حقوق أي إنسان؟
ناصر محمد الأحمد
1437/02/05 - 2015/11/17 13:07PM
حقوق أيّ إنسان؟
8/2/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: ما أسهل الشعارات عندما تُنمّق وتنطلق بها الحناجر وترفع بها اللافتات، ولكن ما أصعب اكتشاف أو استشفاف الحقائق القابعة وراءها والنوايا المستترة خلفها عندما يكون أربابها دون مستوى الشبهات.
شعار: "حقوق الإنسان" شعار جميل بسيط يغري بالأمل، ويبعث على الاحترام. ولكن هذا الشعار: لو سألنا أنفسنا، من يرفعه؟! وفي أي اتجاه يدفعه؟! من يحدد مقومات هذا الشعار، ويرسي منطلقاته أو يضع ضوابطه؟.
أسئلة تترادف كلما شنّ دعاة حقوق الإنسان حملاتهم على بعض بلدان المسلمين مستهدفين نظماً وأحكاماً قبل الأنظمة والحكومات. فقطع يد السارق في نظرهم وحشية، وقتل القاتل المتعمِّد همجية ، وعقوبة المرتد ردة حضارية، ومنع الخمور وحظر السفور واتخاذ التدابير ضد الانحراف والشذوذ والفجور كل ذلك اعتداء سافر على الحريات الشخصية!.
أمّا مساءلة من إذا تطاولوا على المقدسات الدينية، أو حتى على الذات الإلهية، فتدخُّل مرفوض في حرية التعبير والتفكير!.
وليت مساعي دعاة حقوق الإنسان تقتصر على المطالبة بإنصاف المظلومين، ورفع المعاناة عن المسحوقين، وإرساء قيم العدالة والنـزاهة بين الحكام والمحكومين، إذن لوقفنا جميعاً مع أصحاب تلك الحملات في حملاتهم، ولباركنا جهودهم وسِرْنا وراءهم.
أيها المسلمون: إننا نعلم والناس يعلمون أن من يرفعون شعارات حقوق الإنسان اليوم، كانوا ولا يزالون أكثرُ بني الإنسان قهراً للإنسان من غير بني جنسهم طوال القرنين المنصرمين، طف بناظريك على أرجاء الخارطة الإنسانية، ماذا ترى؟! ترى عالمين: عالماً يضمن لشعوبه قمة العلو والنمو والرفاهية والترف، وعالماً يُضِنُّ عليه بلقمة العيش الكريم، وأدنى مظاهر الحرية والاستقلالية والشرف.
عالم يكاد يملك مقدرات كل شيء، وعالم لا يكاد يملك أي شيء! حتى ثرواته لا يملكها، وأوطانه لا يستطيع حمايتها، سماؤه مستباحة وأرضه غير مستقرة، مستقبله قلِق، وحاضره غير مأمون، يهيمن عالم النخبة الذي لا يزيد عن عُشْرِ سكان الأرض، على ما لا يقل عن ثلاثة أرباع ثروات الأرض! شيء يبعث على السخرية، ويدعو للتهكم أن تنبري هذه الأقلية المتسلطة من خلال منظماتها ومحافلها إلى التحدث عن حقوق الإنسان! أي إنسان؟!.
أي إنسان يريدون إعطاءه حقه؟. أهو إنسان القارة الإفريقية التي سيق الملايين من شعوبها في الشاحنات البحرية طوال عهود الاستعمار للسَّخَرِة والخدمة تحت أقدام البيض؟. أم هو الإنسان الأصلي من سكان القارة الأمريكية الذي سَحق رعاة البقر القادمون من أدغال أوروبا وجوده ليلقنوا هذه الكائنات البشرية الهنود الحمر الدرس الأول والأخير من دروس حقوق الإنسان؟!. أم هو إنسان آسيا الوسطى الذي حُشر الملايين من شعوبها إلى الشمال المتجمد تطبيقاً لمبادئ شيوع الظلم التي تفتقت عنها عقليات غربية تارة باسم الماركسية وتارة باسم الاشتراكية؟. أم تراهم يتحدثون عن إنسان القارة الأسترالية التي تعاملوا مع سكانها على أنهم حفريات تاريخية، وبقايا مخلوقات آدمية تصلح فقط لأن تُلتقط بجانبها الصور التذكارية؟!.
