حقيقة الاستقامة وأهميتها

عبد الله بن علي الطريف
1444/02/12 - 2022/09/08 18:56PM

حقيقة الاستقامة وأهميتها 1444/2/13هـ

أيها الإخوة: يقول الله تعالى لرسوله ﷺ آمراً له، ومن معه من المؤمنين، أن يستقيموا كما أمروا فقال: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112] والاستقامة: التي أمر الله بها نبيه ﷺ والمؤمنين، في الآية هي التي وصّى بها ﷺ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه لَما طلبَ منْهُ قَولاً فاصِلاً في الإسلام فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ.؟ وَفِي رواية غَيْرَكَ قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَ اسْتَقِمْ.» رواه مسلم وغيره

قال ابن رجب رحمه الله: الِاسْتِقَامَةُ: هِيَ سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيجٍ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ كُلِّهَا كَذَلِكَ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ جَامِعَةً لِخِصَالِ الدِّينِ كُلِّهَا.

والاستقامة فضلها كبير وهي سبيل للسعادة والطمأنينة في الدارين، وسببٌ للخلد في جنات النعيم فقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في غير ما موضع من كتابه، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف:13-14].

وحقيقة الاستقامة في الشرع تتضمن أمرين: السَّير على الطريق.. وهذا المعنى يُفَسِّرُهُ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ..) [آل عمران:102] الثاني: الاستمرار والثبات عليه حتى الممات وهذا المعنى تُفَسِّرُهُ بقية الآية (..وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فيكون المعنى: استقيموا واثبتوا على التقوى حتى يأتيَكم الموت وأنتم على ذلك، وقد أكد ذلك الحديث الصحيح: فَعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما قال: نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ونَحْنُ فِي سَفَرٍ فاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ؛ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ؛ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ». رواه مسلم

أيها الأحبة: وتتحقق الاستقامة بأمور أولها: أداء الفرائض والواجبات. وأهمها وأُسُّها التوحيد (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) هو أوجب الواجبات، وأعظم الحسنات، وأفضل الطاعات، وهو أول ما أمر الله به عباده، وهو حقه عليهم، وهو مفتاح دعوة الرسل.

وتحقيق ذلك بعبادة الله وحده لا شريك له وإخلاص الدين له ويتبع ذلك تحقيق متابعة الرسول ﷺ فإن ذلك مقتضى الشهادتين.. وثانيها: الصلوات الخمس وهي قرينة التوحيد في الكتاب والسُّنَّة.. وثالثها: الزكاة، والصيام، والحج، هذه أركان الإسلام.. ورابعها: أداء الواجبات الأخرى كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق العباد، وكلها تدخل في الفرائض، فتكون مما يحقق الاستقامة.. وعليه فالاستقامة إنما تتحقق بأداء حقوق الله، وحقوق العباد..

ومما يحقق كمال الاستقامة أيضاً أداء النَّوافل.. ومِنْ حِكمة الله أَنْ شَرَّع لعباده نوافل الطاعات في جميع العبادات "الصلاة، الصدقة، الصيام، الحج" وسائر الطاعات التي فرضها الله على عباده، فشرع من جنسها ما هو تطوع.

أيها الإخوة: ومما يحقق الاستقامة كذلك اجتناب المحرمات.. واجتنابها يكون بامتثال المأمورات، واجتناب المحظورات، وأهمها الكبائر ومن اجتنب الكبائر فهو على خير كثير قال الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء:31] قال الشيخ السعدي رحمه الله: "وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدَهم أنهم إذا اجتنبوا كبائرَ المنهيات غُفر لهم جميعَ الذنوبِ والسيئات، وأدخلَهم مُدخلاً كريماً كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".. أ هـ وفعل الفرائض كذلك يكفر الصغائر فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الصَّلواتُ الخمسُ، والجمعَةُ إلى الجُمُعَةِ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بَينَهُنَّ ما اجتُنِبت الكبائرُ». رواه مسلم وغيره.

