حفظ النفس ظاهرا وباطنا
محمد بن عبدالله التميمي
1444/02/19 - 2022/09/15 18:30PM
الخطبة الأولى
الحمدُ لله؛ خَلَقَ فَقَدَّر، ومَلَكَ فَدَبَّر، وشَرَعَ فيَسَّر، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُه ورسولُه، وصَفِيُّه وخَلِيلُه، وأمينُهُ على وَحْيِه، ما ترَكَ خيرًا إلا دلَّ الأُمَّةَ عليه، ولا شرًّا إلا حَذَّرها منه، فصَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. أما بعدُ عباد الله:
فأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكُمْ بتَقوَى الله، اتَّقوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله، العُمُرُ مُقَدَّرٌ مَحْسُوب، والعَمَلُ مُيَسَّرٌ مَكْتُوب، والوَقْتُ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب، والمَوعِدُ يومُ الحِسَاب. مَنْ أحَبَّ أنْ يكونَ اللهُ مَعَه: فاللهُ معَ الصَّابرين، ومَنْ أحَبَّ أنْ يكونَ اللهُ وليَّه: فاللهُ وليُّ المُتقين، وأكرَمُ النَّاسِ عِندَ اللهِ أتقَاهُم، (وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).
أيُّها المُسلِمون: قالَ رَبُّكُمْ جَلَّ وعَلا: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، أقْسَمَ سُبحَانَهُ في هذِهِ الآيةِ بالنَّفْس؛ تَكْرِمَةً لها، وتَنْوِيْهًا بها، وأقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِمَنْ سَوَّاهَا، وهُوَ اللهُ جلَّ وعلا، كمَا قالَ سُبحَانَه: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي). فاللهُ جَلَّ وعلا هو الذِيْ خَلَقَ الإنسَان، ونَفَخَ فيهِ مِنْ رُوحِه، وأَسْجَدَ لَـهُ مَلائِكَتَه، وسَخَّرَ لَهُ ما في الكَونِ جميعًا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا).
وَمِنْ تَكْرِيْمِ اللهِ جلَّ وعلا لهذِهِ النُّفُوس: أنْ حَرَّمَ سُبحَانَهُ الاعتِدَاءَ عليها، وأمَرَ جَلَّ وعلا بحِفْظِهِا، وأوْصَى عِبادَهُ بذلك، فقالَ جَلَّ شأنُه: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
ومِنْ تَكْريْمِ هذِهِ النَّفْسِ وحِفْظِها: الأمْرُ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عنها؛ فنَهَى النَّبيُّ عَنْ إِشْهَارِ الحَدِيدَةِ فِي وَجْهِ المُسْلِم، وإِنْ لم تَكُنْ سِلَاحا، وَعَدَّ ذلكَ مِنَ الكَبَائِر، قالَ: (مَنْ أَشَارَ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُه، حَتَّى يَدَعَهُ، وإنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّه) رواهُ مسلم.
ومِنْ تَكْريْمِ اللهِ لهذِهِ النَّفْسِ: نَـهْيُهُ جلَّ وعلا عَنْ قَتْلِ الإنسانِ نفسَه، قالَ تعالَى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، وقالَ تعالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وقالَ النبيُّ : (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) متفقٌ عليه.
ومِنْ تَكْريْمِ هذِهِ اللهِ النَّفْسِ أيْضًا: الأَمْرُ بالتَّدَاوِي، والحَثُّ عليه، قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (تداوَوا عِبادَ اللَّهِ). قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: (في الأحَادِيثِ الصَّحِيحَة: الأمْرُ بالتَّدَاوِي، وأنَّهُ لا يُنَافِي التَّوَكُّل، كمَا لا يُنَافِيه: دَفْعُ "الجُوعِ والعَطَشِ والحَرِّ والبَـرْدِ" بأَضْدَادِهَا، بل لا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوحِيد؛ إلَّا بمُبَاشَرَةِ الأسبَاب، التي نَصَبَهَا اللهُ مُقْتَضِيَاتٍ لِـمُسَبِّبَاتِـها؛ قَدَرًا وشَرْعًا).