أي إنسان يتحدث عنه دعاة حقوق الإنسان؟. أهو الإنسان في فلسطين المستباحة، أم الإنسان في العراق المحاصر، أم الإنسانُ المعاقب في بلاد الأفغان، أم هو الإنسان المهضوم في البلقان، أم الإنسان المقهور في الشيشان؟! غالب الظن أنهم يتحدثون عن إنسان المحميات الغربية التي يقوم على رعاية حقوق الإنسان فيها وكلاء رسميون منذ القدم.
وبعد الإنسان تعال إلى الحقوق! أي حقوق؟!.
ليتهم يتحدثون عن حق الإنسان في أن يزدهر، في أن يَستقل، في أن ينتصر على تحديات عصره أو يتجاوز عقبات التخلف المضروب عليه، ولكن منظمات حقوق الإنسان تعرف أن واقع التخلف الذي يلف أكثر شعوب العالم النامي أو النائم أو المنوّم، إنما هي في جزء كبير منها نتاج ابتزاز اقتصادي، وحصار تكنولوجي، وإفساد اجتماعي، تفرض على الشعوب أن تدار شؤونها عن بُعد بواسطة الاستعمار الفكري، ولهذا فإن غاية ما يطنطن به دعاة حقوق الإنسان وقصارى ما يدندنون حوله من حقوق هذا الإنسان وبخاصة إذا كان من بلاد المسلمين هو حقه في أن يكفر، حقه في أن يفجر، حقه في أن يكون شاذاً أو ملحداً أو وجودياً أو عدمياً!. وحق إناثه في أن يتساوين بالرجال في كل شيء! وحق رجاله في التنازل عن الرجولة بل عن الذكورة في بعض الأحوال، ولا بأس أن تُزركش المطالبة بتلك الحقوق ببعض المطالب الجادة التي تقتصر في الغالب على من يَنتقون وبالطريقة التي يريدون، كأن يطالبوا بنـزاهة المحاكمة وكفالة حق الدفاع أو تجنب التعذيب، والسماح بزيارة المساجين أو نظافة الزنازين!.
وحتى هذه المطالب الجادّة يُطاح بها شذر مذر وتتحول إلى فكاهة وهذر إذا كان المعنيون منها من دعاة لا إله إلا الله المطالبين بشرع الله.
والسؤال هنا: لماذا كل دين لا تنبغي الإساءة إليه في أشخاص رموزه إلا الإسلام؟! لقد أصبح واضحاً أن الإنسان والحقوق أنواع وأصناف، أو فئات عند النافخين في بوق الحقوق، ليس صنف منها مهدراً ومهراقاً ولا متاعاً مباحاً إلا ما يتعلق بحقوق الإنسان المسلم!.
أيها المسلمون: غاية ما يريده الغربيون الرابضون خلف أسوار الدفاع عن حقوق الإنسان أن يقولوا لنا، هل تريدون حقوق الإنسان؟ إذن: ليكن الإنسان عندكم كالإنسان عندنا، لتكن الشرائع عندكم كالشرائع عندنا، لتكن الأخلاق عندكم كالأخلاق عندنا، لتكن مجتمعاتكم مثل مجتمعاتنا في كل شيء، إلا في الأشياء المحترمة!.
ولو تجاوزنا هذه المطالب المغلوطة، وفعلاً وصلنا إلى مستوى أن يكون الإنسان عندنا كالإنسان عندهم، والشرائع عندنا كالشرائع عندهم، والأخلاق عندنا كالأخلاق عندهم، والمجتمعات برمّتها عندنا كالمجتمعات عندهم، فماذا ستكون النتيجة؟.
