حكم المعازف والغناء. الخطبة الثانية.

علي الفضلي
1431/07/22 - 2010/07/04 18:55PM
(إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله-صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون :
لقد تساهل جماهير المسلمين بهذا البلاء العظيم إمّا جهلا بحكمه ،وإما اتباعا للزائغين ،ولكن عجبا ثم عجبا ، عجبا لمن خفي عليه حكمه ،كيف خفي عليه أثره !!
يقول الله تعالى في كتابه الكريم مخاطبا الشيطان وحزبه:
{واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورَجِلِك}.
هذه الآية فسّرها كثير من السلف بالغناء ،فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد-رحمه الله تعالى- أنه قال : صوته-أي:الشيطان- الغناء والباطل ،وروى عنه –أي:مجاهد- أنه قال: صوته المزامير.
قال ابن القيم-رحمه الله تعالى-في (إغاثة اللهفان) :
(ولا ريب أنّ من أعظم أصوات الشيطان التي يستفز بها النفوس ويزعجها ويقلقها ، وهو ضد القرآن الذي تطمئن به القلوب ، وتَسْكُنُ وتُخْبِت إلى ربها ،فصوت القرآن يُسْكن النفوس ويُطمْئنُها ويُوَقّرها ، وصوت الغناء يسْتَفزها ويزعجها ويهيجها...)اهـ ج1 ص446
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى- :
(فَالْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِوُقُوعِ الْفَوَاحِشِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ فِي غَايَةِ الْعِفَّةِ وَالْحُرِّيَّةِ حَتَّى يَحْضُرَهُ فَتَنْحَلُّ نَفْسُهُ وَتَسْهُلُ عَلَيْهِ الْفَاحِشَةُ وَيَمِيلُ لَهَا فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا بِهِ أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ شَارِبِي الْخَمْرِ وَأَكْثَرُ )اهـ ج10 ص118.
ولذا عمّ فساده وطم ، فتبلد الشعور ، وماتت الفضيلة ، ودُفنت الغيرة ، نعم دفنت الغيرة ، فأصبحت ترى الأخ أو الأب أو الزوج! يدخل غرفة ابنته أو أخته أو زوجته! ، ويرى صور الفسّاق المخنثين المطربين معلقة في خزائنِ ملابسهن!! ، ولا تتحرك غيرته!! ولا يحرك ساكنا ، والله إنه بلاء ما بعده بلاء ، بل بلغ السيل الزبى ، وأنت ترى الزوج يرى امرأته حليلته! تطبع القبلات على وجه الفاسق الماجن ، وتأخذه في الأحضان ، وهو لا يحرك ساكنا ، غيرته قد لفظت أنفاسها ، وأشبه شيء به هو الخنزير ، الذي ينزو على أنثاه أيُّ ذكر جاء!!
يقول عليه الصلاة والسلام : "" لا يدخل الجنة ديوث"" ، نعم إنها دياثة ما بعدها دياثة .
نزل الحُطَيئةُ - الشاعر المعروف - برجل من العرب ، ومع الحطيئة ابنته مُلَيكة ، فلما جنّه الليل سمع غناء ، فقال لصاحب المنزل : كفّ هذا عني ! ، فقال : وما تكره من ذلك؟!
فقال : إن الغناء رائد من رادة الفجور ، ولا أحب أن تسمعه هذه!! - يعني ابنته- فإن كففته وإلا خرجت منك!.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في " إغاثة اللهفان " :
( فإذا كان هذا الشاعر المفتوق اللسان ، الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء! ، وأن تصل رقيته إلى حرمته ، فما الظن بغيره؟!!
ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء ، كما يجنبهن أسباب الرِّيَب، ومن طَرّقَ أهله إلى سماع رقية الزنى فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه،ومن الأمر المعلوم عند القوم : أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين : من جهة الصوت ومن جهة معناه ولهذا قال النبي-صلى الله عليه وسلم- لأنجشة حاديه :
(يا أنجشة! رويدا؛ رفقا بالقوارير).
يعني النساء .
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر ،فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء!.
فلعمر الله ، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان أو الصبايا! وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا! وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا! وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا!
وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا! وكم جرّع من غُصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة! وذلك منه من إحدى العطايا! وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة!
فسل ذا خبرة ينبيك عنه ... لتعلم كم خبايا في الزوايا
وحاذر إن شغفت به سهاما ... مريَّشَة بأهداب المنايا
إذا ما خالَطَتْ قلبا كئيبا ... تمزق بين أطباق الرزايا
ويصبح بعد أن قد كان حرا ...عفيف الفرج:عبدا للصبايا
ويُعْطي مَن به يُعْنى غناءً ... وذلك منه من شر العطايا
....)اهـ.
