حضن الأمهات
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) ..أَمَّا بَعْدُ:
هو المكانُ الذي يترعرعُ فيه الرِّجالُ، بل هو المصنعُ الذي يُصنعُ فيه الأبطالُ، هو المدرسةُ التي تُدَّرسُ فيها الأخلاقُ للأجيالِ، وهو الجامعةُ التي تتحقَّقُ فيهِ مُستحيلاتُ الآمالِ .. هو مصدرُ الجَمالُ، هو منبعُ الجلالِ، هو مبلغُ الكَمالِ .. فهل علمتم من هو المقصودُ بالمَقال؟ .. إنَّه حِضنُ الأمَّهاتِ.
ولم أَرَ للخَلائقِ مِنْ مَحلٍّ *** يُهذِّبُها كحِضنِ الأُمَّهاتِ
فحِضْنُ الأمِّ مَدرسةٌ تَسامتْ *** بتَربيةِ البنينَ أو البَناتِ
وأخلاقُ الوَليدِ تُقاسُ حُسناً *** بأَخلاقِ النِّساءِ الوَالداتِ
أتذكرُ عندما كُنتَ تَجلسُ في حِضنِها؟، هل كُنتَ تشعرُ بأنَّكَ ملكٌ من الملوكِ على عَرشِ مُلكِهِ؟، مكانٌ يُشعرُكَ بالطُّمأنينةِ والأمانِ، مكانٌ يشحنُ فيه الطِّفلُ العِزَّ والإحسانَ، أتذكرُ ذلكَ اللِّسانَ الذي لا يَفترُ عن الحمدِ والذِّكرِ؟، أتذكرُ ذلكَ القلبَ المليءَ بالثَّناءِ والشُّكرِ؟، أتذكرُ تلكَ اللياليَّ الخَاليةَ؟، عندما تُفرشُ فيهِ تلكَ السَّجادةُ البَاليةُ، أتذكرُ تلكَ الدَّعواتِ الغَاليةَ؟، فكيفَ أصبحتَ أنتَ ذلكَ الرَّجلَ لَولاها؟، وكيفَ وَصلتَ إلى النَّجاحِ لولا دُعاها؟، فأخبروني عن أحوالِ الأمَّهاتِ، أخبرُكم عن الأجيالِ القادماتِ.
يقولُ: حَفظتني أُمِّي القُرآنَ وعُمري عَشرَ سَنواتٍ، وكانتْ تُوقظني قَبلَ صَلاةِ الفَجرِ، وتٌجهزُ لي الماءَ، ثُمَّ تَتخمرُ وتَتغطى بحجابِها، وتَذهبُ معي إلى المسجدِ لأنَّه بَعيدٌ، يقولُ: فَلما بَلغتُ السَّادسةَ عَشرةَ من عُمري، قَالتْ لي أُمي: اذهبْ في طَلبِ الحديثِ؛ وأَعطتني مَتاعَ السَّفَرِ، عَشرةَ أَرغفةَ شَعيرٍ، ووَضعتْ مَعها صُرةَ مِلحٍ، وقَالتْ: يا بُنَّي إنَّ اللهَ إذا استُودعَ شَيئًا لا يُضيِّعَه أَبدًا، فأستودعُكَ اللهَ الذي لا تَضيعُ وَدائعُه، فأَخرجتْ هذه الأمُّ لأمَّةِ الإسلامِ إمامَ أهلِّ السُّنَّةِ الجماعةِ .. إنَّه الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلَ.
