حفلات التعازي .. تحت المجهر!
د. محمد بن سعود
...
الحمد لله، الحمد لله العزيزِ الغفار، يكوِّرُ النهارَ على الليل ويكوِّرُ الليلَ على النهار، يعلم السِّرَّ والجهرَ وما في أعماق البحار، لا تدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصارَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسولُه المصطفى المختار، -صلواتُ الله وسلامُه عليه-، وعلى آل بيته الطيبين الأطهار، وأزواجه أمهاتِ المؤمنينَ الأخيار، وعلى أصحابه المهاجرين والأنصار، ومَنْ سار على طريقهم واتبع هداهم ما تعاقَب الليلُ والنهارُ، أما بعد:-
فأُوصِيكُم ونفسِي بالتقوى؛ فإنها الزادُ الذي يبقَى، والعُدَّةُ للحياة الأخرى. مع التقوَى لا يضيرُك ما فقَدتَ، ومع فقدِها لا ينفعُك ما اكتسَبتَ، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الدنيا ظلٌّ زائِل، وعَرَضٌ حائِل، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).
دخل الدنيا أناسٌ قبْلنا *** رحلوا عنها وخَلَّوها لنا
فنزلناها كما قد نزلوا *** ونُخليها لقوم بعدنا
أيها المسلمون: الموتُ في هذه الدنيا نهايةُ كل حيٍّ، وخِتامُ كل شيءٍ، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)
الرَّحيلُ عن هذه الحياة ووداعُ الأحياء هو القدَرُ الذي ليس عنه مناص، والحَتمُ الذي لا مهرَبَ منه ولا خلاص. خطَّتْه الأقلامُ وأوقَعَتْه المقادير، فهو قدَرُ الحياة والأحياء، ومُنتهَى الخلائِقِ ومآلُ الأشياء، وهو المُصيبةُ التي قال الله عنها: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106].
فإذا سمعتَ بهالك فتيقّنَنْ *** أن السبيل سبيلُه فتزودِ
لكن هل سمعتم بحفلة أو عشاءٍ بمناسبة موت فلان؟ نعم يا عباد الله، لقد سمعتم بقلوبكم وسمعنا حفلات بهذه المناسبات، وإن لم ينطق بها الناس، لكنها الحقيقةُ وإن تجاهلناها.
إخوة الإيمان: كثير من المسلمين في أصقاع بلاد الإسلام أصحاب كرم وشهامة ومروءة، ولله الحمد، وحين يموت أحد، يجتمع أقاربُ أهلِ الميت وجيرانُهم وأصدقاؤهم، لتعزيتهم وتخفيفِ مصابِهم، وهذا لعمر الله صورةٌ كبرى للتآلف واللحمةِ والاجتماع، الذي حث عليه الإسلام وأمر به. وهكذا جميعُ أحكام الإسلام فيها الحضارة والتقدم،
ويتخلل هذه التعازي، مواساةُ أهل الميت، ومحاولةُ تخفيف وطأة المصيبة عليهم، وصنعُ الطعام لهم، وهذا فعل محمود مشكور؛ وجّهَنا إليه سيدُ الخلق r حيث رُوي عنه r أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رواه ابن ماجه وحسّنه العلامة النووي، وضعفه أكثر العلماء. وقال r لما ماتَ جعفرُ بن أبي طالب: (اصنعوا لآل جعفرٍ طعامًا؛ فإنه قد أتاهم ما يَشغلُهم). رواه الترمذي وحسّنه، وصححه الحاكم وابنُ السكن. قال الإمام الشافعي نوّره الله ضريحه: (وَأُحِبُّ لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَجِيرَانِهِ، أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يَسَعُهُمْ، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِعْلُ أَهْلِ الْخَيْرِ). انتهى كلامه.
إني أُعزّيك لا أَني على ثقة *** من الحياة ولكنْ سنةُ الدِّينِ
فما المعزَّى بباقٍ بعد ميِّته *** ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حينِ
لكن – يا رعاكم الله- يعكّر صفو هذه الأفعالَ الجميلة، وقد يخرجها إلى البدعة، المبالغةُ فيها إلى حد انقلاب الأمور، حيث يقوم كثير من المتبرعين بطعام أهل الميت بدعوة بعض الناس إلى الأكل عند أهل الميت، ولسانُ حاله يقول: (حياكم اللهُ على العشاء عند آل فلان، بمناسبة وفاة والدهم) مثلا، وإن كان الداعي لم يقصد هذا ولم يتكلم به، لكنها الحقيقة المرّة التي يتعامون عنها، وللأسف.