وأما السنة النبوية في تحريم المعازف والغناء ،فالأحاديث فيها كثيرة ،منها :
أنّ النبي –صلى الله عليه وسلم – سمّى الغناء صوتا أحمقَ فاجرا ، فقد أخرج الحاكم وغيره-بسند حسنه لغيره الألباني- عن جابر بن عبد الله عن عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إني لم أنه عن البكاء ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نِعْمة: لهو ولعب ومزامير الشيطان؛ وصوت عند مصيبة: لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القيّم (الاستقامة):
((هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء كما في اللفظ المشهور عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
( إنما نُهيت عن صوتين أحمقين فاجرين:
صوت عند نعمة : لهو ولعب ومزامير الشيطان؛
وصوت عند مصيبة: لطم خدود وشق جيوب ودعوى بدعوى الجاهلية).
فنهى عن الصوت الذي يُفعل عند النعمة، كما نهى عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة.
والصوت الذي عند النعمة هو صوت الغناء)اهـ ج1 ص292،293
ومن الأحاديث الدالة على حرمة المعازف حديث عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- الذي أخرجه أبو داود والبيهقي وأحمد وغيرهم قال –رضي الله عنه-:
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- :
(إنّ الله حرّم عليّ-أو حرّم- الخمر والميسر ،والكُوبة ؛وكل مسكر حرام).والكوبة:الطبل.
وأما كلام الـأئمة المتبوعين في حرمة المعازف والغناء فكثير ومستفيض ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في رده على الرافضي ابن المطهر في كذبه على الأئمة الأربعة:
(فيقال له: هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ؛ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف، بل يحرم عندهم اتخاذها.
وهل يضمن المادة على قولين مشهورين لهم "...." وأما الغناء المجرد فمحرم عن أبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وعنهما أنه مكروه.
وذهبت طائفة من أصحاب أحمد إلى أن الغناء المجرد مباح. فإن كان هذا القول حقا فلا ضرر، وإن كان باطلا فجمهور أهل السنة على التحريم، فلم يخرج الحق عن أهل السنة)اهـ من منهاج السنة.
قال العلامة الألوسي-رحمه الله تعالى- ناقلا عن أبي حنيفة-رحمه الله تعالى- :
(إنّ الغناء حرام في جميع الأديان)اهـ.
وفي كنز الدقائق من كتب الأحناف:
(وَنَقَلَ الْبَزَّازِيُّ فِي "الْمَنَاقِبِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ الْغِنَاءِ إذَا كَانَ عَلَى آلَةٍ كَالْعُودِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِهَا فَقَدْ عَلِمْت الِاخْتِلَافَ وَلَمْ يُصَرِّحْ الشَّارِحُونَ بِالْمَذْهَبِ، وَفِي الْبِنَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: التَّغَنِّي لِلَّهْوِ مَعْصِيَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)اهـ.
وفي مجمع الضمانات من كتب الحنفية قال:
(...فَإِنَّهَا-أي: المعازف- كَبِيرَةٌ فِي الْأَدْيَانِ كلها)اهـ.
وأما الإمام مالك ،فقد أخرج الخلال عن إسحاق بن عيسى الطباع قال :
(سألت مالك بن أنس عمّا يترخص فيه أهل المدينة من الغناء ،فقال:
(إنما يفعله عندنا الفُسّاق)اهـ.
وفي "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" من كتب المالكية:
(( قَوْلُهُ : وَأَنَّ الْمَعَازِفَ حَرَامٌ ) أَيْ فِي الْعُرْسِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا فِيهِ وَلِمَنْ قَالَ بِجَوَازِهَا فِيهِ ( قَوْلُهُ : كَالْجَمِيعِ ) أَيْ الدُّفِّ وَالْكَبَرِ وَالْمَعَازِفِ أَيْ كَمَا يَحْرُمُ الْجَمِيعُ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الدُّفَّ وَالْكَبَرَ فِي النِّكَاحِ فِيهِمَا قَوْلَانِ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ ، وَفِي الْمَعَازِفِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ ، وَهُوَ أَرْجَحُهَا فَتَكُونُ إجَارَتُهَا فِي النِّكَاحِ حَرَامًا ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَالْحُرْمَةُ فِي الْجَمِيعِ قَوْلًا وَاحِدًا)اهـ.
وأما الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى- فقد خرّج أبو نعيم في الحلية وغيرُه أنه قال :
(تركت بالعراق شيئا يقال له: التغبير! أحدثته الزنادقة ،يصدون الناس عن القرآن)اهـ.
وفي "روضة الطالبين" من كتب الشافعية:
(..أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب: كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار، يحرم استعماله واستماعه)اهـ.
وأما الإمام أحمد ،فقد أخرج الخلّال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
سألت أبي عن الغناء ،فقال:
(الغناء ينبت النِّفاق في القلب ،لا يعجبني)اهـ.
وفي الكافي من كتب الحنابلة :
(فصل في الملاهي:
وهي نوعان: محرم وهي: الآلات المطربة من غير غناء كالمزمار ؛ وسواء كان من عود أو قصب : كالشبابة أو غيره: كالطنبور والعود والمعزفة "......"
النوع الثاني: مباح وهو: الدف في النكاح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف".
رواه الترمذي وابن ماجه...)اهـ.
فهؤلاء أربعة من أبرز علماء المسلمين حَكَوْا تحريم سماع آلات الطرب والمعازف والغناء؛
فماذا بعد الحق إلا الضلال.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المشاهدات 4981 | التعليقات 0