حُسْن الظنِّ باللهِ تعالى

حُسْن الظنِّ باللهِ تعالى([1])

الخطبة الأولى

الحمدُ لِلهِ الذي خَلَقنا لِعبادتِه وتوحيدِه، وأنطَقَنا بتحميدِه وتمجيدِه، أحمدُهُ حَمْدًا يَحْلُو بترديدِه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، الذي هو أقرَبُ إلى أحَدِكُم من حَبلِ وَرِيدِه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسُولُه، أفضلُ رُسُلِهِ وأكْرَمُ عَبِيدِه، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على عبدِكَ ورسولِك محمد، وعلى آلِه وصَحبِه ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

أما بعد:

فاتَّقوا اللهَ -أيُّها الناسُ- بامتثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نَواهيهِ وزواجِرِه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾([2]).

أيُّها المسلمون:

عن أبي النَّضْرِ حَيَّانِ الأسَدِيِّ قال: دخلْتُ مع واثلةَ بنِ الأسقَعِ رضي اللهُ عنه على أبي الأسودِ الجُرَشِي - وهو سيدٌ من ساداتِ التابعين - في مرضِه الذي مات فيه، قال: فسَلَّمَ عليه واثلةُ وجلس، فأخذ أبو الأسودِ بيمينِ واثلة، فمسح بها على عينيه ووجهِه، فقال واثلة: واحدةٌ أسألُك عنها، فقال أبو الأسود: وما هي؟ قال: كيف ظَنُّكَ بِرَبِّكَ وأنت في هذا الحال؟ كيف ظَنُّكَ بِرَبِّكَ وأنت في هذا المرض؟ فقال له أبو الأسودِ وأشارَ برأسِه: الظنُّ الحسَن، فقال له واثلة: أبشِر؛ فإني سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «قال اللهُ عزَّ وجلّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي؛ فلْيَظُنَّ بي ما شاء»([3]).

فما ظنَنْتَه يا عبدَ اللهِ باللهِ فهو عند ظَنِّك به، إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًّا فشَرّ، ولْتتأمَّلْ حُسْنَ ظنِّ الأنبياءِ والمرسلين برَبِّ العالمين، فإبراهيمُ الخليلُ ­عليه الصلاةُ والسلامُ جُمِعَ له الحَطَبُ مدةَ شهر، ثم أُوقِدَ فكانت نارٌ عظيمةٌ ذاتُ لَهَبٍ مُرتَفِع، وشَرَرٍ عظيم، حتى إن الطيرَ ليَمُرُّ بجَنَبَاتِها فيحتَرِقُ من شِدَّةِ وَهَجِها، فأُلقيَ الخليلُ فيها مَربوطًا من بعيد، فقال وهو في الهواء: (حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل) فماذا كانت نَتيجةُ حُسْنِ ظَنِّهِ بِاللهِ رَبِّ العالمين؟ لقد أمَرَ اللهُ النارَ أن كُوني بَرْدًا وسَلامًا على إبراهيم، كما قال سُبحانه: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾([4]).

وفي مَوقِفٍ آخَرَ حينما سافَرَ الخليلُ عليه السلامُ بزوجتِهِ هَاجَرَ وابنِها إِسماعيلَ إلى وادٍ غيرِ ذي زَرْع، عندَها جِرابٌ فيه طعام، وسِقاءٌ فيه ماء، فتَرَكها ثم أدبَرَ مُوَلِّيًا وجهَه للشام، فأخَذَت هاجَرُ تُناديه: كيفَ تَتْرُكُنا في هذا الوادي وتَرْحَل؟ لكنَّهُ لم يُجِبْها، واسْتَمَرَّت حتى قالت له: آللهُ أمَرَكَ بهذا؟ فأومَأَ بِرَأسِهِ: أنْ نعم، قالت: إذًا لا يُضَيِّعُنا، فنَفِدَ الماءُ والزاد، فأخذت تَصعدُ على جبلِ الصفا ثم تعودُ إلى المروة؛ حتى أخْرَجَ اللهُ من تحتِ قَدَمَيِ ابنِها إسماعيلَ ماءَ زمزمَ المبارك، ووفَدَت عليهم القبائل، جُرْهُمُ وغيرُها، ثم بُنِيَ عندهم البيتُ الحرام، تِلْكُم نتيجةُ حُسْنِ ظَنِّهَا بالله.