هذا ما سنسمعه في الخطبة الثانية بإذن الله ..
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: سنضطر هنا أن ننقل على ألسنتهم ووفق إحصاءاتهم هم، لمحات من واقع حياة الإنسان هناك لنعرف كيف وقعوا في هذا الواقع، ولماذا يريدون منا أن نقع في مثل واقعهم.
سنقتصر على واقع واحد هو قاع المجتمع الأمريكي وقاعدته العريضة، ليس شماتة في هذا المجتمع المتطاوس على البشر، ولكن لاعتبارات عديدة أخرى:
منها: أنه أكثر المجتمعات إدلالاً بحق الإنسان في أن يكون إنساناً.
ومنها: أنه المجتمع الذي تقود دولته العالم اليوم وتريد أن تعمم عليه أنموذجها الثقافي والحضاري والقيمي.
ومنها: أنه المجتمع الذي تشرئب إلى التشبه به أعناق الذين لا يفقهون.
ومنها أخيراً: أنه المجتمع الذي يَعتبر منظمات حقوق الإنسان في العالم ماركة مسجلة أمريكية!.
لنطل على هذا المجتمع في وجهه الآخر لنرى حقيقة الحقوق فيه، أهي إنسانية يحياها، أم حيوانية يأنسها؟.
تقول الإحصاءات الأمريكية أنه تضاعف عدد نزلاء السجون في الولايات المتحدة الأمريكية فيما بين الثمانينيات والتسعينيات إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه من قبل، حيث بلغ عدد المسجونين 000. 950 نزيل فيما بين عامي 80 و 93م وهذا يعني أن نحو مليون من المواطنين الأمريكيين اتُّهموا بجرائم تخطت الحجز في مراكز الشرطة إلى دخول السجون، فإذا علمنا أن نسبة ما لا يُكشف عنه من الجرائم تكون عادة أضعاف ما يكشف عنه، تبين لنا أن العدد الحقيقي للمتهمين بالإجرام يمكن أن يمثل شعباً من المجرمين يفوق عدد بعض الشعوب الصغيرة. والعدد المعلن عنه في التقارير الرسمية قد تضاعف في السنوات الأخيرة، حيث ارتفعت معدلات الجريمة إلى 600%.
أما عن فوضى الدماء: فيظن البعض أن الإلحاح على إلغاء عقوبة الإعدام للقتلة وغيرهم في أمريكا وغيرها من دول الغرب إنما يجيء بسبب الرقة، أو المشاعر الإنسانية المرهفة التي تنظر إلى عقوبة الإعدام على أنها عمل شرير وغير حضاري، ولكن الحقيقة تبدو أبعد من ذلك، إذ يمكننا أن نتصور السبب في فزع الأمريكيين وغيرُهم من تطبيق عقوبة الإعدام عندهم، إذا علمنا المعدل الضخم لقضايا القتل وحدها، والتي يفترض أن تُطبق على المدانين فيها تلك العقوبة، فهو عدد يحتاج إلى مقتلة سنوية تراق فيها دماء الآلاف، لأن جرائم القتل الموسمية في أمريكا تبلغ سنوياً 25,000 جريمة، أي أن هناك خمسة وعشرين ألف قتيل كل عام، يُطلب للقتل بسببهم أمام العدالة خمسة وعشرون ألف قاتل! هذا لو افترضنا أن القاتل شخص واحد في كل جريمة، فماذا لو تصورنا أن كل قتيل يمكن أن يشترك في قتله الواحد والاثنان والثلاثة والعشرة؟! وماذا لو تصورنا إضافة مستحقي القتل بجرائم أخرى غير القتل، كالتجسس والاغتصاب والخيانة العظمى ونحوها؟.
