حق الجار
الخطيب المفوه
1432/10/18 - 2011/09/16 07:37AM
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبد العزيز الدريهم .
الجمعة 18 / 10 / 1432 هـ
أما بعدُ :
فأيها الأحبةُ في الله ، لو فتشنا في منظومة الإسلام ؛ لوجدناها منظومةً مكتملة ، لا يكاد يعزب عنها شيء ، مهما كان دقيقاً أو جليلاً ، ومن ذلك ما ينظِّم للناس حياتهم ، ويضبط للناس حراكهم الاجتماعي ، وكل ذلك في دقةٍ عالية وتفصيلٍ بديع، ويعزز من ذلك الترغيبُ والترهيب ، فهو دافعه إذا تلكَّأَت النفوس عن الاستسلام له .
فهم ذلك الصحابة وأخبتوا له ، واطمأنت له قلوبهم ووعته عقولهم ، حتى قال قائلهم : ما مات رسول الله r وطائر يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علماً ، وكل ذلك من لدن الحكيم العليم ، ويتناعم مع قول الحق سبحانه وتعالى : « وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى » ..
والنفوس المؤمنة تستحضر تلك القيم وتلك الشعائر ، وتتفاعل معها إذا ذكرتها أو ذُكِّرَت بها ، وإذا بعدت أو شطت تلك المعالم ؛ فإن الناس غالباً ما يكون حراكهم ذا نشاز تعتريه الأنانية ، وتحكمه المصالح الذاتية أو الاجتهادات المتهورة ، وكلُّها لا تأتي بخير ، بل تكرس القطيعة في المجتمع وتؤسسُ للتدابر ، ولا خيرَ في مجتمع فقد وشيجة التعاطف والتآزر .
ومن الأمور التي أرى أنها في حاجة إلى إعادة الطرح والولوجِ إلى رحبتها هنا حقوق الجار ، نعم ، أيها الأحبة في الله ، الجار ، حيث بدأ هذا الحق يعروه الضيم من قبل كثير من الناس ، وبدت سراياه تنتقل من الآباء إلى الأبناء ، ويُخَيَّل إليَّ أن لو طال العهد بنا لكان الجيل الثالث في وضع من السوء تُجاه الجار كبير ؛ لذا فنحن لا بدَّ أن نلتفت إلى هذا الحق ونُعززَ من شأنه في النفوس ؛ لعلها تكتسب بهذه الموعظة حصانة تسلك بها سبل الصلاح والإصلاح ، ومن ثَمَّ النجاحُ والفلاحُ دنيا وأخرى..
فالجار مسلماً كان أو غير مسلم ، لا يؤذى جاره ، وإن بدرت منه الأذية ، ولا يُسَاءُ إليه وإن أساء أوتعدى ، بل يُوَاجَهُ ويقابل بالحسنة ، ويسدى إليه المعروف ، وهذا وإن كان صعباً وثقيلاً على بعض النفوس ، ولكنه خلقُ الإسلام ومنهاجُ رسول الإسلام r ، فقد كان r يُؤْذَى ومن جيرانه فما كان يزيدُ عن الصفح والعفو، ويدفع السيئة بالحسنة ، وهو القادر ـ ولو شاء ـ على الانتقام ، ولكنَّه كان ينظر لما هو أعلى وهو ثواب الله والذكرُ الحسنُ وتصحيحُ المسار عند من آذى ، وقد كان له ذلك ، فها هو نبيكم r له جار يهودي لا يترك سانحة لأذية النبي r إلا واهتبلها ، ففقد النبي r الأذية ؛ فَسَأَل ، فَأُخبِر بأنَّ اليهودي في مرضٍ ربما لا يبرأ منه ، فهبَّ النبي r لزيارته ودعوته ، فأنقذه الله به من النار ، وكل ذلك أثر من آثار السمت الحسن والخلق العظيم ، وذلك مسطر في الكتاب العزيز . يقول ربكم ذو الجلال والإكرام : « ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم » ، وكلٌّ أيها الجمع الكريم ، يرغب في سلوك هذا السبيل، ولكن لا يسطيعه إلا ذوو الصبر وذوو المكانة العليَّة من الله الحكيم « وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم » ، قد تستبد بك النفس ، ويَغْلِبُكَ الشَّيْطَانُ على نفسك ، فلا تمض في غيك بل استعذ من الشيطان ، وبادر بالرجوع ، وستجد من ربك العفو والمغفرة « وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم » .
