حقيقة الدنيا

هلال الهاجري
1446/05/11 - 2024/11/13 07:30AM

الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، إلهِ الأولينَ والآخِرينَ، وَمَالكِ يَومِ الدِّينِ، أَحمدُهُ حَمداً يَليقُ بِجَلالِهِ عَلى كَثرةِ نَوَالِهِ، حَمَداً نَستَجلِبُ بِهِ نِعَمَهُ، وَنَستدفِعُ بِهِ نِقَمَهُ، وَنَستَكثرُ مِن عَطَائهِ، ونَرضَى بِقَدَرِهِ وقَضَائهِ، وَأَشهدُ أَنَّهُ الواحدُ الأَحدُ، الفَردُ الصَّمدُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبدُهُ المُصطَفَى، وَرَسولُهُ المُجتَبَى، إمامُ المتَّقينَ، وَسَيِّدُ المُرسَلينَ، وَخَليلُ رَبِّ العَالمينَ، خَيرُ مَن دَعَا وَأَرشَدَ، وَتَبَتَّلَ وَتَعَبَّدَ، وَتَقَلَّلَ مِن الدُّنيا وَتَزهَّدَ، وَقَد عُرِضَتْ عَليهِ الخَزائنُ فَأَبَاهَا، فَنَالَتْ نَفسُهُ عِندَ اللهِ مُنَاهَا، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ الطَّيبينَ، وَصَحَابَتِهِ المَيَامينَ، وَأَزواجِهِ الطَّاهراتِ أُمَّهَاتِ المؤمنينَ، وَسَلَّم تَسليماً، أَمَّا بَعدُ:

فَأوصي نَفسي وَإياكم بِوَصيةِ اللهِ لِعبَادِهِ كَافةً: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).

لَو قِيلَ لأَحدِنَا: صِفْ لَنَا الدُّنيَا .. فَلَنْ يَستَطيعَ أَن يَصِفَهَا بِأَحسَنَ مِمَا وَصَفَهَا خَالِقُها حَيثُ قَالَ سُبحَانَهُ وتَعَالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، لا إلَهَ إلا اللهُ، هَكَذا عِندَمَا يَظُنُّ الإنسانُ أَنَّهُ قَد استَحوَذَ عَليهَا وبَلغَ الكَمالَ، وبينَمَا َهُوَ فِي شَهواتِ الدُّنيَا يَختَالُ، وَإذا بِطَرفَةِ عَينٍ تَتَغيَّرُ اَلأَحوَالُ، فَلا يَبقَى مِنهُ إلا الذِّكرَيَاتُ والأَطلالُ، فَهَل نَستَيقِظُ مِن غَفلَتِنَا قَبلَ حُلولِ الآجالِ؟.

أَينَ ‌النُّمْرُودُ الذي قَالَ: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، وَأَينَ فِرعونُ الذي قَالَ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)، وَأَينَ قَارونُ الذي قَالَ: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)، وَأَينَ صَاحِبُ الجَنَّتينِ الذي قَالَ: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، أَينَ هَؤلاءِ الذينَ تَكَبَّروا فِي الأَرضِ وتَجَبَّروا فِيها؟، وأَينَ غَيرُهم مِمَّن مَلكُوا الدُّنيا وَظَنُّوا أَنَّهُم قَادِرونَ عَليها؟.

أَيْنَ المُلوكُ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ *** حَتَّى سَقَاهَا بِكَأسِ المَوْتِ سَاقِيْهَا

تِلْكَ المَنَازِلُ في الآفَاقِ خَاوِيَةٌ *** أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ المَوْتَ بَانِيْهَا

  أَيُّهَا الأحِبَّةُ .. الدُّنيَا دَارُ عَملٍ للآخرةِ وكَدحٍ واجتِهَادٍ، وَزَمانُ بَذرٍ وَفِي الآخرَةِ يَكونُ الحَصَادُ، وَمَن نَظَرَ فِي النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ لا يَجدُ مَدحَاً لِلدُّنيَا وَزِينَتِهَا، وإنَّمَا يَرى التَّحذِيرَ مِن خَطَرِهَا وفِتنَتِها، ولِذَلكَ قَالَ اللهُ تَعالى لِنَبيِّهِ وخَلِيلِهِ: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)، أَينَ هَذا وَمَا نَراهُ اليَومَ مِن الانغِمَاسِ في الدُّنيَا وَمَا فِيهَا مِن الشَّهَوَاتِ، حَتى أَثَّرَتْ عَلى عَمَلِ الآخِرةِ ومَا أَعَدَّهُ اللهُ فِيهَا مِن نَعيمٍ وجَنَّاتٍ، وَصَدَقَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ حِينَ قَالَ: (مَثَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ‌ضَرَّتَانِ، إِنْ أَرْضَى إِحْدَاهُمَا أَسْخَطَ الْأُخْرَى)، فَانظُر مَن سَتُرضي مِنهُمَا.

