حقيقة المقصود بوسطية الإسلام
احمد ابوبكر
1436/06/04 - 2015/03/24 15:37PM
[align=justify]كثيرة هي المصطلحات الشائعة التي قد تكون في أصلها وجوهرها حق في دين الله، إلا أنها تُستخدم من قبل أعداء الإسلام وبعض الجاهلين من أتباعه استخداما يخرجها عن مضمونها المقصود في دين الله، فينقلب المصطلح الذي هو في الأصل من صميم الإسلام وجوهره، إلى سلاح يستخدم للنيل من أصول هذا الدين وثوابته.
ولعل من أكثر المصطلحات التي يكثر تدوالها في عصرنا الراهن من هذا القبيل بشكل منقطع النظير، والتي يحاول من خلالها أعداء الإسلام التسلل إلى هذا الدين باسم أحد أهم معالمه وخصائصه وصفاته، هو مصطلح "وسطية الإسلام"، حتى صدق على استخدامهم لهذا المصطلح القول: "كلمة حق أريد بها باطل".
نعم.... لقد حاول أعداء الإسلام من الغربيين وأتباعهم تشويه هذه السمة التي منَّ الله بها على هذه الأمة، وسعوا من خلالها إلى تمييع الأحكام الشرعية، من خلال الزعم بان الوسطية تعني التنازل والتساهل في تطبيق أوامر الله ونواهيه، فلا بأس بقبول ما يناقض حكما شرعيا - كحد الردة مثلا – بدعوى وسطية الإسلام، ولا حرج بممارسات شطحات الصوفية وضلالاتهم بذريعة الوسطية، بل وصل الأمر عند من يصفون أنفسهم بأنهم "دعاة الوسطية" إلى حد التساهل في الثوابت العقدية، إمعانا منهم في تشويه حقيقة وجوهر هذا المفهوم الشديد الأهمية في الإسلام.
والحقيقة أن خطر استخدام هذا المصطلح على غير حقيقته لم يقتصر على هذه الفئة من أعداء الإسلام من الغربيين الليبراليين والعلمانيين، بل تعداه إلى بعض المسلمين الجاهلين أو المخدوعين، ممن جنح إلى الغلو والتطرف في فهم دين الله تعالى، والابتعاد عن الوسطية التي تميز بها الإسلام الحنيف.
ومن هنا فإن الحاجة إلى بيان حقيقة المقصود بوسطية الإسلام تزداد، وضرورة إزالة التشويه المتعمد حوله تتأكد.
حقيقة مفهوم الوسطية في الإسلام
الوسط في اللغة العربية يأتي لمعان متعددة متقاربة في المدلول والمآل، وهي تشير بمجملها إلى أن أعدل الشيء أوسطه ووسطه، كما أن أوسط الشيء أفضله وخياره، فواسطة القلادة – الجوهر التي وسطها – هي أجودها، ورجل وسط أي حسن، ويقال (وسط) لكل ما له طرفان مذمومان، فالسخاء وسط بين البخل والتبذير، ولاشجاعة وسط بين الجبن والتهور(1).
وقد دلت النصوص الشرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام، البعيد كل البعد عن الإفراط أو التفريط، ومن ذلك قوله تعالى في وصف هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...} البقرة/143
قال الطبري في تأكيد المعنى القرآني الصحيح لهذه الوسطية: "كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا "(2).
ثم أكد هذا المعنى بقوله: "وأرى أن الله تعالى إنما وصفهم بأنهم "وسَط ": لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط، واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها"(3).
وقد أكد الشيخ عبد الرحمن السعدي هذه المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام الذي أشارت له الآية الكريمة بقوله: "أي: عدلا خيارًا. وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين:
وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود.... ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى
وفي باب الطّهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النَّجاسات...ولا كالنصارى الذين لا يُنجسّون شيئًا ولا يُحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها(4).
