حفظ الأمانة ومحاربة الفساد
أ.د عبدالله الطيار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هدي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتلك وصية الله جل وعلا للأولين والآخرين، قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}(النساء: الآية).
عباد الله: إن من الأخلاق التي حثت عليها الشريعة ورغبت فيها، بل ووصف الله بها أنبياءه وعباده المؤمنين صفة الأمانة.
فقد وصف الله بها موسى عليه السلام في قوله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
ووصف بها يوسف عليه السلام في قوله تعالى: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54].
وكذلك غيرهما من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث كان كل واحد منهم يقيم الحجة على قومه بوجوب طاعته؛ لأن الله ائتمنه على رسالته، كما في قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 107، 108].
ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهورًا بينهم بأنه الأمين، فكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم، ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَّل عليًّا برد الودائع إلى أصحابها، وجبريل عليه السلام أمين الوحي، قد وصفه الله بذلك في قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194].
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالL أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَامُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ).
وهي (أي الأمانة) من صفات المؤمنين المفلحين، كما في قوله تعالى في وصف المؤمنين: { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [المؤمنون: 1 - 11].
وبهذه الأمانة يحفظ الدين، والأعراض، والأموال، وغير ذلك ، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
عباد الله: وأول ما يفقد من الدين الأمانة فعن شداد بن أوس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفقِدُونَ مِن دِينِكُمُ الأَمَانَةَ) رواه الطبراني وصححه الألباني.
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فقدان الأمانة من علامات الساعة، فروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ).
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن إضاعة الأمانة من علامات النفاق، فروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ).
عباد الله: والأمانة أوسع مما يتصور بعض الناس أنها مقصورة على الودائع، فإنها تشمل أمانة الرجل على كل ما يتعلق بدينه أن يقوم به ويحافظ عليه، فوقت المسلم أمانة، وعرضه أمانة، وماله أمانة عنده، وسمعه وبصره ولسانه أمانة، وجوارحه على وجه العموم أمانة.
ومنها أمانة الراعي على رعيته، والرجل على أهل بيته، والمرأة على بيتها وأولادها، والمدير على موظفيه الذين يعملون عنده، والموظف في وظيفته، والمدرس على طلابه، وبالجملة فإن الأمانة تشمل جميع وظائف الدين، كما قال القرطبي رحمه الله.
عباد الله: ومن الأمانات العظيمة الولايات العامة، كالإمارة والقضاء والرئاسة في أي مكان وغيرها وإن أعظم التضييع لهذه الأمانات في هذه الولايات وغيرها أن يصل الأمر بالمستَأمَن عليها إلى الغِش، روى مسلم أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً؛ يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلاّ حرَّمَ الله عليه الجنة).
عباد الله: ومن أعظم ما تكون الخيانة في الأمانات إذا كانت خيانةً لعباد الله المؤمنين؛ بأكل أموالهم بالباطل ظلمًا وعدوانًا، أو بالكذب عليهم أو خداعهم أو غشهم أو المماطلة في إعطائهم حقوقهم، كل هذا من الخيانة للأمانة.
ومن تضييع الأمانة استغلال الرجل منصبَه الذي عُيِّن فيه لجر منفعة إلى شخصه أو قرابته بما لا يحق له، ومن الصور الظاهرة لذلك التشبع من المال العام، وهذا جريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا؛ فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول) رواه أبو داود، عن بريدة رضي الله عنه، وصححه الألباني.
وقد شدد الإسلام في رفض المكاسب المشبوهة، فعن عدي بن عميرة الكِندي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غُلولاً يأتي به يوم القيامة) رواه مسلم.
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على صدقات بني سُليم، فلما جاء حاسبه وقال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيَك هديتُك إن كنت صادقا؟)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانيَ الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه؛ حتى تأتيَه هديتُه إن كان صادقا، والله لا يأخذُ أحدٌ منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خوار، أو شاةً تيعر)) ثم رفع عليه الصلاة والسلام يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: ((اللهم بلغت)) رواه البخاري ومسلم.
اللهم اجعلنا ممن إذا اؤتمن أدى الأمانة، اللهم إنا نعوذ بك من الخيانة وسائر الصفات الذميمة،
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: أي فوز ، وأي نجاة ، وأي نصر يرجوه المسلم عندما يتعامل مع إخوانه المسلمين ، بالخيانة ، وعدم الأمانة ، بل بالكذب والغش والتدليس والسرقة ، إن التفريط في الأمانة ، وصمة عار في جبين المفرط ، ووسام ذل وخيانة ، يحيط بعنقه ، وأي خسارة أعظم من أن يكون المسلم في عداد المنافقين ، لقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المفرط في الأمانة ، والخائن فيها هو في عداد المنافقين الذين توعدهم الله تعالى بأقسى العقوبة ، وأسفل مكان في النار ، فقال تعالى : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً " فاحذروا عباد الله من سوء العاقبة ، وخطر الخيانة والكذب على المسلمين .
عباد الله: إذا كان هناك من يخون الأمانة فلابد من وجود من يقاوم هذا الفساد ولو ترك لهلكنا ولهلك الناس جميعاً فترك الإصلاح هو سبب كل نقمة، وأساس كل بلية، وعنوان كل شقاء قال الله تعالى : ﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ﴾ [الأعراف 56 ] أي ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم.
إن الصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد والإفساد طريق للعزة، وسبيل للكرامة، وعنوان للفلاح، ورفعة للأمم، وحفظ للشعوب، وكسب لمرضاة الواحد الأحد، ونجاة من عقابه: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾ [هود:116]، وإن الحاجة إلى الإصلاح من الأمور الملحة في حياة الفرد والأمة: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود:117].
عباد الله: يجب أن يكون المسلم صالحا ومصلحا في مجتمعه، ونفسه، وبيته، وبين أسرته، يسعى بكل ما يستطيع إلى إغلاق أبواب الشر والإفساد، ويسعى إلى كل خير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).