وفي مَوقِفٍ ثالثٍ للخليلِ إبراهيمَ حينما بَلَغَ إسماعيلُ معه السعي، فرأى في المنامِ أن يذبحَ ابنَه، قال سُبحانه: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾([5])، فنتيجةُ حُسْنِ الظنِّ بالله ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾([6])، فكانت النُّسُكُ التي تُذْبَحُ في عيدِ الأضحى من أضاحيَ وهَدْيٍ تُذَكِّرُ بذلك المَوقِفِ العظيم.

ومَوقِفٌ آخرُ لنبيٍّ من أنبياءِ اللهِ عزَّ وجلّ: يعقوب عليه السلام، فَقَدَ ابنَهُ يوسفَ عليه السلامُ ثم أخاه، فصبرَ على مِحنتِهِ وبَلْواه، إذْ لم يترُك لليأسِ مجالًا فيُثَبِّطَه، ولا سَرى في عُرُوقِهِ الشكُّ بربِّهِ فيُقنطَه، بل تفاءلَ ورَجا أن يجدَ لمِحنتِه مَخرجا، قال بقلبٍ مِلْؤُهُ اليقين، وإحساسُ الصابرين المتفائلين: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾([7])، فما أجْمَلَهُ من تفاؤُلٍ وأمل، تُعَزِّزُهُ الثِّقةُ باللهِ حين قال لبَنِيه: ﴿يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾([8])، فماذا كانت نتيجةُ حُسْنِ ظنِّهِ بالله عزَّ وجلّ؟ لقد رَدَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه عينَيهِ وولَدَيه.

ونبيٌّ آخَرُ ظَلَّ في المرضِ والبلاءِ سبعَ أو ثمانيَ عشرةَ سنة، فَقَدَ المالَ والعِيالَ والعافية، فماذا فعل بعد ذلك وماذا قال؟ قال سُبحانه عنه: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾([9])، فماذا كانت ننتيجةُ صبرِه وحُسْنِ ظنِّهِ بربِّه؟ قال سُبحانه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾([10]).

وأما نبيُّ اللهِ زكريا فقد نادى رَبَّه، وتأمَّلْ: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾([11])، رجل كبير، وشيخٌ قد بَلَغَ من العُمُرِ عِتِيَّا، وقال عن امرأتِه: ﴿وكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾([12])، فتجَمَّعَت الأسبابُ التي يكونُ الإنجابُ فيها مُستحيلًا في عُرْفِ الأطباء، فالزوجةُ عجوزٌ عاقِر، والرجلُ كبيرٌ وشيخٌ عقيم، ومع ذلك نادى فقال: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾([13])، فانظُرْ حُسْنَ ظنِّهِ بربِّه جَلَّ وعَلا، فنادتهُ الملائكةُ وهو يُصَلِّي في المحراب: ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾([14]).

أما الكليمُ موسى عليه السلامُ فقد خرج بقومِهِ بني إسرائيلَ فِرارًا من فرعونَ وقومِه، حتى وصلَ بهم البحر، وليس لديهم ما يركبونَه، وفرعونُ قد حَشَرَ جُندَهُ والناسَ معه، وخرج يَتْبَعُ موسى ومَن معه ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾([15])، فماذا كانت نتيجةُ حُسْنِ ظنِّهِ بربِّه؟ قال سُبحانه: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾([16])، بحرٌ يَنْشَقُّ لموسى؟! نعم؛ لحُسْنِ ظنِّهِ بربِّه، قال سُبحانه: ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾([17]).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريم، وفي سنةِ سيدِ المرسَلين، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفِرُوهُ إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾([18])، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسُولُهُ الداعي إلى اللهِ على بصيرةٍ هو ومَن اتَّبَعَه، بَلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانَة، فصلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليه، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.