بل وصل الأمر في بعض بلاد المسلمين إلى حدِّ نصب الخيام، أو استئجار القصور، لاستقبال المعزين، حتى كأن الناسَ في حفلة، ويصبحُ أهل الميت أمام زحمة الملحّين في إقامة الولائم، بل رأيتم ورأينا كيف انقلبت بعض مجالس العزاء إلى أحاديثَ رياضية أو تجارية أو هزلية، والله المستعان؛
ولهذا ذهب الإمام أحمدُ في رواية عنه، إلى تحريم جلوس أهل الميت للتعزية، بدليلِ قول جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ - t-: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ , وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ ". رواه الإمام أحمد وصححه النووي، والأقرب ضعفُه.
بل ذهب الكثير من علماء الإسلام إلى كراهة ذلك، ومن أسباب ذلك: المنكراتُ والمبالغات والبدعُ التي تصاحب التعازي. ومن أشهر من يفتي بتحريم ذلك من المعاصرين: فقيه الجزيرة الشيخ ابن عثيمينٍ رحمه الله.
لم يفتأِ الناسُ حتى أحدثوا بدعا *** في الدين بالرأي لم يُبعث بها الرسلُ
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ......
الخطبة الثانية
الحمد لله آوى مَنْ إلى لُطْفِه أَوَى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، داوى بإنعامه مَنْ يَئِسَ من أسقامه الدوا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، من اتبعه رشَد واهتدى، ومن عصاه ضل وغوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلاما يترى. أما بعد:-
فإن أوفق قولي الفقهاء رحمهم الله جوازُ جلوس أهل الميت للتعزية، في بيت الميت، أو بيتِ أكبرهم، أو أيِّ مكان يختارونه، وذلك تخفيفا على المعزينَ، الذين يشق عليهم البحثُ عن كل واحد من أهل الميت في مكانه، خاصة في المدنِ المتراميةِ الأطراف، وتمكينا للناس من أداء سنة التعزية، والوسائلُ لها أحكام المقاصد، وهو رواية عن الإمام أحمد، يفتي بها إمامُ علماءِ الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وعليه العمل عند أئمة الدعوة النجدية. بل إن الدولةَ وفقها الله منحت الموظفَ المصابَ بفقد قريبه، إجازةً تصل إلى ثلاثة أيام، مراعاة لمصابه، وتمكينا له من مقابلة المعزين.
كما أنه لا بأس لأقارب أهلِ الميت أن يجلسوا معهم لتخفيف مصابهم، أما غيرُهم فيعزي ولا يطيل. قال شمسُ الدين المـَنْبِجِي الحنبلي: (إن كان الاجتماعُ فيه موعظةٌ للمعزَّى بالصبر والرضى، وحصل له من الهيئة الاجتماعية تسلية، بتذاكرهم آياتِ الصبر وأحاديثِ الصبر والرضى، فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة). انتهى كلامه رحمه الله.
وإن أراد أحدٌ أن يصنع طعاما لأهل الميت، فلا يدعو إليه الناس، ولا يسرف، بل يجعله لأهل الميت ومن حضر، ولا يجوز لأهل الميت صنعُ الطعام إلا عند الضرورة، كما لا يحق لأهل الميت استئجارُ القصور أو المخيمات لإقامة العزاء فيها؛ من باب المفاخرة والمباهاة؛ لأن هذا من النياحة التي كان يفعلها أهلُ الجاهلية، بل محل التعزية هو البيت، ولا تكون في غيره إلا عند الضرورة القصوى.
وخير الأمور السالفاتُ على الهدى *** وشر الأمور المحدثاتُ البدائعُ
وعلى أهل الميت أن يكون همُّهم دعوةٌ صالحةٌ لميتهم من المعزين الصالحين، لا أن ينشغل بعضهم بتصوير تعزية السيد فلان، أو المسؤول فلان، فهُم ليسوا في حفل تفاخر، ورُب أشعثَ أغبر مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه.
وعُوِّضتَ أجرا من فقيد فلا يكن *** فقيدُك لا يأتي وأجرك يذهب
ثم صلوا وسلموا ...
..........
المرفقات
التعزية
التعزية