ومِنْ جُمْلَةِ الأسبَابِ المَشْرُوعَة، في حِفْظِ النَّفسِ وتكْرِيْمِها: الاِهْتِمَامُ بِالصِّحَّةِ العَامَّة، والسَّلاَمَةِ الغِذَائيَّةِ والصِّحِّيَّة.. ومَعرِفَةُ الأسبَابِ التي تَقِي مِنَ الأخطَارِ قبلَ وُقُوعِهَا، أو تُعِيْنُ على مُعَالَـجَتِهَا بعدَ حُدُوثِهَا لا قَدَّر الله، كتَعَلُّمِ مَهَارَاتِ الإسعَافَاتِ الأوَّلِيَّةِ مِنْ مَصَادِرِهَا المَوثُوقَةِ، قالَ الله تعالَى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). قالَ مُجَاهِدٌ: (وَمَنْ أَحْيَاهَا) أَيْ: أَنْجَاهَا مِنْ غَرَقٍ أو حَرَقٍ أو هَلَكَة.
وفي الحَدِيث: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) رواهُ مسلم.
بَارَكَ الله لي ولكم في القُرآنِ والسُّنة، ونفعَنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحِكمة، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسَائرِ المُسلِمينَ والمُسلِماتِ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ، فاستغفِروهُ، إنَّه كانَ غفَّارا.
الخطبة الثانية
الحمد لله، رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز عن تقصيرهم والزَّلل، امتنَّ عليهم بالنعمة، وكتب على نفسه الرحمة. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدٍ لا غنى له طَرْفَةَ عينٍ عن فضله ورحمته، يخشى عذابه ويطمع في جنَّته. وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلاةً وسلامًا لا يزالان على غد جديدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد: فإن من تمام العناية بالنفس ما أوجب الله من حفظ الباطن كما أمر بحفظ الظاهر، وهو المقصد الأكبر، والجانب الأخطر، فبه يعظم الإيمان، ويُجل الرحمن، وتُقبَلُ الأعمال، وتزكو الأحوال، فاللهَ اللهَ بمحاسبة النفس قبل حسابها، وحجزها عما لا يرضي اللهَ قبل عقابها، وذلك يتطلب عزيمةً ومثابرة، وجدًّا ومصابرة، ومَنِ اشتغل بما لا يفيد انصرف عمَّا يفيد، والأمانة عظيمة، والمسؤولية جسيمة، والعمر قصير، وأعظمُ الربح حفظُ الوقت، وخير الغنيمة محاسبة النفس.
عباد الله.. وفي هذا الزمن تكاثرت المشكلات، وتكالبت المغريات والمُلهيات؛ فزاحمت الواجبات ونازعت الأولويَّات، ومن الغريب في طبائع النفوس أنها تلتذ بالخَوْض فيما لا يفيد، وتقطيع الوقت فيما لا ينفع، بل ما أسرعها في تتبع العَوَرات، والاشتغال بالعثرات، وإليكم عباد الله حديثٌ العظيم؛ هو مقياس الأدب، ودليل الورع، ومنهج المحاسبة، ومظهر التقويم والتقوى: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ودخل رجلٌ على أبي دُجانة وهو في مرضه، ووجهه يتهلل ويقول: "ما من عملٍ أَوْثق عندي من شيئين: لا أتكلم في ما لا يعنيني، وقد كان قلبي سليمًا" ومن الاشتغال بما لا يعني: الإفراط في تتبع دقائق الأخبار والأحوال، وتفاصيلها وتحاليلها، لما لا تفيد ولا يُفاد منها، وذلك يُورِث قلَّة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وقسوة القلب، ومَحْق بركة العمر، وحرمان العلم، وقلة الورع، وإن الله تعالى قد كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال.
الاشتغال بما لا يعني: هروبٌ من المسؤولية، وأمارات عجز وكسل، وضعف الصلة بالله، وغفلة عن سننه، وجهل بالمصالح، و(المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما حرم الله)، و(كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّث بكل ما سمع).
وترك ما لا يعني: حفظٌ للدين، وزكاءٌ للنفس، وتربيةٌ على الجِدّ.
[الخطبتان مختصرتان من خطبتين لشيخين، فكان التأليف بينهما]