حقوق الوالدين والأرحام (مختصرة)
د. محمود بن أحمد الدوسري
حقوق الوالدين والأرحام
د. محمود بن أحمد الدوسري
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ، أَمَرَ اللهُ تعالى بالاعتناءِ بالوالدين، والقِيامِ بمصالحهما، ومصاحبتِهما بالمعروف - حتى وإنْ كانا كافِرَين، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. فجعل اللهُ بِرَّهُما في المرتبة التي تلي حقَّه سبحانه في التوحيد.
لذا فإنَّ رِضَا الربِّ من رِضَا الوالدين: قال رسول الله صلى عليه وسلم: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» صحيح - رواه الترمذي. وفي رواية: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِينِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا» صحيح - رواه الطبراني في "الكبير".
وبِرُّ الوالدين واجِبٌ ومُؤَكَّدٌ عليه، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. تأمل - أخي الكريم - كيف أمر الإسلامُ بمصاحبة هذين الوالِدَين بالمعروف؛ مع هذا القُبحِ العظيم الذي يأمران ولدَهما به - وهو الإشراك بالله - فما الظنُّ بالوالدين المسلِمَين، ولا سيما إنْ كانا صالِحَين؟! تاللهِ إنَّ حقَّهما لَمِنْ أشدِّ الحقوق وآكدِها، فالمُوفَّق مَنْ هُدي إليها، والمحروم مَنْ صُرِف عنها.
عباد الله.. إنَّ بِرَّ الوالدين من صفات الأنبياء - عليهم السلام، فجميع الرسل والأنبياء بَرَرَةٌ بوالِدِيهم، قال الله تعالى – في بِرِّ يحيى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]. وقال – في بِرِّ عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32].
وإنَّ بِرَّهما مقدَّم على الجهاد في سبيل الله، والذي هو ذروة سنام الإسلام، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ؛ فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» متفق عليه. فَبِرُّ الوالدين يقوم مقامَ الجهادِ في سبيل الله.
وإنَّ بِرَّ الوالدين من أفضل الأعمال: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا». قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» رواه البخاري.
وبِرُّهٌما من أسباب دخول الجنة: عن أبي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ» صحيح - رواه الترمذي.
ومِنْ بِرِّ الوالدين إدخالُ السُّرورِ عليهِما: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ. فَقَالَ: «ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» صحيح - رواه أبو داود.
ولِعِظَمِ حَقِّ الوالِدَين كان الولدُ وما مَلَكَ لوالديه: عن عبدِ الله بنِ عمرٍو - رضي الله عنهما – قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَبِي اجْتَاحَ مَالِي. فَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ؛ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» صحيح - رواه ابن ماجه.
ولِعِظَمِ حَقِّهِما أكرمَ اللهُ مَنْ بَرَّهما بإجابة دعواته، وتفريج كرباته: ومن ذلك: حديثُ الثلاثةِ الذين انحدرت عليهم صخرةٌ عظيمة، فأغلقت عليهم بابَ الغار؛ فإنَّ منهم رجلاً كان بَرًّا بوالديه، فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب اللهُ دعاءه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ... أيها المسلمون.. يَحْسُنُ بنا أنْ نَتَواصَى بِصِلَةِ الأرحام؛ فهي من العبادات الجَلِيلةِ، والأخلاقِ النَّبِيلةِ التي يَنْضَبِطُ بها المُجْتَمع، وهي أوَّلُ ما بُعِثَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ عن عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه؛ أنه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: بِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ» رواه مسلم.
والرَّحِمُ شأنُها في الإسلامِ عَظِيم؛ قال اللهُ تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]. أي: واتَّقوا الأرحامَ أنْ تَقْطَعُوها. وفي الحديث: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ؛ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» رواه مسلم. وأوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصلة الأرحام: فقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه البخاري. وقال: «اتَّقُوا اللهَ؛ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ» حسن – رواه البيهقي. وقال أيضًا: «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ؛ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» حسن – رواه البيهقي. وأوصى بِصِلَةِ الرَّحِمِ - عند موته، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - فِي مَرَضِهِ: «أَرْحَامَكُمْ، أَرْحَامَكُمْ» صحيح – رواه ابن حبان.
فيَا عِبادَ الله.. صِلُوا أرحامَكُم بِالزَّيارات، والهدايا، والنَّفَقات، صِلُوهُمْ بالعَطْفِ والحَنانِ، ولِينِ الجَانِبِ، وبَشاشَةِ الوَجْهِ والإِكْرامِ والاحْتِرام. فَمَنْ وَصَلَ رَحِمَه؛ فَلْيُبْشِرْ بِسَعادَةِ الدُّنيا والآخِرَة؛ فإِنَّ صِلَةَ الأرحام سببٌ لِزِيادةِ المالِ، وسَعَةِ الرِّزْقِ، وطُولِ العُمُر، فثَوابُها مُعَجَّلٌ في الدُّنيا، ونَعِيمٌ مُدَّخَرٌ في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ البَيْتِ لَيَكُونُوا فَجَرَةً، فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا» صحيح – رواه ابن حبان. وفي رواية: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ؛ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ» صحيح – رواه البيهقي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه. قال عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رحمه الله: (مَا مِنْ خُطْوَةٍ بَعْدَ الفَرِيضَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خُطْوَةٍ إِلَى ذِي رَحِمٍ).
وصِلَةُ الأرحامِ سَبَبٌ لِدخولِ الجِنَان؛ وفي الحديث: «أَفْشِ السَّلاَمَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الأَرْحَامَ، وَصَلِّ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ ثُمَّ ادْخُلِ الجَنَّةَ بِسَلاَمٍ» صحيح – رواه أحمد.
ومِنْ حَقِّ الأرحامِ علينا ألاَّ نَقْطَعَها مَهْمَا كانَتِ الأسباب؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم - لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه: «يَا عُقْبَةُ! صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» صحيح لغيره – رواه أحمد.
وبَشَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم - واصِلَ رَحِمِه التي قَطَعَتْهُ – بالظَّفَرِ بِإِعانَةِ اللهِ له في جِهادِهِ مع ذِي رَحِمِه، فقال: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ؛ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» رواه مسلم. ومعنى: «فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلَّ» أي: فكَأَنَّما تُطْعِمُهم الرَّمْلَ الحَارَّ الذي يَكُونُ تَحْتَ النَّار.
المرفقات
1733742538_حقوق الوالدين والأرحام.docx