وأما عن استباحة الأعراض: فالإنسان إذا استهان بإهدار الدماء المحرمة فلن يتورع عن انتهاك الأعراض المصونة، وإن شعباً يَلِغُ عشرات الآلاف منه في الدماء المستباحة كل عام، لا بد أن الملايين منه سيرتعون في الشهوات المحرمة كل يوم. تقول التقارير الرسمية من هناك: إن النسبة العامة لمعدلات الزنا في الشعب الأمريكي تبلغ 31%، ويذكر الإحصاء الذي أورد هذه النسبة أنها ليست نسبة الذين يقترفون هذه الجريمة مرة أو مرتين، وإنما هي نسبة المنتظمين فيها، ويقول الإحصاء نفسه: إن 62% من الأمريكيين يعتبرون أن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أمر لا بأس به!.
تقول إحصاءاتهم: إن امرأة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها، ورجلاً من كل ثلاثة أشخاص يخون زوجته، وتذكر الإحصاءات أن معدلات الاغتصاب في أمريكا تزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفاً، حتى إن فتاة من كل خمس فتيات في الولايات المتحدة يفقدن بكارتهنّ قبل سنّ الثالثة عشرة! والنسبة تزيد كلما زادت الأعمار!.
يبدو أن تلك المجتمعات التي لم تهذبها الشرائع الدينية لم تردعها أيضاً إلى الآن على الأقل السنن الإلهية القاضية بعقاب المجرمين الفجّار بالأمراض التي لم تكن في أسلافهم، فمرض الإيدز الذي يضرب منذ عقدين من الزمان تلك المجتمعات، لم يفلح في ردهم عن مسالكهم الشاذة المنحرفة، وكالعادة تأتي الولايات المتحدة في طليعة المجتمعات في هذا المضمار، فهي تحتل المركز الأول في عدد الإصابة بمرض الإيدز، وقد وصل عدد الضحايا مع نهاية عام 2000م إلى 40 مليوناً من المصابين بفيروس الإيدز في أنحاء العالم.
أما المخدرات: فهناك إجماع على أن الشعب الأمريكي هو أكثر شعوب العالم إدماناً للمخدرات، وتقول الإحصاءات: أن 75% من الجرائم التي تحدث في المجتمع الأمريكي تعود إلى سبب رئيس وهو انتشار تعاطي المخدرات.
أيها المسلمون: إن ما سبق ذكره من إحصاءات وأرقام لا يمثل كل الحقيقة، لأن الحقيقة دائماً في عالم الجريمة نصف غائبة، وإن ما ذكرناه عن شيوع الجريمة في أمريكا زعيمة الانحلال في الغرب لا يعني براءة روسيا زعيمة الإلحاد في الشرق، فالروس في الإجرام كالأمريكان، بل هم أضل سبيلاً.
وبين فساد الشرق الإلحادي والغرب الانحلالي، يعيش العالم حقبة من الضياع تتضاعف آثاره بفعل ما طرأ من مستجدات تفرضها مضاعفات عصر العولمة!. فهل هذه هي حقوق الإنسان التي يريدها الله عز وجل أن تصل إليها المجتمعات؟. بالطبع الجواب: لا. لكن دعاة حقوق الإنسان الذين يتباكون على واقع الإنسان في مجتمعات المسلمين يريدون أن يصلوا بالإنسان عندنا إلى مستوى النموذج الذي ذكرناه عن المجتمع الأمريكي.
أيها المسلمون: إن ذلك الواقع النموذجي لحياة الإنسان في البلدان التي لا تدين لله بالطاعة إنما هي نتاج النظم التشريعية الخرقاء التي يصر المبدِّلون على أن يحاكموا إليها شريعة الرحمن، وأن يعدّلوا ويغيّروا فيها لتستقيم مع العوج المعهود في شرائع الإنسان، وصدق الحليم العظيم إذ يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً، يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) ( النساء : 26-28 ).
اللهم ..
ناشد الفوائد
شكر الله لك على هذه الخطبة الرائعة الرائدة
تعديل التعليق