أما بعد:

فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، واجعلوا في حياتِكم التفاؤلَ والأمل، وأحسِنوا الظنَّ باللهِ عزَّ وجلّ، ولا تركَنُوا إلى اليأسِ والفشل، واستعينوا واعتصموا وتوكَّلوا على الله ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾([19]).

عبادَ الله:

في مَوقِفِ الهِجرةِ كان نبيُّنا محمدٌ ﷺ حَسَنَ الظنِّ بالله، قال سُبحانه: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾([20])، يقول أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه: نَظرتُ إلى أقدامِ المشركين، فقلتُ: يا رسولَ الله، لو نظر أحدُهُم إلى مَوضِعِ قَدَميْهِ لأبْصَرَنا، فقال رسولُ الله ﷺ: «يا أبا بكر: ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثالِثُهُما؟!»([21]).

فلا تَحزن أيُّها المسلمُ مما تسمعُ وترى مما يجري لأهلِ الإسلام، وقُلْ: إن اللهَ مَعَنا.

لا تَحزن أيُّها الفقيرُ والمسكينُ مما جرى عليك، وقُلْ: إن اللهَ مَعَنا.

 

لا تَحزن أيُّها المَغمومُ والمَقهور وقُلْ: إن اللهَ مَعَنا، فمَن ظَنَّ باللهِ خيرًا أدهشهُ اللهُ بكرَمِهِ ورحمتِه، ثِقْ تمامًا بأن اليدَ المُمْتدَّةَ إلى اللهَ لا تعودُ فارغةً حين يعلَمُ اللهُ أنك لا تَرْجُو فَرَجًا من غيرِه؛ ثِقْ أن اللهَ لن يَتَخَلَّى عنك أبدا، اطْلُبْ من الله، هو المُعطي، هو الرازق، هو الوهاب، الغافرُ الذنبِ سُبحانه وتعالى.

صَلُّوا بعد هذا على النبيِّ المُصطفى، والرسولِ المُجتبى، محمدِ بنِ عبدِ الله، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على عبدِكَ ورسُولِكَ محمد، وبارِك عليهِ وعلى آلِه الطيبينَ الطاهرين، وعلى زوجاتِهِ الطاهراتِ أُمَّهاتِ المؤمنين، وارْضَ اللهُمَّ عن خُلَفائِهِ الراشدين، الأئمةِ المَهْدِيِّين: أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن سائرِ الصحابةِ والتابعين، ومَن تَبِعهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.


 



([1]) أُلقيت في 6/6/1444ه.
([2]) الأحزاب: 70-71.
([3]) أخرجه الإمامُ أحمدُ في مسنده (16016) وابنُ حِبان (633) والحاكم (7603) وقال: (حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه).
([4]) الأنبياء: 69-70.
([5]) الصافات: 102-107.
([6]) الصافات: 107.
([7]) يوسف: 83.
([8]) يوسف: 87.
([9]) الأنبياء: 83.
([10]) الأنبياء: 84.
([11]) مريم: 3-4.
([12]) مريم: 5.
([13]) مريم: 5.
([14]) مريم: 7.
([15]) الشعراء: 61-62
([16]) الشعراء: 63.
([17]) الشعراء: 65-66.
([18]) الأعلى: 2-5.
([19]) الطلاق: 3.
([20]) التوبة: 40.

([21]) أخرجه البخاري (4663) ومسلم (2381) واللفظ له، من حديث أنس رضي اللهُ عنه.

المشاهدات 430 | التعليقات 0