كما أن الشيخ الدكتور محمد ناصر العمر قد خلص في بحثه القيم "الوسطية في ضوء القرآن الكريم"، إلى نتيجة مهمة في هذا الموضوع بعد تأمل بما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب، ألا وهي:
أن مصطلح "الوسطية" لا يصح إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان: الخيرية أو ما يدل عليها كالأفضل والأعدل، والبينية سواء كانت حسية أو معنوية، فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح "الوسطية"، كما أكد أن للوسطية في الإسلام ملامح وسمات تميزها عن غيرها، وتمنع أصحاب الأهواء وأرباب الشهوات من تحريفها عن معناها ومفهومها الإسلامي الصحيح، واهم هذه الملامح: الخيرية، والاستقامة، واليسر ورفع الحرج، والبينية، والعدل والحكمة(5).
ولقد شرح شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام عقيدة وشريعة، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلو فيهم كما غلت النصارى فـ{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة/31 ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس... بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابا.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}البقرة/142، ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} التوبة/31.
والمؤمنون قالوا لله الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره وقالوا سمعنا وأطعنا فأطاعوا كل ما أمر الله به"(6).
وقد أكد هذا المعنى ابن القيم بقوله: " فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها "(7).
ونظرا لكون التطبيقات التي يمكن الاستشهاد بها على المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام كثيرة، فسأكتفي بمثال واحد يكون نموذجا لذلك، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} الفرقان/ 67
قال ابن كثير في تفسير الآية: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خياراً، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}، كَمَا قَالَ تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} الإسراء/ 29(8).
إن الحقيقة أن حاجة الأمة شديد للعودة إلى هذا المعنى الصحيح للوسطية في الإسلام، خاصة مع تنامي ظاهرة الغلو والتطرف في هذا الزمان بكثرة من جهة، وكذلك وبنفس المقدار التساهل والتنازل ومحاولة تمييع أحكام الشريعة الإسلامية من جهة أخرى.
__________
(1) لسان العرب مادة "وسط" والمفردات في غريب القرآن مادة "وسط".
(2) تفسير الطبري 3/141.
(3) المرجع السابق 3/142.
(4) تفسير كلام المنان 1/157.
(5) الوسطية في ضوء القرآن الكريم ص29-60.
(6) مجموع الفتاوى 3/370-371.
(7) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/182.
(8) تفسير ابن كثير 6/123-124.[/align]
ولعل من أكثر المصطلحات التي يكثر تدوالها في عصرنا الراهن من هذا القبيل بشكل منقطع النظير، والتي يحاول من خلالها أعداء الإسلام التسلل إلى هذا الدين باسم أحد أهم معالمه وخصائصه وصفاته، هو مصطلح "وسطية الإسلام"، حتى صدق على استخدامهم لهذا المصطلح القول: "كلمة حق أريد بها باطل".
نعم.... لقد حاول أعداء الإسلام من الغربيين وأتباعهم تشويه هذه السمة التي منَّ الله بها على هذه الأمة، وسعوا من خلالها إلى تمييع الأحكام الشرعية، من خلال الزعم بان الوسطية تعني التنازل والتساهل في تطبيق أوامر الله ونواهيه، فلا بأس بقبول ما يناقض حكما شرعيا - كحد الردة مثلا – بدعوى وسطية الإسلام، ولا حرج بممارسات شطحات الصوفية وضلالاتهم بذريعة الوسطية، بل وصل الأمر عند من يصفون أنفسهم بأنهم "دعاة الوسطية" إلى حد التساهل في الثوابت العقدية، إمعانا منهم في تشويه حقيقة وجوهر هذا المفهوم الشديد الأهمية في الإسلام.
والحقيقة أن خطر استخدام هذا المصطلح على غير حقيقته لم يقتصر على هذه الفئة من أعداء الإسلام من الغربيين الليبراليين والعلمانيين، بل تعداه إلى بعض المسلمين الجاهلين أو المخدوعين، ممن جنح إلى الغلو والتطرف في فهم دين الله تعالى، والابتعاد عن الوسطية التي تميز بها الإسلام الحنيف.
