حقيقة الأمن في الإسلام

حقيقة الأمن في الإسلام ..

الحمدُ للهِ غافرِ الزَّلاتِ، مُقيلِ العَثَرَاتِ، يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَات.. ونَشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، رَبُّ الأرضِ والسَّمواتِ، ونَشهدُ أنَّ مُحمَّدَاً عبدُ اللهِ ورَسُولُه، شَهادةً نَرجو بِها النَّجاةَ من الدَّرَكَاتِ.. اللهمَّ فصَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ عليهِ، وعلى آلِهِ وَصحبِهِ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ المَمَاتِ.. أمّا بعد:
أيّها المسلمون: تتطلّع النفوس إلى ما تنشرح له و تطمئنّ به، و تتوق القلوب إلى ما ترتاح به و تأنس إليه، و تتشوّق الأبدان إلى ما تسعد به و تهنأ في محيطه، و قد تكلّم المفكّرون قديما و حديثا عن أسباب تحسين تلك المطالب و كيفية تحقيق تلك المقاصد، و إنّ تونس اليوم على مستوى الأفراد و الجماعات وهي تعيش حياة الاضطراب و القلق و عدم الاطمئنان و الاستقرار في ضرورة إلى تحقيق ما تحصّل به حياة طيّبة و عيشة راضية و عاقبة حميدة، في حاجة هي أشدّ من كلّ حاجة إلى حياة تنشرح فيها القلوب و تطمئنّ معها النفوس و يرتاح فيها البال و تأنس معها الأبدان، بل الشعب اليوم في ضرورة إلى أن يعي حكمة إيجادها و أن يعلم أنّه مهما أوتي من أسباب التقدّم و عناصر الرقيّ فلن يجد للسعادة سلّما و لا للحياة الطيّبة سببا إلاّ فيما ارتضاه للبشرية خالقها، و فيما جاءت به رسالة ربّها على خاتم النبيّين و سيّد المرسلين محمّد صلى الله عليه و سلم..
إنّ الإيمان الكامل بالله ربّا و بالإسلام دينا و بمحمّد نبيّا و رسولا، هو الأساس لتحصيل ولاية الله التي هي سُلّم السلامة و الأمن في الدنيا و الآخرة كما قال ربّنا تبارك و تعالى: " إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون ".( سورة فصلت الآية: 30 ).. و كما قال سبحانه: " ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ٭ الذين آمنوا و كانوا يتّقون ".( سورة يونس الآيتان: 62/63 ) و لهذا فمن حقّق ذلك تولاّه الله جلّ و علا و أخرجه من الظلمات بصرفه عنها أو صرفها عنه كما قال تعالى: " الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ".( سورة البقرة آية:257 ).. فالظلمات هي ظلمات الكفر و أسبابها، و النّور هو نور الإيمان و أسبابه و مقتضياته..
إنّ تحقيق التوحيد وقصد الله جلّ وعلا بالعبادة والالتجاء إليه وحده وتعلّق القلوب به وحده، وكمال التوكّل عليه و عدم الالتفات إلى غيره و اليأس من جميع المخلوقين و قطع الطمع في حصول النفع أو دفع الضرّ منهم يتحقّق به حفظ الله بأنواعه الثلاثة:
* حفظه للعبد في مصالح دنياه من حفظ بدنه وولده وأهله وماله ومجتمعه ومقدّراته.. حفظه للعبد في دينه وإيمانه من الشبهات المضلّة ومن الشهوات المحرّمة..
* و حفظ دينه عند موته فيتوفّاه الله على الإيمان..
* و ثالث ذلك حفظه لعبده بعد موته فيثبّته عند سؤال القبر و يقيه عذابه و يؤمّنه عند الفزع الأكبر من أهوال يوم القيامة و كُربها و يُدخله الجنّة و ينجّيه من النار، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك كلّه: " يا غلام، إنّي أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله، و اعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، و إن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام و جفّت الصحف ". ( أخرجه الترمذي في صفة القيامة وهو عند أحمد أيضا )..