والكبيرة: العمل الذي فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه.

وقال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) [النجم:31،32] قال السعدي: ذكر الله وصفهم فقال: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات، التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة، (إِلا اللَّمَمَ) وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد، المرة بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة. اللهم وفقنا للاستقامة على دينك وثبتنا واجعلنا من الراشدين وصلى الله على نبينا محمد..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: وللاستقامة أسباب أولها: صحة الإيمان واليقين، لأن الانحراف والفتور والتراجع ينشأ عن ضعف اليقين، وكلما كان الإيمان أقوى كلما تحققت الاستقامة، وتكاملت، وتمت، فاليقين يحمل على الصبر، والصبر هو قاعدة الاستقامة، فكلٌ من الصبر واليقين عماد للاستقامة.. ولا يُؤْتَى الإنسان إلا من ضعف إيمانه، ومن ضعف يقينه، ومن ضعف صبره.

ومن أسباب الاستقامة العلم بالدين، وتدبر القرآن والسنة وتدبرهما يُورِث المعرفة بما أمر الله به وبما نهى عنه، وفي القرآن الترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد.. ومعرفة العبد بعاقبة الطاعة والمعصية من جنة ونار سبب كبير للاستقامة..

ومن أهم أسباب الاستقامة الدعاء نعم الدعاء فيدعو الإنسان رَبَهُ بالثبات فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسٍ وصححه الألباني.

ومن دعاءِ النَّبِيِّ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى». رواه مسلم. ومن الأدعية النبوية كذلك: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». رواه أبو داود وهو صحيح. فبدون هداية الله وعونه وتوفيقه لا يصل الإنسان إلى شيء، ولا يقوى على شيء

وقد أوصى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيًّ أن يدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ». رواه مسلم قال النووي: ومعنى سددني وفقني واجعلني منتصبا في جميع أموري مستقيما، وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور، وأما الهدى هنا فهو الرشاد.. ومعنى "وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ" أي: تذكر ذلك في حال دعائك بهذين اللفظين لأن هادى الطريق لا يزيغ عنه ومسدد السهم يحرص على تقويمه، ولا يستقيم رميه حتى يقومه وكذا الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد عمله وتقويمه ولزومه السنة، وقيل ليتذكر بهذا لفظ السداد والهدى لئلا ينساه..  

ومما يعين على الاستقامة اختيار الصحبة الصالحة: الذين يُذَكِّرون الإنسان إذا نسي، ويأمرونه بما يجب عليه، وينكرون عليه إذا انحرف، ويعينونه إذا كَسُلَ..

أحبتي: يقول الله تعالى عن أهل الاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا..) [فصلت:30]. يُقَيِّض الله لهم الملائكة في أصعب الأحوال، تطمئنهم في الدنيا، وأيضًا تُقَوِّي فيهم الثقةَ بالله، والتوكلَ عليه، وحُسْنَ الظن به، لا حُسْن الظن الذي هو اغترار وأماني، إنما حُسْنُ الظن المبني على مجاهدة النفس، والجد، والاجتهاد في طاعة الله، فتنزل عليهم عند الموت وفي القبر، وتتلقاهم يوم القيامة ألا تخافوا ولا تحزنوا..

وعاقبة الاستقامة: السعادة في الدنيا والآخرة، فأهلُ الإيمانِ هم في نعيمٍ في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.. يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار:13]. نعيم في الدنيا؛ بما يجعله الله في قلوبهم من السرور وقرة العين، والفرح بالإسلام، وبالإيمان وبالقرآن، وفي البرزخ يفتح للمؤمن باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويصير عليه قبره روضة من رياض الجنة، وفي الآخرة في جنات النعيم، في نعيم مقيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

فنسأل الله الاستقامة، والثبات على دينه، وأن يعصمنا من مُضِلَّات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

المشاهدات 4234 | التعليقات 0