ في طَرِيقِه إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ الغلام إلى الراهب وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ؛ لأنه تأخر عليه.
فَشَكَا الغلام ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ لَهُ: إِذَا قَالَ لَكَ الْساحر أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْ: عِنْدَ أَهْلِي. وَإِذَا قَالَ لَكَ أَهْلُكَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَأَخِبِرْهُمْ أَنَّكَ كُنْتَ عِنْدَ الساحر". والكذب مشروع عند الحاجة إليه للنجاة من كيد الكافرين.
قال: فَبَيْنَمَا الغلام بين الساحر والراهب إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟". التبس الحق على الغلام وحصل عنده شك وتردد ففزع إلى الله تعالى يسأله أن يبين له وجه الصواب.
فَأَخَذَ حَجَرًا وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ. ثم أتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ خبر الدابة، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَي بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى". قالها الأستاذ تواضعاً لتلميذه واعترافاً بفضله عليه. "قال: وقَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَي. علم الراهب أن كلَّ من صدع بالحق فأمر بمعروف أو نهى عن المنكر فلا بد أن يبتلى ولذلك قال للغلام: إِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَي". لا يريد الراهب أن يعرّض نفسه للفتنة ويخاف أن لا يصبر على البلاء وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا".
قال: وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ به جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ وقَالَ: مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي. فَقَالَ الغلام: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ". لقد أدرك الغلام أن جليس الملك يعاني عمىً هو أعظمُ من عمى العين، فلم يعطه دواء الجسم إلا بعد أن وصف له دواء الروح، وما قيمة شفاء الأبدان إذا كانت القلوب مريضة.
قال: فآمن جليسُ الملك بالله فشفاه الله، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي. قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟. قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَه الملكُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَي بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ. فَقَالَ الغلام: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ. فَأَخَذَهُ الملك فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِنشَارِ فَوَضَعَ الْمِنشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. إنه الثبات على الحق مهما كلف الأمر، عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، والتنازل عن الدين تنازل عن جنة عرضها السموات والأرض، عَنْ خَبَّاب بن الأرت قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرْ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ".
أيها الإخوة المؤمنون: حين أبى الراهبُ وجليسُ الملك أن يعودا في الكفر بعد إذ نجاهما الله منه- أمر الملكُ الطاغية بوَضع الْمِنشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِ كل واحد منهما فَشَقَّ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، قال عليه الصلاة والسلام: ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ الملك إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا. وَجَاءَ الغلام يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ - في سفينة صغيرة- فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.
فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ الغلام يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
غلام صغير ليس له حول ولا قوة، أمام ملك طاغية جبّار يحاول قتله مرتين فلا يستطيع، لماذا؟ لأن الله تعالى وحدَه هو النافعُ الضارّ، هو المحيي المميت، له الخلق والأمر، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الحكيم العليم، وهو الخبير البصير.
ثم قَالَ الغلام لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ الملكُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَ الغلامَ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ الغلام يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ!.
الله أكبر، انتصر التوحيد وظهر، وانهزم الشرك واندحر، وتبين للناس أن طاغية نجران ليس رباً وليس إلهاً، بل هو عبدٌ مثلهم، فلو كان رباً لقتل الغلام، ولكنه عبد مثلُهم لم يستطع قتل الغلام حتى استعان بالله فقال: بسم الله رب الغلام.. فضج الناس لما رأوا ذلك قائلين: آمنا برب الغلام. آمنا برب الغلام.
أيها الإخوة: لقد قُتِل الغلامُ وبقي الملك. في موازين البشر: انتصر الملك الطاغية، وخسر الغلام الداعية، وفي ميزان الله أن الغلام هو الذي انتصر، هو الذي فاز، ولهذا كان الصحابي يُقتَل في سبيل الله فيقول وهو يلفظ أنفاسه: فُزْتُ وربِّ الكعبة!. هذا هو الفوز هذا هو الانتصار، أن تثبت على الحق حتى تلقى الله، أن يخيّر الرجل بين الموت وبين لا إله إلا الله فيختار لا إله إلا الله، ومِن أجل الله يختارُ الموت والتشريدَ والعذاب، على الأمنِ والراحةِ والحياةِ في دعةٍ وسلام... ضحَّى غلام الأخدود من أجل الدين من أجل العقيدة من أجل لا إله إلا الله، فتأثر بتضحيته أُلوف مؤلفة من قومه، فآمنوا بربهم بعد كفرهم، قال صلى الله عليه وسلم: وأُتِيَ الْمَلِكُ: فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاس.
غضب طاغية نجران من إيمان الناس وحاول منعهم بسياسة التخويف والتهديد، فامتنعوا وأصروا على إيمانهم وتوحيدهم رغم ألوان التضييق والتعذيب والتنكيل الذي لا يُطاق، ودخلت الفئة المؤمنة المستضعفة معركتها مع الطغيان، سلاحها الإيمان، وغايتها رضا الرحمن، يقينها: فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، أما الطاغية فقد اختار طريق التصفية الجسدية، والإبادة الجماعية، فخدّ الأخاديد، وأضرمها ناراً، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، حتى أحرق أمة كاملة في خنادق من نارٍ برجالهم ونسائهم وأطفالهم، وقد كانوا قبل ذلك يتعايشون معهم في أرض واحدة، ووطن وواحد، وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر، وما نقموا منهم إلا خصلة واحدةً يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد، هذه هي جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.