أين موقفُ النبيِّ الكريم r خَيرِ البشرية من هذا اليهودي المؤذي ، من موقف ذلك المسلم من أخيه المسلم ، حيث جَاءَه هاشاً بشاً مسلماً عليه ، ومباركاً له بالعيد ، فما كان منه إلاَّ أن كف يده مُعْرِضاً عنه ؛ إنه لا مقارنة ، فذاك يُكْتَب في مكارم الأخلاق ، وذا يسطر في سفاسف الجهالات ، حيث لا الدينُ منه ، ولا المروءةُ ذات صلة به ، وليكن ما دعاك لذلك سبب من الأسباب ، فإنه وإن عَظُم لا يجعلك تَلوِي عن صاحبك ، ولا تعرضُ عنه ، فكيف إذا كان سبباً لا يدَ له فيه ، بل ربما اكتوى بضرره كما اكتويت ، وهنا العتب ، وهنا التثريب ، وكيف توارى الحلم بعد العلم ، ولا أحسن هنا مِنَ اعتذار يجب تلك الإحن ويزيل تلك المكدرات ، فلست بخير من محمد ، وليس هو بشر من ذلك اليهودي ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام .
أيها المحب ، وأنت تعالج وعورة الطريق وسبيلَ المسير إلى خالقك في هذه الدنيا ، لا تؤذي جارك ، ولا تلحق بجارك الموبقات ، فالأمر وإن ظننته فليس باليسر ، بل ربما أتى على مكنون النفوس من الإيمان ، ولا خيرَ في قلب خلى من نور اليقين ، فنبيُّك محمدٌ r نفى الإيمان عمن ألحق بجاره الضيمَ والخُذْلان ، فقال r : « والله لا يؤمن والله لايؤمن والله لا يؤمن ، قيل من يا رسول الله ،؟ قال : من لا يأمن جاره بوائقه » ، فهل بعد هذا فسحة ؟ وهل بعد ذاك مُطْمَأَنٌ لمن سام الجارَ سيم الخسف أو ألحق به المهانة، فالأمر جد خطير ومؤذن بعذاب وبيل ، فيا من آذى جاره تب إلى ربك ، والتمس الصفح ممن آذيت وآنيت قبل ألا يكون ثمة مستعتب ، واعلم أن الجار كلما قرب كلما عظُم حقه ، واعلم أن الوصية بالجار لا زالت تَرِدُ على النبي الأكرم r تباعاً على لسان الأمين جبريل ، حتى لقد ظن الخليل محمد r أن الرب سيجعل للجار نصيباً من ميراث جاره . يقول حبيبي وحبيبكم r : « ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه » ، فهل بعد ذلك ما يجعل الإنسان المؤمن لا يقيم لجاره شأناً ، أو ينتقص شيئاً من حقه ، لا أظن ذلك ، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد ..
وهنا قصة تروى ، ولي رغبة في أن أشنف الأسماع منكم بها ، لعلها تنال منكم موعظةً وذكرى : روت كتب التراجم أن الإمام الجِهبذ عبدالله ابن المبارك رحمه الله وهو من سادات التابعين ، كان له جارٌ يهودي ، وهذا اليهودي أصابته آفة استأصلت ماله ، فاضطر إلى بيع بيته ، فعرضه فبلغت قيمته عشرين ألف درهم ، فلما حان التسليم ، قال اليهودي : هذه الدراهم قيمة البيت فأين قيمة جاري ابنِ المبارك ، فمثله في فضله لن تجد ، وذلك لحسن جوار ابن المبارك رحمه الله ، فسمع ابن المبارك بذلك ، فاشترى البيت ووهبه لذلك اليهودي ، فكان سبباً في إسلامه ، فانظر كيف يعلي حسن الجوار من قيمة العقار وأصحابِ العقار ، وكيف أن ذلك سببٌ لعمارة الدنيا والآخرة ؛ فأحسنوا يا أمة خير الجيران لجيرانكم ، وأحسنوا النيات منكم ، وعندها ستنالون حظكم وافراً ..