و إنّ فقدان التوحيد و عدم تحصيل حقائق الإيمان يهوي بصاحبه في مقامات الظلم و الحيرة و الشرور، و يبعده عن ولاية الله و عنايته و نصره، و في ذلك يقول الحقّ تعالى: " فاجتنبوا الرجسَ منَ الأوثانِ و اجتنبوا قولَ الزّورِ ٭ حنفآءَ لله غير مشركين به و مَن يُشْركْ بالله فكأنّما خرّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيرُ أو تهوي به الرّيحُ في مكانٍ سحيقٍ ".( سورة الحجّ الآيتان: 30/31 )..
إنّ صاحب الإيمان الحقيقي و العقيدة الصحيحة و التوحيد السّالم من الشرك و البدع، يجعل الله له مخرجا أي: فرجا و خلاصا ممّا وقع أو يقع فيه من الشدائد و المحن و الشرور و الفتن، فييسّر الله له طريقا للسلامة و النجاة، و يرزقه من حيث لا يحتسب، و يقدّر له ما يحتاج إليه و ما يُصْلِحُ شأنه من أوجهٍ كثيرةٍ لا تخطر له على بالٍ و لا تكون في حسبان، قال تبارك و تعالى: " و من يتّق الله يجعل له مخرجا ٭ و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكّل على الله فهو حسبه ".( سورة الطلاق الآيتان: 2/3 ). بتحقيق التوحيد و تحقيق مقتضياته تكمل الأسباب التي ترفع بها عن الأمّة الشرور و تزول به عنها الأضرار التي تأتي من شياطين الإنس و الجنّ، فمن طبيعة الشرّ أنّه جامح مسلّح، يبطش و لا يتحرّج، ويضرب و لا يتورّع ، قد يملك من أسباب الفتنة ما يصدّ به عن الحق ّ، و قد يملك من القوّة المادية والمغريات ما قد يزلزل القلوب و يستهوي النفوس و يزيغ الفطر، و لهذا فأهل التوحيد الخالص و الإيمان الصحيح والطّاعة الحقّة لله و لرسوله يفوزون بدفاع الله عنهم: " إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إنّ الله لا يحبّ كلّ خوّان كفور ". (الحجّ الآية: 38 )..
والقرآن يبيّن الحقيقة الغائبة عن كثيرين بأنّه لا طريق لطمأنينة القلوب وسعادتها وأنسها و بهجتها إلاّ بذكر الله سبحانه و تعالى لا بغيره، قال سبحانه: " ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ".( سورة الرعد الآية: 28 )..
نعم تطمئنّ بإحساسها بالصلة بالله و الأنس بجواره و الأمن في جنانه، و بإدراك الحكمة في الخلق و المبدأ و المصير، تطمئنّ بذلك من حيرة الطريق، و تطمئنّ بالشعور بالحماية من كلّ اعتداء و من كلّ ضرّ و شرّ إلاّ بما شاء الله، مع الرضا بالابتلاء و الصبر على البلاء، يقول ابن القيّم رحمه الله: " ففي القلب شَعَثٌ لا يلمّه إلاّ الإقبال على الله، و فيه وحشة لا يزيلها إلاّ الأنس به في خلوته، و فيه حزن لا يذهبه إلاّ السّرور بمعرفته جلّ و علا و صدق معاملته، و فيه قلق لا يسكنه إلاّ الاجتماع عليه و الفرار منه إليه، و فيه نيران حسرات لا يطفئها إلاّ الرضا بأمره و نهيه و قضائه و معانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، و فيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون وحده سبحانه مطلوبَه، و فيه فاقة لا يسدّها إلاّ محبّته و الإنابة إليه و دوام ذكره و صدق الإخلاص له، و لو أعطي الدنيا و ما فيها لن تسدّ تلك الفاقة منه أبدا ". ( مدارج السالكين 3/164 )..
