حصن الحجاب
راكان المغربي
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
هكذا بدأ اللهُ سبحانه وتعالى سورةَ النور، بكلماتٍ حاسمةٍ، وإعلانٍ بينٍ، عما ستتضمنه هذه السورةُ من الفرائضِ الواجبة، والحدودِ الرادعة، والشرائعِ المحكمة..
آياتٌ بيناتٌ تَشِعُّ نورا وهدىً، حين يعمل بها المجتمعُ المسلمُ، يعمُّ شعاعُ ذلك النورِ على الأرواحِ والأجسادِ، والقلوبِ والعقولِ، فيسعدُ المجتمعُ بالطهرِ والفضيلةِ، ويُحفظُ بحصونِ العفافِ والستر. وحين يفرّطُ فيها المجتمع، تتسرب إليه خيوطُ الظلام، ويتساقطُ عليه ركامُ الرذيلة.
واليومَ نقفُ مع أحدِ تلك الآياتِ البينات، التي تنير دربَ المجتمع، وتبددُ ظلماتِه..
إنها الآيةُ التي أحدثت نُقلةً بعيدةً من ظلامِ الجاهليةِ إلى نورِ الإسلام..
إنها الآيةُ الخالدةُ التي تقرأُ كلماتِها في المصحف، وتبصرُ تطبيقاتِها في تاريخِ الإسلام وحاضرِه. بها يُعرفُ المجتمعُ المسلمُ من غيره، وعلى أُسُسِها بُنيتْ لبناتُ حصونِ الفضيلة..
إنها آيةُ الحجاب!
تلك الآيةُ التي ما إن نزلتْ على نساءِ الصدرِ الأولِ، حتى تَلَقَّينَ الأمرَ الربانيّ، فتحول مباشرةً إلى واقع عمليّ، طبقوا الفريضةَ الإلهيةَ رضاً وتسليماً لله، حتى صارت إحداهن تشقُّ من جلبابِها لتصنعَ به الخمارَ وتتحجب به إذعاناً لأمر الله.
تقول عائشة رضي الله عنها: " يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ؛ لَمَّا أنْزَلَ اللَّهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بهَا".
وتقول أم سلمة رضي الله عنها: "لمَّا نزلت: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرجَ نساءُ الأنصارِ كأنَّ علَى رؤوسِهِنَّ الغِربانَ منَ الأَكْسِيَةِ"
لقد رضينَ بالله ربا فأطعْنَ أوامرَه، ورضين بالإسلامِ ديناً فكانت شريعتُه صبغةً لهنّ..
ومنذ ذلك الزمنُ في القرنِ الأولِ وحتى زمانٍ قريب، لم يكن يُتصورُ أن تمشيَ أي بلدٍ من بلدانِ العالمِ الإسلاميّ شرقا أو غربا، فتجدَ فيه امرأةً تخرجُ من بيتِها بغيرِ حجاب. فالحجابُ هو سمةٌ لازمةٌ للمرأةِ المسلمةِ لا ينفكُّ عنها.
وظل الأمرُ على ذلك حتى غزا الاستعمارُ بلادَ المسلمين، وسيطرت الثقافةُ الغربيةُ المنحلّةُ على عقولِ كثيرٍ من الفتيات، فزينت لهنَّ السوء، وهوّنت عليهنّ مخالفةَ أوامرِ اللهِ ورسولِه، فخلعت كثيرٌ من المسلماتِ الحجابَ، حتى أصبحت مناظرُ تفسخِ النساءِ شائعةً في جلِّ أقطارِ الإسلام، ولم يَعُدْ شعارُ الإسلامِ ظاهراً على كثيرٍ من النساء، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله
لقد فرض اللهُ الحجابَ على نساءِ المؤمنين، وبين الحكمةَ منه فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)
فالحجابُ إنما شرعَ حمايةً للمرأةِ من الأذى، فحين تتحجبُ المرأةُ فإنها تُعرف بطهرِها وعفافِها وحشمتِها، فتقطعَ بذلك الطريقَ على الطامعين، الذين يتربصون بها تحرشاً وإيذاءً، ليخدشوا عفتَها وطهرَها.
بدون الحجاب! ستصبح المرأةُ لقمةً سائغةً لكلّ طامعٍ، وسلعةً مستباحةً لكل محتال.
المرأةُ بطبيعةِ خِلْقَتِها يجتمعُ فيها معاقدُ الجمال، وأسرارُ الجذب، في جسدِها وزينتِها، ومنطقِها ورونقِها. مما يجعلها محطَّ الأنظار، ومطمعَ الرجال، تتطلعُ إليها نفوسُهم، وتنجذبُ لها عقولُهم.
وإن من حكمةِ اللهِ وكمالِ تشريعِه، أن فرضَ على المرأةِ الحجابَ وإخفاءَ الزينةِ عن غير زوجِها ومحارمِها، حتى لا تكون حمىً مستباحاً تمتدُّ إليها أيادي الطامعين، فتفقدَ رونقَها، ويَبْهُتَ لمعانُها.