مشاهد تنفطر منها القلوب، تعذيب بشع شنيع، وطاغية نجران وجندُه قد بلغ بهم التجبر وقساوة القلب أنهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها، ينظرون إلى احتراق أجسادهم في لذة وسرور، لم تُحرِّكهم مناظرُ البكاء، ولا توسلات الضعفاء، ولا نحيب الأطفال والنساء، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا حتى إذا وقفت على شفير الحفرة والنار تضطرم فيها، تكعكعت، لا خوفا من النار، ولكن رحمة بطفلها الرضيع، فينطق الله الطفل ليقول لأمه مؤيداً ومثبّتا: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ!. { قتل أصحاب الأخدود،النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} الحميد، الحميد، المستحق للحمد في كل حال، له الحمد على كل ما قضى وقدّر {الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد} لا يجري شيءٍ في الكون إلا بقضائه وقدره، سمع آهات المظلومين، سمع أنات المكلومين، سمع حنين الخائفين الوجلين، سمع ذلك كله وشهد عليه، ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرّفها لهم.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فيا أيها المؤمنون: إِنْ كَانت قصة طاغية نجران قَد وَقَعَت قَبْلَ خَمْسَةَ عَشَرَ قَرْنًا أو تزيد؛ فَإِنَّ خليفتَه طاغيةَ الشام يكتب قصته الآن، يحرِّق المؤمنين في حلب بالقنابل وقاذفات اللهب، إباداتٌ جماعية، أجسادٌ ممزقة، وجُثَث محرَّقة، فما أشبه طغيان النصيرية المشاهَد بطغيان أصحاب الأخدود: {أتواصوا به بل هم قوم طاغون}. {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} إن الدنيا ليست دارَ جزاء، ولكنها دارُ عملٍ وابتلاء وتمحيص للمؤمنين، وقد يعجّل الله لبعض الظالمين العقوبة في الدنيا كما فعل مع قوم نوح وعاد وثمود، وقد يمهلهم ويذرهم يأكلون ويتمتعون ويبطشون ويظلمون، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون، قال تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد. متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد}.
في قصة أصحاب الأخدود هلك المؤمنون فلم ينج منهم أحد، وأمهل الظالمون فلم يُهْلَك منهم في الدنيا أحد، فلم يذكر لنا ربنا تبارك وتعالى أن عقوبةً دنيوية قد حلت بأصحاب الأخدود، فهل انتهت القصة عند هذا الحد؟ لا والله. فلها عند الله تتمة: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} وأين حريقٌ من حريق؟ في شدته أو في مدته! حريقٌ الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! حريق الدنيا لحظاتٌ وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} ذلك الفوز الكبير، ذلك الفوز الكبير، وإن أصابهم في سبيل الله ما أصابهم، فإن الموت نهايةُ كل حي، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، ويخفّف عن الشهيد والله أعلمُ بمن يموت في سبيله فلا يجد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة.. وإننا على يقين من ربنا أنه سبحانه أرحمُ بإخواننا المستضعفين منا، وأن غضبه على عدوهم أشدُّ من غضبنا، وأنه سبحانه لن يتخلى عن المظلومين ولن يهمل الظالمين، فَلُوْذُوا بِاللهِ الْعَظِيمِ، اسْتِغَاثَةً لإِخْوَانِكُمْ، وَدُعَاءً لَهُمْ، ولا تعجزوا عما أوجب الله عليكم من النصرة بقدر المستطاع، تَحَرَّوْا أَوْقَاتَ الْإِجَابَةِ، وَأَلِحُّوا عَلَى الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ أَعْظَمُ نُصْرَةٍ تُقَدِّمُونَهَا لإخوانكم، ولن يخيب سبحانه من دعاه ورجاه: اللهم ربنا عز جارك وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، سبحانك وبحمدك، لا يرد أمرك ولا يهزم جندك، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.. اللهم عليك بطاغية الشام وجنده وأعوانه، اللهم عليك بالطغاة الظالمين، اللهم اجمع عليهم نكال الدنيا والآخرة، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شروهم، اللهم اكفناهم بما شئت يا قوي يا عزيز، اللهم انزل عليهم رجزك وغضبك ولعنتك وعذابك إله الحق، اللهم اشدد عليهم وطأتك وارفع عنهم عافيتك، وفرق جمعهم وشتت شملهم وخالف بين قلوبهم واجعل بأسهم بينهم ومزقهم كل ممزق، اللهم لا ترفع لهم راية ولا تحقق لهم غاية واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين الله أنزل عليهم من الصبر والثبات والإيمان أضعاف ما نزل لهم من البلاء اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف اللهم احقن دماءهم واشف مرضاهم وعاف جرحاهم وتقبل شهداءهم اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية.. اللهم ألف بينهم، واجمعهم على الحق، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الكافرين.. حسبنا الله ونعم الوكيل، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.. أنت مولانا نعم المولى ونعم النصير.. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان وول عليهم خيارهم وردهم إليك ردا جميلا، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المشاهدات 1277 | التعليقات 0