ولما أَرسلَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ إلى والدتِه رِسالةً يَعتذرُ إليها عن إقامتِه بمصرَ، لأنَّه يَرى ذَلكَ أَمرًا ضَروريًا لتعليمِ النَّاسِ الدِّينَ، جاءَه الردُّ من والدتِه: (يا أحمدُ .. واللهِ لمثلِ هذا رَبيتُكَ، ولخدمةِ الإسلامِ والمسلمينَ نَذرتُك، وعلى شَرائعِ الدِّينِ عَلمتُك، ولا تَظننَّ يا وَلدي أنَّ قُربَكَ مِني أَحبُّ إليَّ من قُربِكَ من دِينِكَ وخِدمتِك للإسلامِ والمسلمينَ في شَتَّى الأمصارِ، بل يا وَلدي إنَّ غايةَ رِضائي عَليكَ لا يَكونُ إلا بقدرِ ما تُقدمُه لدينِك وللمسلمينَ، وإنِّي يا وَلدي لن أَسألَكَ غَدًا أَمامَ اللهِ عن بُعدِك عَني، لأَني أعلُم أينَ، وفِيمَ أَنتَ، ولكن يا أحمدُ سأسألُكَ أمامَ اللهِ، وأُحاسبُك إن قَصَّرتَ في خِدمةِ دينِ اللهِ، وخِدمةِ أتباعِه من إخوانِكَ المسلمينَ)، فعجباً من مثلِ هذهِ الأمَّهاتِ .. وصدقَ القائلُ:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها *** أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
وكانتْ أمُ السُّلطانِ محمدٍ الفاتحِ تَأخذُه وهو صَغيرٌ وقتَ الفجرِ؛ ليُشاهدَ أَسوارَ القِسطنطينيةِ، وتَقولُ لَهُ: أَنتَ يا مُحمدٌ تَفتحُ هذهِ الأسوارَ، فاسمُكَ مُحمدٌ كما قَالَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلمَ، ومُحمٌد الصَّغيرُ يَقولُ: كَيفَ يا أُمي أَفتحُ هذه المدينةَ الكَبيرةَ؟، فتَردُّ قَائلةً: بالقرآنِ والسُّلطانِ والسِّلاحِ وحُبِّ النَّاسِ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
الأمُّ كانتْ ولا زالتْ هي خيرُ الأصحابِ، وهي أقربُ الأحبابِ، كانتْ هي نورُ البيتِ، الذي إذا خرجتْ منه أظلمَ منه كلُّ شيءٍ، مُنيبةً إلى ربِّها، طائعةً لزوجِها، مربيةً لولدِها، وكما أنَّ جنَّةَ الآخرةِ تحتَ قدميها، فجنَّةُ الدُّنيا في حِضنِها، أتذكرُ عندما كُنتَ تضعُ رأسَكَ في حُضنِها؟، كانَ ذلكَ الحِضنُ بالنسبةِ لنا ونحنُ صِغارٌ، دواءَ المريضِ، ونهايةَ الأوجاعِ، وسَعادةَ المحزونِ، وتسليةَ المُصابِ، في ذلكَ الحِضنِ كانتْ تَتلاشى الأخطارُ، وتُبثُّ الأسرارُ، وتنهمرُ من العينِ الدُّموعُ، وتُوقدُ بعدَ الظُّلماتِ الشُّموعُ.
فإذا رأيتَ الرَّجلَ مُكتَملاً في دينِه وأخلاقِه، ورأيتَه ناجحاً في دُنياهُ وآخرتِه، فاعلمْ إنَّ له أمَّاً صالحةً، ربَّتهُ في حِضنِها العظيمِ، ومَدَّتهُ بدعائها الكريمِ، فها هو يتقلَّبُ بسببِها من نعيمٍ إلى نعيمٍ، قد رضعَ منها الدِّينَ والأخلاقَ، وشَحنَ منها الحبَّ والأشواقَ، وإذا رأيتَه غيرَ ذلكَ فقد يكونُ مِسكيناً ممن قد ترَّبى في حِضنِ خادمةٍ، فمن أينَ له أن يكتسبَ الأمنَ والحنانَ؟، ومن أينَ له بناءُ الشَّخصيةِ والاتِّزانُ؟.
فكيفَ نَظُـنُّ بالأبنـاءِ خَيـراً *** إذا نَشأوا بحِضنِ الخَادماتِ؟
فيا أيتُّها الأمَّهاتُ .. إن كانوا يقولونَ قديماً: (وراءَ كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأةٌ)، فنحنُ نقولُ اليومَ: (وراءَ كلِّ جيلٍ عظيمٍ أمَّهاتٌ صالحاتٌ)، فالرِّهانُ اليومَ على الأمِّ، والمستقبلُ بيَدِ الأمِّ، فأيُّ جيلٍ ستُقدمينَهُ للأمَّة؟.
اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا وسائرِ أهلينا، اللهم مَن كانَ مِن آبائنا وأمهاتِنا وأَهلينا ميْتًا فامنُن عليه بعفوك ومغفرتِك ورضوانِك، واجعله في قبرِه مُنعَّمًا، ومِن كانَ مِنهم حيَّا فأعنه على طاعتِك، وارزقنا بِرَّه وإسعادَه، واختم لنا وله هذه الحياةَ بخيٍر، اللهم أصلحْ نساءَنا ونساءَ المسلمينَ، وأبناءَنا وأبناءَ المسلمينَ، وسلِّمهم مِن الفتنِ والشُّرورِ، وخُذ بأيديهم إلى الخيرِ والرُّشدِ، والسِّترِ والعِفَّةِ والفضيلةِ، اللهم ارفع الضرَ عن المتضررينَ مِن المسلمينَ في كلِّ بلادٍ، اللهم وفِّق ولاةَ أمورِ المسلمينَ إلى نَصرِ التوحيدِ والسُّنةِ، وقمْعِ الفسادِ والرذيلةِ، وخُذ بنواصيهم إلى ما يُرضيك، ويُعلي أمْرَ الإسلامِ والمسلمينَ، إنَّك سميعُ الدعاءِ.
المرفقات
1611117300_حضن الأمهات.docx
1611117306_حضن الأمهات.pdf