يقولون في المثل: "المالُ السائبُ يعلمُ السَّرِقة".
ويعني ذلك أن المالَ عندما يُتركُ بلا حفظٍ ولا حماية، فيظهرُ للقريبِ والبعيدِ، ويسهلُ أخذُه في السرِّ والعلن، فإن ذلك مدعاةٌ لأَنْ يُطَمِّعَ به النفوسُ. حتى إن كانتْ تلك النفوسُ لم تفكرْ قبل ذلك في السرقةِ والنهبِ، فإن هذه الطريقةَ حريةٌ بأن تُقَوّيَ الطمعَ، وتُفجّرَ مكامنَ الشرِّ عند كثيرٍ من الناسِ الذين لم تردْ السرقةُ على أذهانهم أصلاً.
فكذلك المرأةُ عندما تخلعُ حجابَها، وتخرجُ بكاملِ زينتِها، فإنها بذلك تستثيرُ الشهواتِ الكامنةِ، وتُهَيِّجُ النزعاتِ المخبوءةِ، حين ترى النفوسُ الفتنةَ معروضةً أمامَها، فتفكرَ فيما لم تفكرْ فيه من قبل.
لذلك كانت شريعةُ الحجابِ بمثابةِ حائطِ سدٍّ منيعٍ حصينٍ يقي المرأةَ من سُرّاقِ العفةِ، ويقي الرجلَ من الاستثارةِ المستمرةِ، والاندفاعِ الشهوانيِّ غيرِ الرشيد.
وحين يُهدمُ سدُّ الحجابِ المنيع، تبدأ أولُ خطواتِ الانحدارِ إلى ما بعده. فحين تنزعُ المرأةُ خمارَها، وتكسرُ حصنَ عفتِها، فإنه لا شيءَ يحجزُها بعد ذلك أن تنزعَ عباءَتها، ثم بعد فترة تنزعَ أطرافَ لباسِها، ولن تنتهيَ دركاتُ الانحدارِ حتى تصلَ إلى ما وصلت إليه كثيرٌ من النساء في بلدانِ الشرقِ والغرب، من التعرّي الفاضحِ الذي يتبعه الفاحشةُ المشاعة، والسعارُ الشهوانيُّ الذي لا ينطفئ ولا يرتوي.
تلك هي النهايةُ المحتومةُ لخلعِ الحجاب، نقرؤُها في التاريخ، ونلمسُها في الواقع. ولا سبيلَ لإيقافِ المدّ إلا بالعودةِ إلى حصنِ الحجاب، والاعتزازِ بشريعةِ الإسلام، والالتزامِ بفريضةِ الرحمن.
عباد الله
إن حجابَ المرأةِ ليس ظلاميةً ولا رجعيةً، بل هو قبسٌ من نورٍ شرعه اللهُ في سورةِ سماها سورةَ النور، وهو صورةٌ من صورِ الرقيِّ الأخلاقيِّ الذي جاء به الإسلامُ ليعلوَ به على انحطاطِ الجاهلية. قال سبحانه: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ).
قال السعدي: "أي: لا تكثرْنَ الخروجَ متجمّلاتٍ أو متطيّباتٍ، كعادةِ أهلِ الجاهليةِ الأولى، الذين لا علمَ عندهم ولا دين".
فالتفسّخُ هو الجهلُ، والعريُّ هو الرجعيةُ، والانجرارُ وراء الشهواتِ بغير ضابطٍ هو الانحطاطُ من مرتبةِ الإنسانِ العاقلِ الذي يضبطُ شهوتَه ويرشّدُها، إلى مرتبةِ الحيوانِ الذي يعيشُ مستجيباً لنزواتِه، ملبياً لكل شهواته بلا رادع عقلٍ ولا شرع.
فاللهم وفقنا لاتباع أمرك، والالتزام بشرعك
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
قد يقولُ قائل:
خطبةُ الجمعةُ هي في الأصلِ موجهةٌ للرجال، فلِمَ تحدثُنا عن شريعةِ الحجابِ التي تخصُّ النساء؟!
ونجيبُ على السائل فنقول:
إن شريعةَ الحجابِ وإن كان ليس على الرجالِ الالتزامُ بها، لكنها تتعلق بالرجالِ من عدة جوانب:
من جانبِ أن الرجلَ هو القَيِّمُ على المرأة، ومعنى القِوامةِ لا يقتصرُ على سلطةِ الأمرِ في البيت، بل هو يشمل القيامَ بمسؤوليةِ التربيةِ والتعليم. وهكذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يربي أصحابَه على أن يكون لهم مسؤوليةٌ في تعليمِ أهليهم وتربيتِهم، فكان يقول لهم: (ارْجِعُوا إلى أهْلِيكُمْ، فأقِيمُوا فيهم، وعَلِّمُوهُمْ ومُرُوهُمْ، وصَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).