و لهذا، من أعرض عن التوحيد و حقائق الإيمان و من انصرف عن طاعة الرّحمان و الاستقامة على السنّة و القرآن، فإنّ حياته و معيشته لا تكون إلاّ مضيّقة عليه منكّرة معذّبا فيها، فالغموم و الهموم و الأحزان و الضّيق، عقوبات عاجلة و نار دنيوية و جهنّم حاضرة لمن أساء مع ربّه، بخلاف من كان موحّدا طائعا لله و لرسوله فهو في ثواب عاجل من الفرح و السرور و اللذّة و انشراح الصّدر و انفتاحه و لذّته بمعاملة ربّه و طاعته و ذكره و نعيم روحه بمحبّته الاستسلام له، و فرحه بربّه أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه، بل هو في عيش و حياة طيّبة ، قال تبارك وتعالى : " فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يُضلّه يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصَّعَّدُ في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ".( سورة الأنعام الآية: 124 ).. و يقول جلّ و علا: " و من أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى ". ( سورة طه الآية: 124 )..
إنّنا و نحن نتكلّم عن حقائق التوحيد و الإيمان، و أنّها هي الأسباب الحقيقية لتحقيق السعادة و الأمن، فلا شكّ أنّ الأمن أهمّ مطالب الحياة، وهو ضرورة لكلّ جهد بشريّ لتحقيق مصالح الأفراد و المجتمعات و أهدافها و تطلّعاتها، و لا تزدهر حياة و تسعد نفوس و يهنأ عيش إلاّ بالأمن و الاستقرار، وهو بإذن الله جلّ و علا متحقّق لأهل التوحيد و الإيمان و الطّاعة و الاستقامة كما قال تعالى: " الذين آمنوا و لم يَلْبِسوا إيمانَهُم بظلمٍ أولئك لهُمُ الأمنُ و هُم مُهتدون ". ( سورة الأنعام الآية: 82 )..
و من هذا جاءت تحضيرات الشريعة القاطعة (و أصولها) الجامعة بالنهي الأكيد و التحريم الشديد عن كلّ عدوان و إفساد يخلّ بالأمن أو يؤثّر على الاستقرار، قال تعالى: " و لا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ". ( سورة الأعراف الآية: 65 ). وقال جلّ و علا: " والله لا يحبّ المفسدين ". ( سورة المائدة الآية: 64 )..
و من قواعد الشريعة المحكمة و مقاصدها العامة الحفاظ على الضروريات الخمس: " الدّين، النفس، العقل، العرض، والمال "، لذا شرعت الشريعة الأحكام الوقائية و الدفاعية للحفاظ على سلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعدم بما لم يأت له مثيل و لم يسبق له نظير، بل بالغت التوجيهات الشرعية في الأمر بالحفاظ على الأمن وعدم المساس به بتوجيهات عديدة وأوامر ملزمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلما ". ( أخرجه أحمد وأبو داود في الأدب والقضاعي في مسنده والبيهقي في الكبرى )..
و نهى صلّى الله عليه و سلم أن يُشهر السّلاح في أرض المسلمين فقال: " لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنّه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار ". (متفق عليه، البخاري في الفتن(7072) و مسلم في البرّ(2617) عن أبي هريرة)..
نسألك اللهمّ أن تجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.. اللهم أرنا الحقّ حقّا وارزقنا إتّباعه، و أرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه.. اللهمّ أبرم لهذه الأرض الطيّبة أمر رشد يُؤمر فيه بالمعروف و يُنهى فيه عن المنكر، و يُكرم فيه أهل طاعتك و يُذلّ فيه أهل معصيتك، برحمتك يا أرحم الرّاحمين، يا ربّ العالمين..
