حقوق كبار السن

صالح عبد الرحمن
1443/01/30 - 2021/09/07 05:34AM

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد معاشر المؤمنين: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حق تاقته ولا تموتن الا وانتم مسلمون)

أمة الإسلام: تتقلب بالإنسان مراحل حياته، فمن ضَعْف في المهد لا يملك لنفسه حولا ولا قوة، إلى أن يشتد عودُه ويبلغ أَشُدَّهُ، ثم ما هي إلا سنون وأعوام قليلة حتى يصير إلى الضَّعْف مرة أخرى، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الرُّومِ: 54].

ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يوصي بالرحمة بالضعفاء صغارا وكبارا، أطفالا وشيوخا، ويحث على ذلك بقوله وفعله، ففي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ” أي: اطلبوا محبتي وقربي ورضاي في ضعفائكم، وتفقدوا أحوالهم واعتنوا بهم، واحفظوا حقوقهم واجبروا قلوبهم، وأحسِنوا إليهم قولا وفعلا.

فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: “جاء شيخ يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- فأبطأ القومُ عنه أن يوسعوا له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيَرَنا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا” (رواه الترمذي بسند صحيح)؛ أي: ليس على هَدْيِنَا وطريقتنا من لم لا يعطف ويرفق بصغيرنا، ولا يُجِلّ ويوقر كبيرَ السن فينا، فيقدمه على غيره من الناس لشيبته في الإسلام، وتقدُّم سِنِّه وَضَعْفه.

و(في شُعَب الإيمان) بشَّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَنْ يرحم الصغير ويوقر الكبير بمرافقته في الجنة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يَا أَنَسُ، وَقِّرِ الْكَبِيرَ، وَارْحَمِ الصَّغِيرَ، تُرَافِقْنِي فِي الْجَنَّةِ“.

فيا معاشر المؤمنين: كيف لا نُجِلّ كبيرَ السن فينا؟ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ” (رواه أبو داود بإسناد حسن). كيف لا نوقر كبيرنا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: “الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ” (رواه ابن حبان في صحيحه).

فيا من تبحثون عن الخير والبركة في حياتكم: تَلَمَّسُوهَا مع كبار السن فيكم، إنها بركة البِرِّ والإحسان، والرأي والمشورة، والمجالَسَة والمؤانسة، ويا كبار السن: رحم الله ضعفَكم وجبر كسركم، وضاعف حسناتكم، فأنتم الذين قدمتُم وبذلتُم وربيتُم وعلمتُم، ولئن نُسِيَ فضلُكم فإن الله لاينسى، ولئن جُحِدَ معروفُكم فإن البِرَّ لا يَبْلَى، ثم إلى ربكم المنتهى، وعنده -سبحانه- تجدون الجزاء الأوفى.

والجزاء من جنس العمل، فمن أكرم ذا شيبة مسلم أطال الله في عمره، وقيَّض له مَنْ يُحسن له في كِبَرِهِ، ففي (سنن الترمذي) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ“.

عباد الله: إن من حق كبار السن علينا: إكرامهم وتوقيرهم وتزيين صدور المجالس بهم، ومناداتهم بأحب الأسماء إليهم، والبشاشة في وجوههم، والعفو والصفح عن زلاتهم وهفواتهم، وذِكْر محاسنهم وأعمالهم؛ فَهُمْ أشدُّ ما يكونونَ رغبةً في الحديث عن ماضيهم وإنجازاتهم، وهذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على جلالة قدره ومكانته يعلِّمنا كيف يكون إجلال الكبير وتوقيره، ومؤانسته وملاطفته؛ ففي (مسند الإمام أحمد) جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: “لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ” ثم دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للإسلام، فأسلم.

ولا شك معاشر المؤمنين: أن كبارَ السنِّ مظنة السآمة والتعب، والوهن وضَعْف الجسد، وما يكون نتيجة لذلك من قلة الصبر وحدة اللسان، ومع هذا كله فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يداريهم ويعطيهم ويسلِّيهم.

إن رعاية كبار السن يا عباد الله، والقيام على مصالحهم وشئونهم من أعظم القُرَب وأَجَلّ الوسائل لتفريج الكرب، وتيسير كل أمر عسير، وخاصة إذا كان كبير السن أَبًا أو أُمًّا، كما في الصحيحين في قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوا فيه فانحدرت عليهم صخرة فسدَّت عليهم الغارَ فتوسَّل كلُّ واحد منهم بصالح أعماله، فكانت وسيلة أحدهم: قيامه بهذا الحق العظيم، حق رعاية أبويه الشيخين الكبيرين، فكان سببًا في نيل مطلبه، وتفريج كربته.

بل إن السعي على الأبوين الشيخين الكبيرين ميدان من ميادين الجهاد في سبيل الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الْإِسْرَاءِ: 23-24].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه كان غفارا

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وعلى من سار على نهجه ومنواله.

أما بعد معاشر المؤمنين: إن الفسحة في العمر نعمة عظيمة، يمن الله بها على من يشاء من عباده، فاستثمِرُوا يا عبادَ اللهِ هذه النعمةَ فيما يرضي ربكم، ويُعلي منزلتَكم، واستدرِكُوا ما فات للاستعداد لِمَا هو آتٍ، فليس فيما بقي من العمر أطول مما فات، ولنجعل مسكَ ختام العمر طاعةً، فإنما الأعمال بالخواتيم، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، فهنيئًا لم طال عمره وَحَسُنَ عملُه، ويا خسارةَ مَنْ أَمَدَّ اللهُ له في عمره، ورزَقَه عافيةً في جسده، ثم لا يكون عمله في رضى ربه، فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: “مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ” قَالَ: يَا رَسُولُ، أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: “مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَسَاءَ عَمَلُهُ” (رواه الترمذي بسند صحيح) فنسأل الله -تعالى- بفضله وكرمه وجوده ومِنَّتِه أن يمن علينا بطول العمر وحسن العمل، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

ثم اعلموا معاشر المؤمنين أن الله أمركم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]،

 

 

 

المشاهدات 939 | التعليقات 0