فالرجلُ حين يرجعُ إلى بيتِه بعدَ الجُمُعة، لا ينبغي أن يرجعَ فيأكلَ ويشربَ وينامَ وحسب، بل يرجعُ ليبلغَ أهلَه الدين، ويعلمَهم مما تعلّم، ويذكرَهم مما تذكّر.
وإن أعظمَ وسيلةً لتربيةِ نساءِنا وبناتِنا على الحجاب، هي أن نربيَهم على الاستقامةِ على طاعةِ اللهِ ورسولِه، والتسليمِ لشريعةِ الإسلام التي فيها صلاحُ الدنيا وسعادةُ الآخرة، وأن نعلمَهم أنهم بين طريقين:
طريقُ الله، الذي يريد أن يحميَ المرأةَ من الأذى، فيحفظَ بذلك دنياها وأخراها.
والطريقُ الآخرُ هو طريقُ أتباعِ الشهوات، الذين يريدون تحريرَ المرأةِ من حجابِها، ليسهلَ عليهم الوصولُ إليها، وانتهاكُ عفتِها.
(وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)
فإذا غرسنا في نفوسِهن حبَّ اللهِ ورسولِه، ووجوبَ طاعةِ الشرع، فإنه مهما تعرضنَ لهجماتِ المغرضين، ومغرياتِ الفاتنين، فإن ذلك لن يؤثرَ فيهن شيئا، بل سيزدنَ قناعةً بالإسلام، ورضاً باللهِ والرسول، حين يرين عواقبَ التعرّي في أوحالِ الرذيلة.
ومما يجبُ أن يعرفَه الرجلُ القيّمُ على الأسرة، أن يعلمَ أن كلَّ منكرٍ ظاهرٍ يحدثُ في أهلِه فإنه مسؤولٌ عنه، محاسبٌ عما يفعل فيه، فيجبُ عليه أن يغيّرَ هذا المنكرَ بما وهبه الله من القِوامة.
فكما أن الأبَ يفرضُ على ابنته الذهابَ إلى المدرسة ولو كانت تكرهُها، وكما يفرضُ عليها أن تتجرعَ الدواءَ المرَّ ولو كانت تبغضُه، كلُّ ذلك خوفاً على مستقبلِها الدنيوي، فكذلك يجبُ على الأبِ أن يفرضَ على ابنتِه الحجابَ خوفا على مستقبلِها الدنيويِّ والأخرويِّ.
والعجبُ كلَّ العجبِ من رجالٍ يرضون على نساءِهم أن يخرجنَ بكاملِ زينتِهن، منخلعاتٍ من حجابِهن، فماتت الغيرةُ في قلوبِهم، وانتُهِكَتْ محارمُ اللهِ أمامَ أعينِهم، وهم لا تتحركُ فيهم شعرة!
فهؤلاء الرجالِ بتفريطِهم ذلكَ يعرضون نساءَهم لمخاطرِ الدينِ والدنيا، ويساهمونَ في إيقاعِ المجتمعِ في الفتنة، وهم مسؤولونَ عن ذلك أمامَ الله. فليعدوا للسؤال جوابا!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلا كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ... والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِ بَيْتِهِ، وهو مَسْؤُولٌ عنْهمْ)
والحديثُ عن الحجابِ يتعلقُ بالرجالِ أيضا، لأن اللهَ سبحانه وتعالى فرضَ عليهم وعلى النساءِ أيضا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، فحين يرى الرجلُ المرأةَ قد خلعت حجابَها، وأبدت زينتَها، فإنه يستطيعُ أن يعظَها بالحسنى، ويذكرَها بالله، لعلها كانت غافلةً فيوقظَها. وكم من نساءٍ خالعاتٍ للحجاب، لما سمعن الموعظةَ، رجعن إلى الله، واستقمن على فريضةِ الحجاب. فإن لم يستطع أن ينكرَ بلسانه، فلا أقلَّ من أن ينكرَ بقلبِه، فيغضَّ بصرَه عنها، ويتألمَ قلبُه لحالِها. قال صلى الله عليه وسلم: (مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ)
بذلك يساهم الرجلُ في إعادةِ بناءِ حصونِ العفة، فيحفظَ نفسَه، ويحفظَ أهلَه وأولادَه، ويحفظَ مجتمعَه بأسرِه (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
في آخرِ آيةِ الحجابِ نادى اللهُ سبحانه الجميعَ، رجالاً ونساءً، فتياتٍ وفتياناً، فقال سبحانه:
(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
فهل من ملبٍّ وملبّيةٍ للنداء؟!
اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين.
المرفقات
1666196152_حصن الحجاب.docx
1666196153_حصن الحجاب.pdf