ومن هنا فإن الحاجة إلى بيان حقيقة المقصود بوسطية الإسلام تزداد، وضرورة إزالة التشويه المتعمد حوله تتأكد.
حقيقة مفهوم الوسطية في الإسلام
الوسط في اللغة العربية يأتي لمعان متعددة متقاربة في المدلول والمآل، وهي تشير بمجملها إلى أن أعدل الشيء أوسطه ووسطه، كما أن أوسط الشيء أفضله وخياره، فواسطة القلادة – الجوهر التي وسطها – هي أجودها، ورجل وسط أي حسن، ويقال (وسط) لكل ما له طرفان مذمومان، فالسخاء وسط بين البخل والتبذير، ولاشجاعة وسط بين الجبن والتهور(1).
وقد دلت النصوص الشرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام، البعيد كل البعد عن الإفراط أو التفريط، ومن ذلك قوله تعالى في وصف هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...} البقرة/143
قال الطبري في تأكيد المعنى القرآني الصحيح لهذه الوسطية: "كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا "(2).
ثم أكد هذا المعنى بقوله: "وأرى أن الله تعالى إنما وصفهم بأنهم "وسَط ": لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط، واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها"(3).
وقد أكد الشيخ عبد الرحمن السعدي هذه المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام الذي أشارت له الآية الكريمة بقوله: "أي: عدلا خيارًا. وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين:
وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود.... ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى
وفي باب الطّهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النَّجاسات...ولا كالنصارى الذين لا يُنجسّون شيئًا ولا يُحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها(4).
كما أن الشيخ الدكتور محمد ناصر العمر قد خلص في بحثه القيم "الوسطية في ضوء القرآن الكريم"، إلى نتيجة مهمة في هذا الموضوع بعد تأمل بما ورد في القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب، ألا وهي:
أن مصطلح "الوسطية" لا يصح إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان: الخيرية أو ما يدل عليها كالأفضل والأعدل، والبينية سواء كانت حسية أو معنوية، فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح "الوسطية"، كما أكد أن للوسطية في الإسلام ملامح وسمات تميزها عن غيرها، وتمنع أصحاب الأهواء وأرباب الشهوات من تحريفها عن معناها ومفهومها الإسلامي الصحيح، واهم هذه الملامح: الخيرية، والاستقامة، واليسر ورفع الحرج، والبينية، والعدل والحكمة(5).
ولقد شرح شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام عقيدة وشريعة، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلو فيهم كما غلت النصارى فـ{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة/31 ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس... بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابا.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}البقرة/142، ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} التوبة/31.
والمؤمنون قالوا لله الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره وقالوا سمعنا وأطعنا فأطاعوا كل ما أمر الله به"(6).
وقد أكد هذا المعنى ابن القيم بقوله: " فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها "(7).
ونظرا لكون التطبيقات التي يمكن الاستشهاد بها على المفهوم الصحيح للوسطية في الإسلام كثيرة، فسأكتفي بمثال واحد يكون نموذجا لذلك، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} الفرقان/ 67
قال ابن كثير في تفسير الآية: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهْليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خياراً، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}، كَمَا قَالَ تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} الإسراء/ 29(8).
إن الحقيقة أن حاجة الأمة شديد للعودة إلى هذا المعنى الصحيح للوسطية في الإسلام، خاصة مع تنامي ظاهرة الغلو والتطرف في هذا الزمان بكثرة من جهة، وكذلك وبنفس المقدار التساهل والتنازل ومحاولة تمييع أحكام الشريعة الإسلامية من جهة أخرى.
__________
(1) لسان العرب مادة "وسط" والمفردات في غريب القرآن مادة "وسط".
(2) تفسير الطبري 3/141.
(3) المرجع السابق 3/142.
(4) تفسير كلام المنان 1/157.
(5) الوسطية في ضوء القرآن الكريم ص29-60.
(6) مجموع الفتاوى 3/370-371.
(7) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/182.
(8) تفسير ابن كثير 6/123-124.[/align]