الثّانية: بسم الله و الحمد لله و الصّلاة و السّلام على رسول الله.. أمّا بعد:
فاتَّقوا اللهَ أيّها المُسلِمونَ وأَطِيعُوهُ، وراقِبُوهُ ولا تَعصُوهُ، وأعلموا أنّ الأمنُ في الإسلام ينبثق من المبادئ التي جاء بتحقيقها للبشر ككلّ، فهو مفهوم إسلاميّ لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل الدّين الإسلامي وهو دين كلّ المبادئ المثلى و المحاسن العظمى و الأخلاق الفضلى، فهو دينٌ لا تقتصر توجيهاته اللاّزمة و تعليماته الجازمة على تحقيق الأمن في بلاد المسلمين فحسب أو على المسلمين فقط، بل لقد ألزم الإسلام أتباعه بتحقيق الأمن حتى لغير المسلمين من المعاهدين و المستأمنين، فمن عاش في بلاد المسلمين و مجتمعات المؤمنين من معاهد و مستأمن فأحكام الإسلام ضامنة له أمنه على نفسه و ماله و عرضه و مقدّراته كما هو مقرّر مبحوث بالتفصيل في أحكام الفقه الإسلامي، وهي أحكام يلتزم بها المسلمون لا من منطلق المصالح المتبادلة أو المنافع المرجوّة، بل هي من جوانب الشريعة التي يجب على الدولة الإسلامية أفرادا و مجتمعات رعايتها حقَّ الرّعاية و الالتزام بها، إذ هي واجب دينيّ قبل أن تكون مصلحة سياسية أو التزاما دوليّا..
جعلني الله وإياكم من المتمسكين بكتابه، المقتدين بنبيه، السائرين على ما سار عليه سلفنا الصالح.. اللهمّ أعز الإسلام و المسلمين، و أذل الشرك والمشركين، و اجعل كلمتك هي العظمى و العليا إلى يوم الدّين..
اللهمّ أحفظ بلادنا و أئمّتنا و دعاتنا.. اللهم وحّد كلمتنا و قوّي شوكتنا يا ربّ العالمين.. اللهم من أراد هذه البلاد و سائر بلاد المسلمين بسوء، اللهمّ فاشغله بنفسه، و من حاك لنا كيدا، اللهم فاجعل كيده في نحره، و من دبّر لنا شرّا، اللهم فاجعل تدبيره سببا في تدميره يا ربّ العالمين..
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك، اللهم إنّا نشكرك على نعمة الغيث التي أكرمتنا بها، اللهم أغثنا غيثا يواكب طول العام و لا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا و لا تقطع عنّا هذه الخيرات، اللهم أغثنا و لا تمسك عنّا هذه البركات..
اللهم خلّص الأقصى من أيدي الصهاينة الأرجاس، المغتصبين الأنجاس، اللهمّ و خلّص الأقصى من الصهاينة العرب الأخساس الموالين و المتطبّعين و المتزلّفين.. اللهم دمّرهم شرّ تدمير، و مزّقهم شرّ ممزّق و خلّصنا منهم خير تخليص يا ربّ العالمين.. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واحشرنا في زمرة الأتقياء، برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم إنا نسألك رضاك والجنّة، ونعوذ بك من سخطك والنّار يا عزيز يا جبّار.. اللهمّ أحفظ بلادنا و أئمّتنا و دعاتنا.. اللهم وحّد كلمتنا و قوّي شوكتنا يا ربّ العالمين..
ربّنا إننّا نعلم أنّه لا تنفعك طاعتنا و لا تضرّك معصيتنا، فلا تؤاخذنا يا الله بما فعل السّفهاء منّا يا أكرم الأكرمين و يا أجود الأجودين آمين .. آمين و صلّى الله على سيّدنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين..

الشّيخ محمّد الشّاذلي شلبي
الإمام الخطيب
بجامع التّوبة برادس - تونس
المشاهدات 947 | التعليقات 0