نُرَقِّعُ دُنْيانا بتَمْزيقِ دِينِنَا *** فَلا دِينُنا يَبْقَى وَلا مَا نُرَقِّعُ

الدُّنيَا حُلوهَا عَذابٌ، وفَرَحُها سَرابٌ، وَحلالُها حِسابٌ، وحَرَامُها عِقَابٌ، ‌أوَّلُها ‌عَناءٌ، وآخِرُها فَناءٌ، قَليلَةُ الوَفاءِ، كَثيرةُ الجَفَاءِ، خَسيسةُ الشُّرَكَاءِ، سَريعَةُ الانقِضَاءِ، مَن نَظَرَ إليهَا نَظرَةَ عَقلٍ وَحِكمَةٍ وذَكَاءٍ، عَلِمَ أَنَّهَا رَخِيصَةٌ مُهَانَةٌ عِندَ رَبِّ السَّمَاءِ، وَفي الحَديثِ: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)، ولِذَلكَ لَمَّا عَلِمَ النَّبيُّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَقِيقَتَهَا، عَاشَ فِيهَا وَهُوَ يَنتَظِرُ مُفَارَقَتَهَا، يَقُولُ عبدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: نَامَ رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، لوِ اتَّخَذْنَا لكَ وِطَاءً، فقال: (مَا لي وَللدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا).

هَبِ الدُّنْيا تُسَاقُ إليْكَ عَفْواً *** ألَيْسَ مَصيرُ ذاكَ إلى الزَّوالِ

وما دُنْيَاكَ إلا مِثْلُ فَيْءٍ *** أظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِانْتِقالِ

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ عَلى إحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ عَلى تَوفيقِهِ وامتِنَانِه، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له تَعظِيمًا لِشَأنِه، وَأَشهدُ أَنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُه وَرَسولُه، صلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِه وَأَصحابِه وسلَّمَ تَسليمًا مَزيدًا، أَمَّا بَعدُ:

أَيُّهَا الأَحِبَّةُ .. لا يَنبغي لَنَا أَن نَنسى أَنَّ وُجُودَنَا في هَذهِ الدُّنيا لِسَبَبَينِ:

السَّببُ الأَولُ: عُقُوبَةٌ عَلى مَا كَانَ مِن أَكلِ الشَّجَرةِ فِي جَنَّةِ السَّمَاءِ، فَأخرَجَنَا اللهُ تَعَالى مَنهَا إلى الأَرضِ نَحنُ وأَعدَى الأَعدَاءِ، (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ)، ولِذَلِكَ فَهِيَ (سِجنُ المُؤمنِ وجَنَّةُ الكَافرِ) كَمَا في الحَديثِ، فَهَل يَا تُرى نَعودُ إلى مَسكَنِنَا الأوَّلِ؟.

 فحيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدنٍ فإنَّها *** مَنازِلُنا الُأولَى وفِيها المُخَيَّمُ

ولَكنَّنا سَبيُ العدُوِّ فَهَل تَرَى *** نَعودُ إلَى أوطاَنِنَا وَنُسلَّمُ

وَقَد زَعَمُوا أَنَّ الغَرِيبَ إذاَ نَأى *** وشَطَّتْ بهِ أوطَانُه فهُوَ مُغرَمُ

وأيُّ اغتِرابٍ فَوقَ غرُبَتِنَا الِتي *** لهاَ أَضحَتِ الأعدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ

السَّببُ الثَّاني: أَنَّهَا دَارُ بَلاءٍ وامتِحَانٍ، يُختَبَرُ فِيهَا بَنُو الإنسَانِ، وَلِذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ عَليهِم السَّلامُ، وَأَنزَلَ عَليهِم الكُتُبَ عَاليَةَ المَقَامِ، فَمَن صَدَّقَ وَأَطَاعَ واستَقَامَ، فَلهُ النَّجَاةُ والأَمنُ ودَارُ السَّلامِ، وأَمَّا مَن كَذَّبَ وَأَدبَرَ وعَصَى، فَلهُ الخَسَارةُ والخَوفُ ونَارٌ تَلَّظَى، كَمَا قَالَ سُبحَانَهُ وتَعَالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

فَاجعَلُوا هَمَّكُم الآخِرةِ، واجعَلوا مَا آتَاكم اللهُ تَعالى مِن مَتاعِ الحَيَاةِ الدُّنيا مِن عِلمٍ وصِحَّةٍ ومَالٍ وجَاهٍ زَاداً لَكُم إلى الآخِرَةِ، وَقَد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ).

اللهمَّ لا تَجعلِ الدُّنيا أَكبرَ هَمِّنَا ولا مَبلغَ عِلمِنَا، اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِن زَوَالِ نِعمَتِكَ، وَتَحُّولِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقمَتِكَ، وَجَميعِ سَخَطِكَ، اللهمَّ أَصلحْ لَنَا دِينَنا الذي هو عِصمَةُ أَمرِنَا، وَأَصلحْ لَنَا دُنيَانَا التي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصلحْ لَنَا آخرتَنا التي إليهَا مَعَادُنَا، وَاجعلِ الحَياةَ زِيادةً لَنا في كُلِّ خَيرٍ، وَاجعل الموتَ رَاحةً لَنَا مِن كُلِّ شَرٍّ، نَعوذُ بِكَ اللهمَّ مِن مُضِّلاتِ الفِتنِ مَا ظَهرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، اللهمَّ أَعِنَّا عَلى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ، اللهمَّ اجعَل مَا تَبَّقَى مِنْ أَعمَارِنَا في طَاعَتِكَ، يَا حَيُّ يَا قَيومُ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ.

المرفقات

1731472238_حقيقة الدنيا.docx

1731472245_حقيقة الدنيا.pdf

المشاهدات 1385 | التعليقات 0