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الحمد ُلله على آلائه، وصلـواتُه على محمَّدٍ خاتمِ أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بَعدُ :
فيا أيها الأحبة في الله ، لقد كانت لديَّ رَغبةٌ في الأسبوع المنصرم في الحديث عن الدراسة ، وكان الحديثُ حينذاك موجَّهاً للمعلمين والتلاميذ ، لكني صرفتُ النَّظَرَ وأرجأت ذلك لهذا الأسبوع ؛ للتخفيف من بعض الضغوط عن الطلاب ، وذلك مرعي في علم النفوس .
فيا أيها المعلم ، تذكر أنك انبريت لمهمة الأنبياء والمرسلين ؛ تعليماً وتهذيباً ، فلتكن عِدَّتُك في هذه المهمة الشاقة النيةَ الحسنةَ والإخلاصَ ، وليكن رائدك العملَ والجدَّ والمثابرةَ ؛ فأنت إن جمعت ذلك أُعِنْتَ وَسُدِّدت وتبوأت من الله الرضا ومن الناس الثناءَ الحسن ، ولا تزال ما راعيت ذلك في رفعة وتدرجٍ في سلم الوصول الدنيوي والأخروي ، وعليك وأنت تعالج أمر التدريس والتهذيبِ بالرفق والحلم ، ولتجعل من أمامك من الطلاب بمنزلة الأبناء ، ولن ترضى لبنيك إلا الخيرَ والصَّلاحَ ، ولتتذكر أن الله خلق الناس مختلفين في عقولهم وأفهامهم ؛ فأعط كل ذي حق حقه من التدريس والتسديد والمتابعة ، وخلال ذلك سل الله التوفيق وأن يجعلك على صراط مستقيم ، وإذا علم الله صدق النية أعان .
أما أنت أيها الطالبُ ، فأنت عدةُ الأمة ومستقبلُها ، فهي إن أرجعت البصر أو كررت ؛ فأمنياتها معقودةٌ بعدَ الله بك ، وكل آمالها في الارتقاء مصوبة نحوك ، فهي ترى فيك من يأسوا جراحَها ، ومن يعمر ما انهدم من آمالها ، وهي ترى فيك ملاذاً من طامع أو مستبد في خيراتها ، فلا تخذل تلك الآمال ؛ فإنه لا أعظمَ جرماً ممن أوضع في حطام من يرجوه ، ولتكن عدتك في النهضة الكبرى للأمة الصبرَ والجدَّ والجَلَدَ والأخذَ بعزائم الأمور، فما نيل المجد إلا بالصبر ، ولا يلقى ذلك إلا ذو حظ عظيم ، ولتتذكر أيها الطالب ، أنه ما نال من نال من مجد إلا بمعاقرة التعب ووصل كلال الليل بكلال النهار في التحصيل ، وحقٌّ على الباري ألاَّ يجمع على عبده تعبين ولا راحتين ، فمن أتعب نفسه في بدايات حياته أراحها في أخرياتها ، ومن أراحها في بداياتها أخزاها في أخرياتها ، سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلاً ، فأتعبوا أنفسكم في البدايات لتربحوا النهايات ، وعليكم وأنتم في ميدان الطلب بمراقبة ربكم ، كما أن لمدرسيكم حقاً عليكم من الاحترام والتقدير ، واعلموا أنكم إن قدرتموهم هنا قيض الله لكم من يريكم ذلك ، وإن نلتم منهم سلط الله عليكم من يبدي سوآتكم ، ولن تموت حتى ترى مغبة صنيعك جزاء وفاقاً .. والله نسأل أن يوفق أبناءنا وبناتنا ، وأن يسددهم ، وأن يأخذ بأيديهم لكل خير .